عبـــــــدالله خلــــــــيفة : تطور الأنواع الأدبية العربية

#معرض_أبوظبي_الدولي_للكتاب_2021

#دار_نينوى_للدراسات_والنشر  #قاعة_8  #جناح_E02

#دار_نينوى_للدراسات #دار_نينوى

#عبـــــــدالله_خلــــــــيفة

#الرواية_في_البحرين

#الرواية_البحرينية

تمثلُ الأنواعُ الأدبيةُ قضايا جوهرية في الأدب، فهي تعبرُ عن قدراتِ شعبٍ أو أمةٍ ما على التطور الثقافي على مدى قرون، فليستْ هي بناءاتٌ شكلانيةٌ ترصفُ الكلام وتجمعُ المعاني في (قوالب) لكنها تعبيرٌ عن قدراتِ المبدعين والنقاد على الحراكِ التحويلي لمجتمعاتهم، أي على مدى تمكنهم من إقامة علاقاتٍ عميقةٍ مع البشر وجذورهم الدينية والثقافية والاجتماعية وتغييرها تبعاً لخُطى التقدم، ومجابهة قوى التخلف والإستغلال والتهميش للناس، وتصعيد القدرات على الحوار والبحث والتجديد.

أي هو التحولُ من هيمنةِ الصوتِ الواحد إلى تعدديةِ الأصوات، ومن سيادةِ الأنا المركزيةِ الاجتماعية إلى تنوع الأفراد وقدرتهم على الحوار والنقد والتغيير.

وإذا كانت صناعةُ الأنواعِ الأدبية تخضعُ للأفعال الحرة للمبدعين فإنها لا تستطيع أن تقفزَ على الظروف الموضوعية للواقع والناس. وهيمنةُ نوعٍ أو وجود كافة الأنواع هي قضيةٌ مركبةٌ من الذاتي والموضوعي، من سيطرةِ قيودٍ تعبيرية قَبْليةٍ ومن مساهماتٍ تحريرية لنزع تلك القيود. من آفاق مرصودة سلفاً نتاج سابقين ومن قدرة المعاصرين على تغييرها تبعاً لتطور الحياة والمساهمة في تغييرها.

والمبدعون يظهرون في شروط سابقة على إبداعهم، إنها تقيدهم وتجعلهم يعيدون إنتاج الماضي الثقافي أو يضيفون عليه بعض الإضافات اليسيرة والمهمة غير التحويلية الواسعة.

ومن هنا فظهور الشعراء في عالم العرب الجاهلي يختلف عن ظروف أخرى تالية حين حدثت نهضة، فسيطرةُ الصحراءِ والحياةِ الرعوية، هي غيرُ ظهورِ المدنِ وميلادِ دولةٍ واسعةٍ تختلطُ فيها الشعوب.

لكن إن تبقى الهياكلُ الإبداعيةُ الجاهلية في عمقِ المدن وتسيطرَ على الإنتاج فهي أيضاً هيمنة قَبْلية قَبَلية مستمرة.

وقد طُرحتْ بقوةٍ مسألةُ قصورِ الأنواعِ الأدبية على نوعٍ واحد بشكلٍ كبيرٍ هو النوع الشعري، ضمور النوعين الآخرين وهم النوع الملحمي والدرامي، وهي قضية ليست تجريدية بل قضية تاريخية وإجتماعية وفكرية طويلة ومعقدة.

يمثل النقدُ الثقافي عموماً قوةَ تفكيرٍ كبيرة غدتْ شيئاً فشيئاً معطلة، وكان يمكن أن ترفدَ الأدبَ والثقافةَ عموماً بطاقاتِها لكي يزدادَ الأدبُ والثقافةُ تأثيراً في الواقع لكن النقد توقف عن هذه العملية الضرورية، فما هي الأسباب؟

كان من الضروري لهذه القضية أن تُحلل بعمق ويُرى على ضوئها تخلفُ وجمودُ الأبنية الاجتماعية- الثقافية العربية، وهذا لا يمكن أن يكون بدون نقد فلسفي له شروط كبرى، أن أي أن يقوم على فلسفة تقرأُ الثقافةَ في ضوء البنى الاجتماعية وسيرورتها التاريخية.

هذا كان يمكن أن يحدث في الثقافة العربية الحديثة ويتم قراءة الأنواع وجمودها في العصر العربي القديم وأسباب تشكلها في العصر الحديث.

يقول ناقدٌ عربيٌ كبيرٌ هو إحسان عباس الذي استفاد كثيراً من (النقد الأمريكي والنقد النفسي لدى فرويد والأسطوري لدى كارل يونغ) يقول بأن الاقتراضَ الشديد من الغرب على هذا النحو (يجعل الدارس يقع في وهم فكري مزدوج: يتكشفُ الأولُ في إغفالِ التاريخ الثقافي العربي، ويتجلى الوهمُ الثاني في جهلِ التاريخ الكوني للآخر).. وهو أمرٌ في رأيهِ يقودُ إلى (التبعية الثقافية أو يفضي إلى المحاكاة الصماء)،‹1›.

يتحسسُ الباحثون العربُ الإشكاليةَ المركبةَ في تبعيةِ ثقافتنا للعصر الوسيط ببنائه الإقطاعي، المستمر حتى الآن، وتبعيتها كذلك لما يُطلق عليه بعضهم (الآخر)، وهذا التعبير تجريدٌ آخر معاكس للماضي، فلا يقولون بأن الآخرَ هو النظام الغربي الرأسمالي.

لكن التعميم على الجهتين يقودُ إلى سلسلةٍ طويلة من الأخطاء، لأن ثقافتنا العربية القديمة مرت بعدةِ أطوار وأبنية، ولكلٍ منها واقعٌ خاص، وكانت تعيشُ تطورات ومراحل كبيرة، فالتعميمُ المنطلقُ منها، خاصة حين يساوونه بـ(الشخصية العربية) أو بـ(الذات العربية)، يقودُ إلى كوارث تحليلية.

فالشعرُ الجاهلي لا يُعرف لماذا صار بهذا الشكل ومن أين جاء وما هي علاقاتهُ بالمكوناتِ الفكريةِ والفنية السابقة، والقرآن لماذا هو بهذه اللغةِ والتراكيب والأخطر ما هو دورهُ في عمليةِ الثقافةِ التحولية، ولماذا استمرتْ القصيدةُ المتناقضةُ البناء التقريرية حتى اليوم؟ ولماذا الغيابُ للبناءِ المسرحي في الثقافة والبناء الدرامي في الشعر وغياب الملحمة؟

دخلَ النقدُ العربي القديمُ في جوانبِ المحدودِ كالصورِ الجزئية والأغراض وأشكال البلاغة، ثم وجدَ نفسَهُ في العصر الحديث أمام مدارس أوربية كبيرة، فلم تسعفهُ أدواتُ النقد العربي القديم، ليس فقط لضخامةِ الإنجازاتِ الغربية التي تشكلتْ خلال قرون النهضة والثورة الصناعية والعصر الحديث، بل لأن واقعَهُ العربي المتعدد راح هو الآخر يتغير ويصارع، فبدأت الآدابُ والفنونُ العربية في الازدهار في واقع متخلف اجتماعياً!

وككلِ نتاجِنا وسياستنا وقع بين دكتاتوريتين؛ دكتاتورية الماضي المبهمة والمتجسدة في البناء الثقافي، وفي دكتاتورية الحداثة الغربية، التي تفرضُ نفسها عبر أنماطٍ سائدةٍ قوية فتشلُ الوعي العربي عن أن يكون وعياً عربياً ديمقراطياً.

وكي نعرف إننا واقعون بين دكتاتوريتين ثقافيتين، يحتاجُ ذلك إلى فحصٍ على مستوى الماضي ومستوى الحاضر، أي القيام بنقدٍ مزودجٍ على ضفتي الزمان والمكان.

حين نقرأ فقط القصيدة الجاهلية سوف نقول لماذا الانحباس في الشكل المضطرب الممزق الانعكاسي المباشر؟ أي لماذا عجز العربُ عن إنتاج شعر أكثر تطوراً من هذا؟

وهو أمرٌ لا يتضحُ إلا في قراءةِ السياق التاريخي، بكون القصيدة العربية الجاهلية هي نتاجُ شعبٍ محبوس ممزق في هذه الصحارى الهائلة المجدبة، وبإدراكِ إن هذا الجنسَ الأدبي (الشعر الجاهلي) هو أرفعُ ما أنتجهُ هذا الشعب بعد انحباسهِ وتقطع صلاتهِ بالشمالِ، السامي، لغةً ومكاناً وتلاقحاً واسعاً، وهو أمرٌ يربطنا بتدهور الأنواع الأدبية والفنية في الشمال (العراق، وسوريا، ومصر)، فلا بد أن نقرأ فضاءَ الآداب والفنون في الحضاراتِ القديمةِ التي عجزتْ عن تنامي التطور فيها، وعن نمو أنواع: الملحمة وبالتالي النقد وغياب المسرح.

وبهذا كان النتاجُ الثقافي العربي الجاهلي هو وليدُ ظروفِ العزلةِ والتخلف المزدوج، فالاستبدادُ الطويلُ الذي أصابَ الحضارات القديمة والذي كانت إحدى سماته تحجر الآداب، انتقلَ بقوةٍ مضاعفةٍ للجاهليين، ومع ذلك قاموا في تلك العزلةِ النسبيةِ بإنتاجٍ ثقافي يعكس ظروفهم ويعكس كذلك حريتهم البدوية.

بين الغنى الثقافي الذي فجرتهُ ثورة الإسلام وبين الأشكالِ الأدبيةِ والفنية المتيبسةِ التي سادت طوال العصر الأموي، ثم تقطعتْ بفعلِ المدنية العباسية النسبية، عواملٌ من الصراع والتداخل، فقد أضفى الفهمُ الدينيُّ المحافظُ على منتجاتِ الثقافةِ المختلفة عواملَ كبيرةً من الكبح.

فقد قام بأسلمة الشعر الجاهلي، محوراً العديد من الأسماء الدينية والأفكار الوثنية، ثم جعلَ المبنى الفضفاض للقصيدة الجاهلية نموذجاً يُحتذى، وجَمدَّ الأنواعَ الأدبية كما كان متبعاً سابقاً، فغدتْ الفنونُ التجسيديةُ محرمةً كذلك.

ثم حين تطورت الآدابُ والفنونُ في العصر العباسي في المدن النهضوية المؤقتة، فإن تغيراتٍ جذريةً في الأنواعِ الأدبية لم تعدْ ممكنة، وإذا حدثتْ تطوراتٌ كما في الرسم وظهور القصة والمقامة واتساع النقد وتشكل الفلسفة، فإنها تغدو محاطةً بدكتاتوريةِ الماضي الثقافية، ودكتاتورية الحاضر الأموي ــ العباسي الجارية.

وهكذا فإن الضرورةَ تتكشفُ هنا، فالعربُ ورثةُ الدكتاتورياتِ المشرقية القديمة، فهم إذ ينقطعون عن نتاجِ الحضاراتِ المشرقية القديمة الغني في زمنِ التطورات الحضارية الخصوبية، ليس بسبب فقدان اللغات القديمة فحسب، بل كذلك رفضاً للتعرف عليها بإعتبارها وثنية، مثلما يكيفون النتاجَ المترجم اليوناني والهندي حسب وعيهم الديني التوحيدي التجريدي وتبعاً لحاجاتهم في هذا المجتمع النهضوي المتوجه للاختناق بفعل دكتاتوريات السلطات والجماعات السياسية ــ المذهبية المختلفة.

إن النقدَ هو الآخر يتعرضُ لهذا الحصارِ فيحافظُ على شكلانيتهِ العامة، بتقزمِ الأنواعِ الأدبية والفنيةِ فيه، ثم يجمدُ تطورَ القصيدةِ بإبقاءِ مبناها العامِ المضطربِ المحدود، الذي لا يغتني إلا بفعلِ نقدهِ للواقع، وتداخلهِ مع الأنواعِ الأخرى كالدراما والقصة، وهو أمرٌ غيرُ ممكنٍ إلا بشكل تعليمي ساذج.

ليست هذه الأنواعُ الثلاثةُ؛ النوعُ القصصيُّ، والنوعُ الدرامي، والنوعُ الشعري، أنواعاً منفصلةً فحسب، بل هي أنواعٌ متداخلةٌ كذلك، فهي تغذي بعضَها البعض، وعدم وجودها في واقع ما، دليل على مشكلات ثقافية وديمقراطية عميقة فيه.

إن عجزَ النقدِ العربي القديم عن كشف ذلك، هو بسببِ ذلك الغياب الديمقراطي في السياسةِ والثقافة ولظهورِ الدول الإقطاعية المركزية أو المنفصلة، وهو أمرٌ قطعتهُ التجربةُ الغربيةُ حين تم الإحتكاكُ بها في بضعةِ عقود، فتم ذلك من خلال السيطرة الأجنبية.

إن النموَ الداخليَّ العربيَّ لم يكن حراً، فلم ينتجْ الأنواعَ السابقةَ الذكر بانفصالِها وتداخلِها المركب، ولم تتحْ تجربتهُ المقموعةُ خلال تلك القرون، التي لم تزدهرْ بالحريةِ الواسعة أن يصنعَ تلك الأنواع بتلاقحِها وتنوعها، ففوجئ وهو ينمو داخلَ الحياة الحديثة الغربية التي دخلتْ حياتَهُ بقوة في عقودِ الليبرالية، أن تاريخـَهُ الثقافي ناقصٌ ومتخلفٌ في أنواعٍ معينة، فراحَ يستكملُ النقص.

ليس العربُ كلُهم منتجين ثقافيين، فالمنتجون هم أفرادٌ وجماعاتٌ من الفئات الوسطى، التي يتيحُ معاشُها أن تشتغلَ في الثقافة، وهي موزعةٌ بين الدكتاتوريتين: دكتاتورية الماضي، ودكتاتورية الحاضر، فالليبرالية العربية لم تتطور وجاءت الحكوماتُ الشمولية فكبحت التطور، لكن بعض نتاجات الثقافة خلق تطوراته الخاصة المعبرة عن حياة الناس وطموحهم للتغيير.

  هناك عباراتٌ هامةٌ لبعضِ النقاد والباحثين العرب حول تطور الأنواع الأدبية العربية تعبرُ عن إشكالياتٍ متعددةٍ تتعلقُ بتطورِ هذه الأنواع في الحياة العربية، وذلك بفهمِ هذه الأنواعِ عبرَ التاريخِ العربي والعالمي.

يقول الدكتور شوقي ضيف:

(إن الغربيين عنوا في بلاغتِهم بدراسةِ الأساليب والفنون الأدبية، بينما لم يكد يعني بهذه الجوانب أسلافنا، إذ صبوا عنايتهم على الكلمة والجملة والصورة)،‹2›.

ويَضيفُ:

(ولو أن شعراءنا نظموا في أساليب جديدة كأسلوب الشعر القصصي أو المسرحي، أو لو أنهم نوعوا في شعرهم الوجداني الغنائي فأخرجوه من صورته الفردية الذاتية إلى صورة موضوعية واسعة صوروا فيها مجتمعاتهم ونفوس من حولهم لاختلفت أساليب الشعر اختلافاً واضحاً)،‹3›.

وهو يعتبرُ بأن المقامات وهو الفن النثري الجديد (سرعان ما تجمد وفقد كل حيوية، إذ حمله أصحابه من صناعة السجع اللفظية ما قضي عليه قضاءً تاماً)،‹4›.

إن تعبيراتٍ مثل (إن الغربيين اعتنوا في كتاباتهم)، (ولو أن شعراءنا)، تعبرُ عن عدمِ قراءةٍ تاريخيةٍ وموضوعية واسعة لأنواع الأدب، فهل كانت الأنواعُ الأدبيةُ المكوَّنةُ عربياً بفعل ذاتي فردي محض، أم كانت لها سببيات أخرى موضوعية كذلك، فتشابكُ الذاتي والموضوعي في نسيج ظلَّ غائباً في كثير من الأحيان.

وكما أن التاريخَ الثقافي العربي بهذه التصوراتِ فقدَ سيرورتَهُ الكامنةَ المشكلةَ له، كذلك فإن التاريخَ الثقافي الغربي غدا هو الآخر نتاجَ إبداعٍ ذاتي صرفٍ لم تتكون له شروطٌ موضوعيةٌ أهلت لتطوراته تلك.

فتغدو السيرورةُ التاريخيةُ الثقافيةُ في الجانبين العربي والغربي، غيرَ معروفةِ المسار، وإن عدمَ رؤيةِ المسارين المختلفين هو ذاته نتاج رؤية واحدة، حيث تنمو الثقافة في هذه الرؤية بدون شروط موضوعية، فيكفي حسن النوايا لكي يُصحَّح المسارَ الخاطئ الذي لم يصل للنموذج.

وتتوجه كتاباتُ الباحثين والنقادِ العربِ إلى تلمسِ هذه السببيات المتوارية، والتي تتحسسُها بعفويةٍ في بادئ الأمر ثم تتحولُ إلى جهودٍ للمقارنة ولتلمسِ ما تحت الظاهرات المرئية.

كان من العبارات الأدبية الغربية، تلك الآراء التي قدمها فيكتور هيجو في مقدمةِ مسرحيةِ كرومويل؛ (وخلاصتها أن الأدبَ قد تقلبَ مع البشرية في ثلاثة أطوار، فالشعر الغنائي كان في العصر البدائي، والملحمي في العصر القديم، والدرامي في العصور الحديثة)، وعلى هذا يكون ثمة مساران متساوقان، حيث الأدب يقطعُ المسار ذاته الذي يقطعهُ المجتمعُ الذي ينشأ فيه. ومن هنا فإن القولَ بخلو الأدب من الشكل الملحمي والدرامي يعني أن المجتمع العربي وقف عند الطور البدائي الأول من أطوار التمدن البشري.

إن مسألةَ أخطاءِ المفاهيم وقراءة التطور الثقافي العالمي سوف لن تغدو في العصر العربي الحديث عربيةً محضة، بل سوف تتشابكُ مع قراءاتٍ نتجت في بلدان أخرى كفرنسا هنا، ومع شاعر وروائي فرنسي كبير هو هيجو، كانت لديه رؤية خاصة ذاتية لتطور الأنواع الأدبية، لكن هذا التصور سوف يُرحّلُ للبلدانِ العربية وينتشرُ بين مثقفيها وسوف يدرسون على ضوءِ تلك الجملِ تطورَ ثقافتهم.

فهيجو في التصور يقدمُ آراءً ذاتيةً غيرَ مدروسةٍ لتاريخ الأدب العالمي، فهو يقدمُ تصوراً للشعر في الواقع وليس الأدب عامة، أي لنوعٍ فيه وليس لكل الأنواع، ثم إنه يؤرخُ لهذا النوعِ بشكلٍ خاطئ كذلك، فالجنسُ الشعري الملحمي هو الأول والسابق، وبعد ذلك تمخضَّ الجنسان الآخران؛ الدرامي والغنائي، لكن في تطور مجتمع خاص هو المجتمع اليوناني، فليس هو تطور الأنواع الأدبية البشرية كلها، وليس هو تطورها في كل بلد أوربي كذلك.

إن مسارات الأنواعِ الأدبية مختلفةٌ متغايرةٌ بين مجتمعٍ وآخر وفي مراحل هذا المجتمع نفسه.

ثم نأتي لكلمات أخرى عامة كذلك هي أن المؤلفين العرب قد (انتهوا جميعاً إلى أن الأدب العربي قد وقف عند الشكل الأول)، فهنا جملة من الأخطاء، فالأمرُ لا يتعلق بـ(الشكل) بل بـ(الجنس الأدبي) أي الشعر وضروبه، وفي حين أن المقصودَ هو (الأنواع الأدبية) وليس الأجناس، أي إن المقصود مناقشة الأنواع كالشعر والقص والمسرح.

وبهذا فإن العبارةَ المنقولةَ عن هيجو المتعلقةَ بتطورِ الأجناسِ الشعريةِ تغدو عربياً مناقشة للأنواع، وتـُعَّمم بشرياً وعربياً، ومن ثم يُقال بأن العربَ وقفوا عند النوع الأول وهو النوع الغنائي ولم يتطور مجتمعهم.

وبطبيعة الوعي الأوربي المركزي السائد فإن ذلك يُربط بطبيعة (العقل الشرقي)، كما حدثَ في مسألةِ قراءةِ الفلسفةِ وتطورِها العربي، وهذا يغدو تتويجاً لغيابِ القراءةِ التاريخية والتي تبدأ من هيجو حسب مناقشة الفقرة السابقة، الذي قدمَ ترتيباً تعميمياً غيرَ دقيق عن الجنس الشعري، وغدا لدى بعض الباحثين العرب تعميماً نوعياً إنسانياً فشملَ الأدبَ العربي بأنواعه والمجتمع كذلك.

انتجَ سليمان البستاني وروحي الخالدي أفكاراً في بدءِ التحديثِ العربي عن الأنواعِ والأشكال الأدبية، فيها ذات الإشكاليات، فالبستاني يقول في مقدمتهِ لترجمةِ الإلياذة بأن: (العرب قسموا الشعر إلى أبواب منها الغزل والمديح والهجاء والرثاء ونحو ذلك، ومثل ذلك موجود في شعر جميع الأمم، ولكن الأفرنج يحصرون أبواب الشعر جميعاً في بابين: الشعر القصصي (إيبك) والشعر الموسيقي (ليريك): ذلك أنه لا بد للشعر من أن يرمي إلى أحد أمرين: إما بسط أحوال العالم بمظاهره البارزة وإما التعبير عن شعائر (مشاعر) النفس الخافية عن الأبصار وإبراز التصورات الكامنة في الصدور.. فالشاعر القصصي بهذا الاعتبار يعبر عن شعائر غيره والشاعر الموسيقي إنما يعبر عن شعائر نفسه)‹5›.

يحددُ سليمان البستاني قضيةَ الأنواع الأدبية في الشعر ويضعهُ في خطين بطريقةِ أما وأما، وهو منهجٌ تقطيعيٌّ منذ البداية، فأما أن يكون الشعر موجهاً للخارج فيغدو قصصياً وأما أن يتوجه للداخل فيغدو موسيقياً، وهذه التفرقة هي قراءةٌ أولى لمسألةِ الأنواع لكنها دخلت في الأجناس، فالشعرُ جنسٌ من ضمن نوع، والقصة جنسٌ من نوع آخر، وحين يقول البستاني بأن الأوربيين عرفوا هذين (النوعين) فهو يتحدث عن المرحلة الإغريقية والمرحلة المعاصرة، فهو يقصد كما نفهم المسألة الآن بأن الجنسين دخلا النوع الشعري، وعبر ذلك تشكل في الرافدِ الأول وهو الملحمة، وفي الرافد الثاني تشكلت القصيدة الغنائية، حيث إختصتْ الملحمةُ بالتعبيرِ الاجتماعي الواسع، وبتجسيدِ الحياة، وليس أنها لم تهتم بالذات والمشاعر، في حين أن الجنسَ الغنائي تخصصَّ في التعبيرِ عن الذات، وهذا لا يعني عدم تواجد الحياة الموضوعية وتأثيراتها فيه.

ولكن الملحمةَ الإغريقيةَ تشكلتْ شعراً، وهي ليست ذاتَ صياغةٍ نثرية، وبطبيعة الحال فإن القصيدةَ الغنائيةَ هي كذلك، ولهذا فإن وصفَ الجنس الغنائيِّ بالموسيقى هو وصفٌ غيرُ متكامل.

ويقولُ شكري عياد: (ويظهر في هذا البحث بأن البستاني ميال إلى القول بأن العرب في جاهليتهم لم يكونوا مختلفين اختلافاً أساسياً عن غيرهم من الأمم القديمة كاليونان والرومان والهنود)،‹6›.

إن ما وصل إلينا لحد الآن من التراث العربي كما قلنا لا يعطينا دليلاً في هذا، ولا يمنع كذلك أن يكون للعرب ملاحم لم تصل إلينا.

ويضيفُ شكري عياد بناءً على قراءتهِ لمقدمةِ البستاني السابقةِ الذكر: (ويذهب أنهم عرفوا القصص أيضاً، ويستدل بأيام العرب مثل قصة حرب البسوس، ولا يستبعد أنها كانت في الأصل ملحمة ففقدت أجزاءً منها وتفرق ما بقي)،‹7›.

هنا يتضحُ بأن البستاني يتوجهُ للملحمةِ وهي المكتوبةُ شعراً بطبيعةِ الحال، ولكنه يصفُ فترةً لم تظهرْ مثل هذه الملاحم فيها، بل ظهرتْ القصائدُ الغنائيةُ (التي يسميها الموسيقية)، وهي سائدةٌ بشكلٍ كلي، وهو الأمر الذي يدعو للتحليل، عبر الحفر في هذه القصائد وكشف إذا ما كان لها علاقة بالملحمة أم لا، وهو ما سنقومُ بهِ لاحقاً.

ثمة إدراك بكون النوعين الشعري والنثري العربيين في بدءِ تكونهما قد تشكلا بلا مساواة كمية، فالشعرُ هائلُ المساحة بينما النثر محدود، ولكننا ليس لدينا سوى ما حفظتهُ الذاكرةُ العربية بعد قرون من تشكل النوعين، ولدينا هذا الترتيب المُقر السائد بكون الشعر الغنائي العربي هو الأسبق وهو الكم الهائل المحفوظ، وفي خضم ذلك يُقال بأن الشعرَ ديوان العرب.

فهل يعني ذلك إن الشعرَ الملحمي لم يكن موجوداً لدى العرب أو أنه كان ثم اختفى؟

وبطبيعة الحال فإن المقاربةَ لتكوّن القبائل العربية وظهور لغاتها الموحدة أصبحت كلاسيكية وتم الاتفاق بشكلٍ عام على أن الشعر الغنائي هذا له من العمر مائتا سنة قبل الإسلام على الأكثر، وأما ما قبل ذلك فمجهول، وهذا الزمان التقريبي هو الزمان التقريبي لتكون التوحد القبائلي الكبير بين قبائل عدنان من جهة، وقبائل قحطان من جهة أخرى، ثم التقارب القبائلي بينها.

وعبرَ هذه اللغاتِ ــ اللهجاتِ ثم عبرَ اللغةِ الواحدة تشكلَّ هذا الشعر والنثر، وبين النوعين وحدةٌ ما، هي سيطرةُ الموسيقى فيهما، وهو الأمرُ الذي لعبَ دوره في عملية الحفظ.

إضافة إلى ذلك فنحن نقرأ النوعين عبر الرواية الدينية الإسلامية، التي حورت بعض الألفاظ وغيرت في الصياغات وربما أخفت ونحت أشياء عدة بسبب عدم تطابق هذه القصائد أو المقطوعات مع العقلية الدينية السائدة، ولكن نحن لسنا بصدد قراءة المنحول أو الصحيح بل قراءة تطور الأنواع بذات المادة المقدمة والمُعترَّف بصحتها العامة، وقد قادت عملياتُ التغييرِ والنحلِ في الشعرِ الجاهلي بعضَ النقادِ القدامي والمعاصرين إلى التشكيك الجزئي فيه كابن سلام الجمحي، وإلى التشكيك العام كما يفعل طه حسين في كتابهِ الشعر الجاهلي ثم في كتاب الأدب الجاهلي .

يقول ابن سلام الجمحي حول الشعر الجاهلي:

(.. جاء الإسلامُ فتشاغلت عنه العربُ وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهتْ عن الشعر وروايتهِ فلما كثرَ الإسلام وجاءتْ الفتوحُ واطمأنتْ العربُ بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوانٍ مدونٍ ولا كتابٍ مكتوبٍ وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهبَ عليهم منه كثيرٌ وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح هو وأهل بيته به صار ذلك إلى بني مروان أو صار منه. قال يونس بن حبيب قال أبو عمرو بن العلاء ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير)،‹8›.

هذه العبارة هي التي ارتكز عليها طه حسين في دحض أغلبية الشعر والنثر الجاهليين، لكن بعد فترة من الفحص قام بها باحثون تم التأكد من صحة الكثير من هذا الشعر، وتم كشف أجزاء منحولة، ولكن الفجوات في بناء القصائد الطوال خاصة وإزالة الجوانب الدينية الوثنية هي قضايا لم تـُحسم بعد.

وبهذا فإن القراءةَ التي نقومُ بها لهذا الشعر والنثر ترتكز على ما اتفق عليه وصحت نسبته إلى الشعراء والقوالين.

إن ضخامةَ الشعر الغنائي أمرٌ لا يستطيع أحدٌ أن يلغيه أو يحوره، وهو الشعر الذي تكون في فضاء هذا التوحد الاجتماعي للقبائل العربية وهي تظهرُ على مسرح التاريخ.

أما ما قبله فمجهول، ولهذا فإن التساؤلات هنا تتوجه هل نستطيع أن نعمم ونقول بأن الثقافة العربية لم تعرف الملاحم الشعرية، وهل يمكن لمثل هذه القبائل التي تشكلت خلال آلاف السنين أن تعبر عنها هذه الفترة الأخيرة فقط التي وقف الوعي الوسيط الديني المحافظ والوعي المعاصر المتعدد الرؤى عندها عاجزين عن الولوج لما ورائها بحثاً موضوعياً؟

كذلك فإنه لا بد من حسم موضوع (العقل العربي) والعقل السامي الذي لا يعرفُ الملاحمَ عبر قراءة التواشج الثقافي مع حضارة وادي الرافدين التي هي حضارة قريبة ومؤثرة على التطور الاجتماعي العربي عامة، فهذه الحضارة الرافدية عرفتْ الملاحمَ الشعرية والقصص ولكن الملاحم ليست هي ملاحم قصصية صراعية جماعية واسعة، بل هي أقربُ للقصةِ الشعرية الفردية المطولةِ كملحمةِ جلجامش، وبهذا فإنها لم تستطع أن تشكلَ ملحميةً واسعةً قادرة على تحليل شبكة من الشخوص وعلى قراءة الواقع بالتالي، وعلى طرح نماذج خصبة منوعة، وقد تمكن الإغريق من خلقها بسبب ترافد الماضي (البربري) الديمقراطي مع ثقافة المدن الحرة التي ترتبتْ على طبيعة الجزر، المتعددة، وعلى نمط التجارة الفردية الواسعة، في حين كانت الثقافة البدائية شبه الديمقراطية في وادي الرافدين والوادي المصري قد تم كتم أنفاسها مع تشكل الدول الاستبدادية الكبيرة.

ومع هذا فإن هذه المخاضات والانجازات للشعوب في منطقة الشمال لم تصل إلى عرب الجزيرة إلا عبر بعض الومضات التي نفثتها الأديان.

________________________

#معرض_أبوظبي_الدولي_للكتاب_2021

#دار_نينوى_للدراسات_والنشر  #قاعة_8  #جناح_E02

#دار_نينوى_للدراسات #دار_نينوى

#عبـــــــدالله_خلــــــــيفة

#الرواية_في_البحرين

#الرواية_البحرينية

__ATA.cmd.push(function() { __ATA.initDynamicSlot({ id: 'atatags-26942-60ae55f4063f3', location: 120, formFactor: '001', label: { text: 'الإعلانات', }, creative: { reportAd: { text: 'الإبلاغ عن هذا الإعلان', }, privacySettings: { text: 'الخصوصية', onClick: function() { window.__tcfapi && window.__tcfapi( 'showUi' ); }, } } }); });
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 26, 2021 07:06
No comments have been added yet.