عبـــــــدالله خلــــــــيفة: تبعية العلمانيين للدينيين ــ جذورها ونتائجها

تعتبر العلمانية الديمقراطية العربية المعاصرة هي الصيغة السياسية العامة لخلق الهياكل السياسية لتجاوز وضع الأمة العربية التابع للعصور الوسطى التقليدية، حيث غرقت البلدان العربية القديمة في التمزق الطائفي وتكونت فسيفساء سهل ابتلاعها من قبل الدول الغازية المختلفة، سواء كانت الدولة العثمانية باسم الدين أو الدول الغربية باسم الاستعمار.

ويعبر القرن العشرين عن الصعود الكبير  للعلمانية في وجه الشبكات الإقطاعية الطائفية القديمة في شتى جوانب الحياة، فالتعليم الكتاتيبى أخلى المكان للتعليم النظامي، وبالتالي أمكن تغلغل جوانب من العلوم في الوعي الشعبي، مثلما بدأ القضاء على الشعوذة والسحر في العلاج ونشوء شبكة من المستشفيات، وخرجت النساء من البيوت والاعتقال القديم، ودخلن الحياة العملية والإنتاجية، وانتشرت وسائل الثقافة الحديثة من صحف وكتب وأشكال ثقافية معاصرة كالرواية والمسرح والفنون التشكيلية، مما جعل وسائل التأثير الدينية بمحتواها المضاد للتحديث تتراجع إلى خلفية المسرح.

بل أخذت القوى الدينية ذاتها تستعير الأفكار العلمانية الحديثة، وما التنظيمات الدينية سوى أشكال من الاقتباس من النزعات القومية والفاشية الحديثة وقد لبست قوالب من التراث المقطوع عن مضامينه التقدمية العربية القديمة.

وتغلغل شيءٌ من الوعي العلماني في الحياة الاجتماعية، عبر تحرر المرأة وتغيير بعض القوانين المضادة للمساواة، ولكن ذلك لم ينتشر بقوة في الميدان الاجتماعي الأسري العربي، حيث تبقى الأسرة الحصن الأخير للأبوية والتقليدية، وانتشرت قوانين جديدة للأحوال الشخصية تطورت في بلدان إلى الذروة كتونس، لكن الرجعية الدينية بثقلها النكوري والسياسي الكبير عرقلت التطور في هذا الميدان الحساس والهام فتغلبت القوى التقليدية في بلدان أساسية كمصر والعراق فعرقلت تطور الحرية العربية.

صاحب هذا التطور العلماني على المستوى الثقافي والاجتماعي تطور سياسي كبير، حيث تمكنت القوى العلمانية ممثلة في أحزاب الفئات الوسطى من تحقيق انتصارات تحررية كتفجر الثورات في مصر والعراق وسوريا وتونس والمغرب على الاحتلالات الأجنبية في النصف الأول من القرن العشرين.

وقد قاد ذلك كله القوى الاستعمارية لتقوية الشبكات الطائفية وفتح المجال لنموها وتطورها، فبرزت في الثلاثينيات الأحزاب الدينية، وتم تحويل الدين كبعبع لمهاجمة القوى الوطنية والتقدمية العربية، فكانت تقوية الشبكات الطائفية كالوهابية والسنوسية والاخوان وإعادة ضخ الأموال في المؤسسات الطائفية التي أقفرت في سنوات النضال الوطني والقومي التحرري، وتم التركيز على بعث الهياكل النصوصية العتيقة وسجن العقل العربي في تضادات العصور الوسطى، كالتركيز على الحلال والحرام، وعلى نشر الخرافات وإلغاء العلاقات العقلانية والسببية، والهجوم على الأشكال الحديثة في الثقافة كمهاجمة الشعر الحديث، والحداثة بشتى صورها.

وقد أمكن للاستعمار والصهيونية والرجعية العربية من محاصرة العلمانية العربية عبر الهجوم على الاتحاد السوفيتي ومحاصرته ومهاجمة التجارب الوطنية والتحررية في مختلف بقاع الأرض، وقد كان لهذه التجارب مجموعات من الأخطاء سهلت القضاء عليها ثم ساد التفرد الغربي الاستعماري في كل الكرة الأرضية.

ولا شك أن الأنظمة التحررية العربية قد ارتكبت العديد من الأخطاء الكبيرة التي سهلت للقوى الطائفية الرجعية من استلام زمام المبادرة، والانتشار، فقد كانت هذه التجارب الوطنية غير علمانية بشكل جذري، فهي قد رفضت التجارب العلمانية السابقة والتى كانت أكثر جذرية منها في رفض الجماعات الطائفية وأفكارها، واعتمدت الأساليب الدكتاتورية في الحكم، ورفضت مواصلة جهود التنويريين العرب السابقين كطه حسين وسلامة موسى ولويس عوض الخ.. في الثقافة والسنهوري في القانون، وشبلي شميل في نظرية التطور، وجمدت عملية تحرير المرأة، وأوقفت محوالأمية ومقاومة الخرافات والأساطير، وغيبت الحرية الشخصية الفردية وخاصة في المجال العقلي التحرري، ونشرت عقلية القطيع وأحزاب الحكومة المصفقة لكل أمر.

تتضح طبيعة الأحزاب العلمانية التحررية القومية التي انهارت في نضالها العلماني، بعد وصولها لغنائم الحكم، في تجارب مصر والعراق وسوريا بالأخص.

فبينما كان بورقيبة يواصل عملية تحرير المرأة التونسية وخلق شفافية سياسية وفكرية مع الشعب، كانت هذه الأنظمة تغرق في الفساد والرجعية الفكرية، فلا تجد سوى أن تمد أيديها للقوى الطائفية وفكرها العتيق. فكانت تعيد تقوية المؤسسات الدينية بذلك الفهم الطائفي، فنجد مؤسسة مثل الأزهر بدلاً من قيامها بثورة في الفهم العقلاني للإسلام تعيد ضخ القوة في الوعي النصوصي والمحافظ، ولم يكن ثمة نظام قومي تحرري لم يضطلع بمهمة بعث الهياكل الطائفية واستغلالها ضد التقدميين والعلمانيين العرب والمسلمين، عبر تشكيل مؤسسات دينية كبرى والصرف عليها بالملايين.

وإن تتحول هذه القوى القومية إلى جماعات منتفعة شمولية فإنها تواصل اعتقال الجمهور العربي بمختلف أديانه، وعلى الإبقاء على الهياكل الاجتماعية والثقافية المتخلفة، وينعكس هذا على استغلالها للدين في الحياة السياسية بعد أن أفلست في فكرها العلماني المزعوم.

فنجد النظام العراقي والذي كان يفرق في مجموعة من التناقضات يعود لاستغلال آيات القرآن استغلالاً كاريكاتيرياً، أو استخدام المصطلحات والرموز التراثية بصورة تكشف مدى التهلهل في هذا الوعي «العلماني»، ويقوم النظام بعقد مؤتمرات للأحزاب القومية والدينية تردد هذه الآيات فيها، ويتم اعتقال الشعب في زنازين من الأمية والتخلف العلمي والعسكري.

ومع تفاقم أزمات الأنظمة المرتدة عن العلمانية والحرية القومية، فإنها تنقل هذه الأزمة للجماعات التابعة لها، والمتاثرة بها، والتي تنعم بـ«مساعداتها» في بقية الأقطار العربية، فتتدهور الشعارات السطحية العلمانية فيها، ولا تجد مقاومة فكرية عميقة داخلها لهجوم الطائفية على قياداتها وأعضائها. فهذه الجماعات تعاني مثل الأنظمة القومية من غياب الديمقراطية فيها، الأمر الذي يقودها إلى تخلف ثقافي، تكون علاماته تدهور الوعي العلماني داخلها، وتبعيتها السياسية ومن ثم الفكرية للجماعات الطائفية.

فالجماعات العلمانية التي كان يُنتظر تحرر نسائها وأفرادها يعود الوعي الرجعي إلى صفوفها، بعدم تقوية وتنمية الثقافة التقدمية في شتى مجالات الوعي،حيث يتطلب الوعي السياسي إجابات على كثير من الأسئلة المعقدة التي تُطرح في شتى جوانب الحياة الاجتماعية. مثلما يعجز هؤلاء القادة والأفراد عن التطور بوعيهم وأسرهم وكياناتهم في سلم الحداثة.

ولكن إذا كانت الأنظمة البعثية والتيارات القومية تواجه الاستعمار والصهيونية بتلك الأسلحة الفكرية والاجتماعية العتيقة، وتدخل المعارك ضد الاستعمار بتلك الهياكل الرثة من الجيوش والأفكار، فإن الجماعات التابعة لها، والمتأثرة بها، أو الجماعات الدينية التي اصطفت معها، تقوم بالدفاع عنها بذات الأساليب والأفكار وترديد تلك الجمل المنتزعة من التراث الدينى، الأمر الذي يعبر عن سقوط وعى كامل من الأبنية شبه العقلانية والتى تدخل الخرافة من أبوابها الواسعة. أي إن انتهازية القيادات في هذه الانظمة والجماعات بعد أن غرقت في عوالم الشمولية والاستبداد، أخذت الظلامية الفكرية تزحف فى قنواتها السياسية التى تهيمن عليها بالحديد والنار أو بالدجل السياسى، وتتكون العقلية الانتهازية التي تستغل الكتب المقدسة والتراث، لمصالح ومآرب نفعية ولمعارك فاشلة.

إن قواعد هذه الأنظمة أو الجماعات السياسية التي كانت علمانية، والتي تبدأ في الغرق في ثقافة الجهل والتجهيل، والانتهازية والوصولية، تكون مستعدة لجميع الخطوات السياسية المغامرة ولتأييد الأنظمة الفاشية، بعد أن تم الحجر على عقولها.

وعلينا أن نقرأ العلة الأولى في رؤوس هذه الأنظمة والجماعات التي تلاعبت بالدين وحولته إلى مطايا لاستغلالها، مستثمرة كل الجوانب الرديئة من التراث، زاعمة أنها عودة للإسلام.

فمن هناك من العواصم العربية تم التداخل بين الدين والهياكل السياسية الدكتاتورية، وليس التدهور السياسي في هذه الدول والجماعات، سوى انعكاس لانهيار مشروعها النهضوي التحرري، والتحامها بالطبقات الإقطاعية والبيروقراطية القديمة، وبرؤساء القبائل وبزعماء الطوائف والكيانات العتيقة المختلفة. وبالتالي قامت ببعث الموروث الطائفي والمحافظ.

ففي الوقت التي شاركت هذه الرؤوس في سرقة الدم العربي من عروق العاملين فلا مكان للعلمانية والتقدمية لديها.

كانت تقوية القوى الاستعمارية والرجعية العربية والصهيونية للشبكات الطائفية العامل الرئيسى فى صعودها في العقود الأخيرة من القرن العشرين، غير أن الشبكات الطائفية تجاوزت الخط الأحمر غير المسموح بتجاوزه، وتوهمت بقدرتها على وراثة النفوذ والحكم في المنطقة.

إن التشكيلة الإقطاعية/ المذهبية التي كانت تحاول بعثها، كان لا بد أن تؤدي إلى بعث كل الأسس غير الحديثة الميتة، وأن تصعد الشبكات الطائفية بكل اختلافاتها وأحكامها الراجعة إلى ما قبل العصر الحديث، والتي شجع الاستعمار بقاءها في الأنظمة التابعة لكن العلمانيين التابعين لهذا البعث الطائفي، بعد أن فشلوا في البعث القومي، لم يروا سوى الاختلاف والصدام بين هذه الشبكات الطائفية والسلطات والاستعمار.

أي لم يقوموا بقراءة جذور هذه التكوينات الطائفية، وخطورة نموها على الفكر العقلاني والحريات الاجتماعية المختلفة، ولم يروا سوى طابع الاختلاف بينها وبين السلطات والاستعمار، وهكذا قاموا بعزل القضية السياسية عن أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسمحوا لأنفسهم بالتعاون بل التبعية السياسية للشبكات الطائفية. بدلاً من تشكيل تحالف ديمقراطي علماني إسلامي نهضوي يهزم مشروع البعث الطائفي.

نتائج ذلك كانت خطيرة على حياة المسلمين والمسيحيين العرب وعلى تطور الوعي والحريات لهم، في إيران وجهت السواطير لقطع رؤوس التقدميين والعلماء والوطنيين، والحركات النسائية والديمقراطية المختلفة، وتم إعادة قوانين رجعية، دون أن يحدث تغيير في حياة الجمهور بل عادت الأشكال المتخلفة من حكم الإقطاعيين الطائفي والسياسي.

وقاد تدهور الدولة الديمقراطية والعلمانية في مصر إلى كوارث ومذابح وتم إعادة مصر إلى الوراء على الأصعدة كافة.

لكن العديد من المجموعات العلمانية الانتهازية لم تقطع عملية التبعية للشبكات الطائفية، رغم كل هذه الشواهد والأحداث الفظيعة، وتعود هذه إلى محدودية النظرة السياسية، وقراءتها للقريب دون البعيد، واعتمادها على الحماس الشعبي المتخلف، وهو أمر غير ثابت، وعجزها عن النظر بشكل مركب لعمليات الإصلاح والصراعين السياسى والاجتماعى، وعلى إقامة تحالفات ديمقراطية واسعة، وتشبثها بسيطرتها الشللية، وهذه كلها أمور تؤدي إلى تدهورها السياسي والفكري على المدى البعيد.

ويرجع ذلك ايضا لتخاذل القوى العلمانية الجادة في النضال، وضعف وعيها في قراءة جذور الشبكات الطائفية، وأهمية تفكيكها وتغيير قواعدها الشعبية بخطاب يجمع النضال الإصلاحي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في حزمة واحدة.

فهي كذلك ترى النضال ينحصر في المجال السياسي، وغالبا ما تتخبط بين الاتجاهات الحديثة والطائفية، عاجزة عن شق الطريق الرئيسي للحداثة والنضال الوطني والقومي بمحدودية فهمها لكل هذه الجوانب المترابطة.

كما لا تعارض الدول الطائفية في سماحها بتشكيل الشبكات السياسية الطائفية التي تمثل خطورة على السلامة الوطنية، نظرا لقيام هذه الدول باللعب على الورقة الطائفية واستخدامها في تفكيك صفوف المعارضة ولا تؤدي عملية استخدام هذه الورقة لتفتيت صفوف المعارضة فحسب بل إلى هدم الكيانات الوطنية كما سيحدث في العقود التالية وإلى حدوث مذابح وكوارث كبيرة.

كذلك فإن القوى العلمانية الجادة ليس لديها وعي بموروثها ولا تفرق بين القوى الطائفية السياسية والمذاهب الشعبية الموروثة، بين الشبكات الطائفية المسيسة والإسلام، نظرا لغياب قراءتها لتاريخها الوطني والديني.

تتطلب عملية فك الارتباط بين العلمانيين والطائفيين الكثير من الجهود والصبر السياسي والتثقيف، فعلى العلمانية يتوقف مستقبل العرب والمسلمين في العقود القادمة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 06, 2021 17:48
No comments have been added yet.