عن التمويلات الأجنبية وغيرهامازلت أحتفظ  بالصفحة الت...

عن التمويلات الأجنبية وغيرها
مازلت أحتفظ  بالصفحة التي كتبتها سوسن الأبطح في ملحق «المنتدى الثقافي»، 23/11/2005 بجريدة الشرق الأوسط، تحت عنوان «فنانون ومثقفون يطالبون بإنقاذهم من شروط الممولين الغربيين»، وكان الذي غاظني  هو التعميم الذي ورد في العنوان المكمّل: «ماذا بقي للعرب بعد أن باعوا ثقافتهم بالدولار؟» إذ كان المفروض أن يكون القول: «ماذا بقي لهؤلاء.. » وليس لـ«العرب»، فإذا كان هناك من يقبل أو يطلب أو يسعى لتحصيل «التمويل»، من أي جهة، ولأي سبب حقيقي أو مزعوم، فليس معنى ذلك أن أمة العرب «كلها» قد باعت ثقافتها، فهناك الكثير الذي يرفض حتى العلاج على حساب الدولة، دولته، وإن كان هذا من حقه، لأن القرارات لا تصدر بـ«الحق»، وإنما بـ«الولاء»!
الطريف في الموضوع  الذي حفزني للإحتفاظ بقصاصته هو  ما سجلته الكاتبة من استغاثات لبعض الفنانين، الذين قبلوا تمويلات من جهات أجنبية ومع ذلك يشتكون نائحين ببجاحة تامة  من دون أي خجل: «المانحون يجعلوننا جزءاً من مشروعهم التنموي، هذه السنة يجب أن نتكلم عن الجندر، والسنة المقبلة عن المعاقين.. يصعب على واحدنا أن يضبط نفسه مع إيقاع الممولين، يقال لنا إنه فن في خدمة التنمية، أين قيمة الخيال والتعبير عن المتعة.. مجتمعاتنا لا تنمو وإنما تنمّى..»! يا سلاااام شوفوا شوفوا! هل رأيتم الذي لم يخطر بباله تعجبنا ممن يقبل تمويلا ويرفض شروطه؟ أنقول: ما كل هذه الرقاعة، أم: ما كل هذا «الاستهبال»؟
 نعم ياسادة من حق «المانح» أن يشترط، ومن حرية «طالب المنحة» أن يرفضها، فأين القهر الذي يبرر الشكوى؟ ثم: ما هو الباعث الذي يدفع فناناً أو مثقفاً لكي يمد يده ويتسول «منحة»؟ أليس أمام المسرحي الذي يبحث عن «قيمة الخيال» فنية «المسرح الفقير»، التي من أصولها «الاستغناء»، ليحقق إطلاق سراح تعبيره متعالياً على الخضوع للشروط وقيودها وفخاخها؟ والمثقف الذي لا يريد أن يكون ترساً في عجلة «مشروعات» لا يرضاها، أليس أمامه ابتكار مشروعه الخاص الذي من سماته الإبتكارية ألا يمد يده ويعتمد على قدراته الذاتية وإلا فلا؟
فيما مضى كان هناك «شعراء البلاط»، الذين أسسوا في تراثنا الشعري باب «المديح» وباب «الهجاء»، لقاء أجر و هبات ومنح وتمكين، وكان هؤلاء يقفون على عتبات حكامهم وأصحاب السلطة في بلادهم، يمدحونهم، صدقاً أو كذباً، بأنهم قد حققوا لناسهم الرخاء والهناء والفوز على الأعداء، ومع ذلك فمن ذا الذي احترم يوماً «شاعر بلاط» ولو كان بقدر المتنبي؟
 نذكر مما قاله «المتنبي» وهو «يمدح» كافور الإخشيدي، راغباً في عطاياه: «وما أنا بالباغي على الحب رشوة ضعيف هوى يُبغى عليه ثواب»، ثم قوله: «وإن مديح الناس حق وباطل ومدحك حق ليس فيه كذاب، إذا نلت منك الوُدّ فالمال هين وكل الذي فوق التراب ترابً!".  ورغم الحكمة البادية في قول المتنبي هذا إلا أنه كان أكبر مخالف لها فلقد رأيناه بعد تأكده من أن كافور «جوده من اللسان»، يهجوه قائلاً: «لا شيء أقبح من فحل له ذكر تقوده أمة ليست لها رحم»! وظل المتنبي، وقد وضع نفسه في خانة العبيد ـ بطلبه الجود مقابل المديح الكاذب ـ يدعي الحرية: «حصلت بأرض مصر على عبيد كأن الحر بينهم يتيم» من دون أن تكون له شواهد على حريته المزعومة فكل  هجاء المتنبي لكافور، كان سببه الوحيد أن كافور لم يعطه مليماً، أو درهماً، أو سحتوتاً، ولم يخش لسانه الحاد، ولم تهزه عبقريته الشعرية في الهجاء «العنصري»، قليل القيمة في الأخلاق، وإن أصبح من «عيون» الشعر العربي مما يثبت أن الإبداع الفني ليس فضيلة في كل أحواله.
 والحقيقة أنني من أشد المعجبين بموقف كافور الإخشيدي، لأنه صمد أمام نفاق المتنبي، ولم يفتح خزائن مصر، المؤتمن عليها، ليتقي شر شاعر جاء يمدحه من تحت ضرسه، لقاء أجر. ولقد اتهم الموالون للمتنبي والمؤرخون كافور بأنه: «استمال العبيد وأفسدهم على ساداتهم» و«... لا يصفو قلبه إلا لعبد كأنه يطلب الأحرار بحقه...» أينعم ولم لا؟ ألا يحق لكافور، بعد كل الإذلال الذي لاقاه من «الأسياد» المحقرين له، بسبب لونه وجنسه، أن ينتصر لمن استشعر لهم الظلم؟
مدح المتنبي كافور قائلاً: «قواصد كافور توارك غيره...» وحين نهض كافور ليلبس نعله رأى أبو الطيب المتنبي، غير الطيب، شقوقاً بقدميه استغلها في شتمه، حين انقلب عليه، قائلاً: «تظن ابتساماتي رجاء وغبطة وما أنا إلا ضاحك من رجائياً، وتعجبني رجلاك في النعل إنني رأيتك ذا نعل إذا كنت حافياً، وإنك لا تدري ألونك أسود من الجهل أم قد صار أبيض صافياً، ويذكرني تخييط كعبك شقه ومشيك في ثوب من الزفت عارياً، ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا». والذي أراه أن «كافور» كان ذكياً، عالماً بدوافع المتنبي وأمثاله، فحين كتب إليه المتنبي يستأذنه في المسير إلى الرملة، بحجة إنجاز مال له بها، أجابه كافور: «لا والله ما نكلفك المسير لتنجز مالك، ولكنا ننفذ رسولاً يقبضه ويأتيك به في أسرع مدة، ولا نؤخر ذلك إن شاء الله». وكان من الطبيعي أن تملأ هذا الإجابة الداهية المتهكمة، المتنبي بالغل والغضب.
 المتنبي شاعر عظيم لكنه، مع ذلك، منحط إنسانياً، أما كافور الإخشيدي، الذي رفض تمويله و«بعزقة» أموال الخزينة المصرية على كذباته، فيقول عنه قاموس المنجد باختصار: «مملوك أسود اشتراه محمد الإخشيدي، واستوزره، قبض على زمام الأمر في مصر وسوريا وانتصر في الحروب. قصده العلماء والشعراء، مدحه المتنبي. توفي بمصر سنة 968 ميلادية».
ولا أدري لماذا ذكر القاموس المدح ولم يشرإلى هجاء المتنبي، الذي قتل في الطريق إلى بغداد سنة 965 ميلادية، قبل وفاة كافور بسنوات ثلاث.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 22, 2012 15:09
No comments have been added yet.