عبـــــــدالله خلــــــــيفة : إسحاق الشيخ يعقوب
إسحاق الشيخ يعقوب في تأبين عبدالله خليفة يأخذنا الكاتبُ والمناضلُ إسحاق الشيخ يعقوب في عمله (إني أشم رائحة مريم) بجزئيه الأول الصادر سنة 2002، عن دار قرطاس بالكويت، ثم الجزء الثاني عن دار الفارابي سنة 2012 بلبنان، إلى رحلة فكرية سياسية جغرافية تاريخية مفعمة بالصور الشعرية والأحداث عبر نصف قرن من حياة هذا الرجل الذي تفتح بمدينة الجبيل السعودية وساح في الأرض منفياً وكاتباً.
الكاتب ذو رؤية رومانسية ثورية حيث تكونت بدايات وعيه في النصف الأول من القرن العشرين، حيث ولد سنة 1927، وكانت بذور الطبقة العاملة تتكون بسرعة في المنطقة الشرقية من المملكة وتصطدم بتكون ظروف النفط الصعبة الأولى، حيث الأجور المتدنية والعمل التأسيسي الشاق والمستوى المعيشي المتدني والحياة البسيطة، وتتجمع قوى نضالية مشرقية عدة في تلك البقعة وتطرح مشروعات حالمة.
الرؤية الرومانسية للكاتب تتفجر منذ الصفحة الأولى (كان يوماً عاصفاً بالمطر.. ورائحة الأرض.. والرياح تعوي في كبد السماء.. وتمزق ركام السحب شر ممزق).
الجمل القصيرة والنقاط بينها والتداعي يحركها. وهذا المطر العاصف هو هؤلاء الشباب الذين نبتوا في أواخر النصف الأول من القرن العشرين في هذه البيئة البدوية المحافظة فاشرأبوا لإزالة السحب عبر أحدث الموجات السياسية في العالم.
ولم يكتفِ إسحاق الشيخ يعقوب بهذه الأرض البكر سياسياً بل حملَ أفكاره وسط عائلة مهاجرة نازحة من برّ فارس وتنقلت بين قطر واستقرت قليلاً في البحرين ومن ثم نزلت نزلتها الطيبة في الجبيل.
وليس هذا فحسب فالاسم ذاته يشير لهذه الثنائية بين إسحاق التحديثي اليساري والأب الشيخ يعقوب رجل الدين الحنفي الدارس الإسلامي المتنقل بين المعاهد الدينية في تركيا والعراق. والذي تكّون عبر هذه النصوصية الفقهية وكون أسرته وجذورها وتوسعها الاقتصادي الاجتماعي.
هذه الثنائية الاسمية ستكون وعياً يسارياً ينقل أحدث رموز اليسار الشرقي بقممه الشمولية المهيمنة، في حين يقف حذراً من النصوصية الدينية المحافظة، مستثمراً اللغة الأدبية الدينية منها في تحديثيته. وتشيرُ هذه إلى قوة الاكتساح التي تتكون في وعي رومانسي ثوري وقتذاك.
لكن الأم مدار آخر فهي التي تملك روحه الشعبية الشعرية، وروحية الفرسان، والعمل اليدوي: (وكانت مريم التي شبت طفولتها في أحضان الجبال الجنوبية من الأراضي الفارسية في قرية تدعى «كجوه» تبيأت ببيئة جبلية، رجالها ونساؤها على حد سواء ينتزعون قوتَهم من بين أنياب الذئاب والأسود) ص 12،ج.1
تشعلا الأمُ داخلَ العمل السردي الجدالي التنظيري المتنوع هذا، كخيطٍ رومانسي متألق، وكفاعلية شعبية في العمل وكشف الزواحف وحماية الأطفال ونشر قيم الحب والدين، وقد كان الجو الإنساني المتكون ثنائياً من الأب والأم عاملاً مهماً في تكون أبناءٍ انخرط معظمهم في النضال والعمل، وهو جو لم يتكون بسهولة، فأمام تضحيات الزوجة والأم كان الأب يبحث عن زوجات أخريات ويرتبط بهن والأم تصبر وتعاني، وهنا يقوم المؤلف الابن بعرض ذلك بموضوعية فاتنة وحتى بتصوير العلاقات بين الأم والزوجات الأخريات بكل رهافة إنسانية، حتى استطاعت الأم أن تختص بزوجها لوحدها من دون تعدٍّ على أحد.
ينساب إسحاق الشيخ كمؤلف في هذا الدفق الشعري العائلي ثم في ظاهرات الطبيعة الخلابة خاصة في تصوير البحر المحتضن للمدينة. ويتدفق مع البحر بلوحات جميلة فلكلورية ينقشُ فيها الكلمات نقشاً، وتتداعى صورُ مهن البحر وأسماكه المتعددة ومغامراته.
تكوّن إسحاق الشيخ مع دبيب قوى الثقافة وقوى العمل على الساحل الشرقي للمملكة في النصف الثاني من القرن العشرين، فالأبُ المعلم يبقى دوره متجمداً فكرياً، ولكن حضور أستاذٍ متفتح من الحجاز يصعد منسوب الوعي لديه، حيث تبدأ المدرسة بالانتقال من المطوع للتحديث والنظام، ثم تقوم خلايا الوعي بالازدهار مع انفجار النفط، حيث يجيءُ عمالٌ من العراق ذوو تجربة امتدت عقوداً، وصارت منشوراتُ (القاعدة) الاشتراكية، تحرضُ العمالَ على تغيير الأجور والمساكن والعلاقات، وهو مستوى سوف تنفتح أمامه بوابة المغامرة حيث لا جذور عمالية ديمقراطية سابقة هنا وتغدو البرامجية العقلانية مختلطة مع الشطحات السياسية والدينية، وهو أمرٌ عربي وعالمي شرقي مميز، يعيش حالات القفز عن الظروف الموضوعية والنضال الشاق في حمى صراع دولي هائل.
(ابتلع الموتُ في حركة التاريخ والجغرافيا روادَ حركة الوعي والفكر الثوريين: ماركس.. أنجلز.. لينين..)، (واستوى الفكر والوعي في الوعي والثقافة والثقافة في الثقافة.. منابع تتجدد في أقيانوس حياة البشر على وجه الأرض!).
إنها العالمية الشرقية الكفاحية وتمشي في بيئة صحراوية تتمدن حديثاً وبحاجة إلى قراءات واقعها ومراحله بدقة.
إسحاق الشيخ يعقوب هو ذاكرةُ نضال طويل، وكثيرون ناضلوا ولكنهم ذابوا، لم يتركوا سوى سِير جميلة غير مكتوبة، وذكريات مسرودة، فالجزيرةُ العربيةُ ذاتُ تقاليد شفهية عريقة، ولكن حين تتجلى الكتابة، ويظهر الكِتابُ تتعززُ الرسالة، وتحفرُ في صخور الواقع.
راحت كتبُ إسحاق الشيخ يعقوب تتالى وتنهمر، وسيرُ المناضلين والمتنورين تتخلقُ بدايةً من الجزيرة العربية تجمعُ سرداً وحوارات ذاتية وخارجية، فالهمُّ الوطني ضاربٌ في الأعماق، وإذ بدأ سيرةً ذاتية في كتاب (أشمُّ رائحةَ مريم) وكان تعبيراً عن الأنا في سبر أغوار التجربةِ الشخصية المترابطة مع سيرةِ وطنٍ وشعب وعالم، فإنه ينعطف نحو رموز النضال والتنوير عبر هذا البحث، وتظهر حلقاتُها كعلاماتٍ بارزة في الواقع، وهو يكتبُها بشكلٍ بحثي متواصل متصاعد حيناً، كسيرةِ (عبدالعزيز المعمر: ذاكرة وطن)، التي لا يلعبُ فيها المنولوج الشخصي دوراً مركزياً، حيث تتصاعد أدواتُ البحث، وتقدمُ سيرةً شخصيةً متماسكةَ الرصدِ والتحليل، في حين إنه في كتابِ (موج الحبر) يجمعُ بين السيرةِ الذاتية التي يبرزُ فيها المنولوجُ الشخصي الغالب وتداعياته الشعرية والسردية بلقطاتِ البحث في شخصية تنويرية أخرى هي شخصية (حمد الجاسر).
شخصيةُ عبدالعزيز المعمر هي من شخصياتِ الرعيل النهضوي الأول في السعودية والجزيرة العربية وهي شخصيةٌ مناضلةٌ مبهرة في ذلك الزمن البسيط في أدواته وأفكاره وعزائمه؛ درسَ في الجامعة الأمريكية فصار من النخبة التي يمكنها أن تصعد إلى ذرى المناصب:
(هناك على مقاعد الجامعة الأمريكية تنامت في نفسه الكراهية والعداء تجاه وحوش الفاشية والنازية)، (وهو في الجامعة الأمريكية مع كثير من الطلاب المبتعثين الذين قدموا لينهلوا من المعارف والعلوم الأكاديمية وينقلوا ما تعلموه إلى بلدانهم من أجل الإصلاح والتنمية)، ص 19، عبدالعزيز المعمر، ذاكرة وطن، دار قرطاس، الكويت، 2005.
هذا الرجل الذي وصل لهذا المستوى التعليمي كان من نتاج عالم البداوة القاسي البسيط:
(لقد تفتحت طفولته في بلدة «العيينة» إمارة آبائهِ وأجداده «آل معمر» وكان نسل عائلة كريمة، وكان أهل العيينة يعيشون على الرعي والزراعة وتربية الإبل والأغنام)، ص 23.
هذا التركيب بين الارستقراطية القبلية والجمهور الشعبي كان يمكن أن يتناقضَ بشكل حاد لتصبح الشخصية المثقفة التي أكملتْ تعليماً جامعياً بمنأى عن القبيلة والناس، وأن تعيش لمصالحها الخاصة.
ولكن عبد العزيز المعمر وصل لذروة الحكام وأقام علاقةً قوية معهم وكان يمكن أن ينسج علاقة نفعية متصاعدة، لكنه اختارَ طريقاً آخر.
(أيُّ نقلةٍ فاصلة حاسمة شكلت وجدانية تأملاته وهو يقارن بين «العيينة» وبيروت؟)، (في رأس بيروت سكن مع عائلة مسيحية)، (وعاد إلى الوطن يحمل شهادة ليسانس في العلوم الرياضية).
هذه الإمكانية أتاحت له الالتقاء بعاهل الجزيرة الملك عبدالعزيز بن سعود ومن ثم بابنه الملك سعود بن عبدالعزيز وغدا مستشاراً له، بين جملةٍ من المستشارين أصحاب المصالح والتوجهات المختلفة، فيما كان هو كرس نفسه للهم الوطني الصعب بين القمة الحاكمة والقاعدة الشعبية، فتوجه نحو ثروة البلد الأساسية المتنامية وهي النفط ووجه قدراته العلمية والاجتماعية والسياسية لقراءةِ وضعها وتطويرها بشكل وطني.
كانت مهماتٍ خطيرةً صعبة في زمن هيمنةِ الشركات الأجنبية النفطية، وبسببِ التفتح البدوي المفاجىء على العصر والتحولات البطيئة الشديدة الصعوبة بين السكان، وهذا المستشار الشعبي لا يخفي آراءه في مناهضة جريمة إلقاء القنابل النووية على المدن اليابانية، ولا إجحاف عقود النفط الغامضة، وهيمنة الشركات الغربية على الحقول النفطية في المنطقة، وكان المد القومي الوطني يتصاعد وقد تمظهر في السعودية بسياسة الملك سعود بن عبدالعزيز، الذي ساندها إلى حين، وقام المعمر بنقد سياسة شركة النفط في الصحافة المحلية السعودية وقتذاك فكتب دراسةً أُلحقت بالكتاب، ومنها:
(ويكاد مجموع دخل العمال في فنزويلا يساوي صافي الربح الذي تحصل عليه شركات النفظ هناك، وليس في الوسع مقارنة تلك الأرقام بمثيلاتها في بلدان الشرق الأوسط المنتجة للزيت، ولكنها في المملكة العربية السعودية أقل من ذلك بكثير، الملحق، ص 169.
هذه الآراء لا يمكن أن تُقبل من مهتم بتطوير حياة العمال، خاصة مع تصاعد الصراع بين الشرق والغرب وبين حركة التحرر العربية والاستعمار في ذلك الزمن من الخمسينيات من القرن العشرين.
تفاصيل شخصية عديدة في الكتاب ويوميات لظهور العلاقة بين المثقفين المتنورين والعمال، وهي كتابة نادرة معبرة عن التأريخ الاجتماعي للطبقات لم تترسخ في ثقافة الجزيرة العربية والخليج الحديثة سابقاً وحاضراً.


