عبـــــــدالله خلــــــــيفة : التبعية للدينيين

انجرار الجماعات (التحديثية) إلى الجماعات الدينية ليس هو وليد اليوم، ولكنه يعبر الآن بعد ربع قرن من التبعية للإقطاع الديني، إلى عجزِ هذه الجماعات عن إنتاج أي وعي ديمقراطي، وبالتالي هي لا تستطيع أن تعي مشكلات رأسماليات الدولة الراهنة وكيفية تجاوزها، ولهذا يغدو البديل الديني السحري متوافقاً مع انهيار ثقافتها السياسية على مدى عقود.

لم يكن الحديث عن (الاشتراكية) سواءً كانت بشكلها السوفيتي أو بشكلها العربي القومي الدكتاتوري سوى انتهازيةٍ ضاربةٍ بعمق في تكوين هذه الجماعات، وركوبها فوق ظهور العاملين للوصول إلى أهدافها الذاتية من أموالٍ وكراس.

مع الانهيارات المستمرة في تكوين الوعي عبر غياب القراءة والتثقيف وتراكم النضال، غدت التبعية للدينيين مظهراً لأزمة عدم التطور الداخلي فكراً ديمقراطياً وممارسة شعبية، وعدم قدرة هذه الجماعات على اختراق تلك الجماهير الدينية والكشف لها عن فسادِ رجال الدين المناصرين للدكتاتورية السياسية وكونهم قوى استغلال للناس وتجميدا لتطورهم وخطرا على سلامة دول المسلمين وخاصة في منطقتنا.

أما تحويل رجال الدين إلى قادة تحرير الجماهير فهو يتساير هنا مع الهيمنة الإيرانية، وبالتالي فإن هذه الجماعات سكتت على مدى ربع القرن هذا عن تعرية النموذج السوفيتي كنموذج استغلالي بيروقراطي غيّب الاشتراكية الديمقراطية.

عدم القيام بهذا النقد يعني تأييد دول رأسمالية الدولة الاستغلالية ذات الأشكال السياسية الشمولية في العراق وسوريا وإيران واليمن وليبيا وغيرها.

عدم القيام بهذا النقد لهذه النماذج يعني بقاء الصلات مع مخلفات تلك الأنظمة سواءً أحزاباً خائبة مستمرة في اجترارِ مادتها السياسية القديمة، أو عصاباتٍ في تلك الأنظمة، وما ينشأ عن ذلك من خدمات.

ولهذا فإن عناصر البرجوازية الصغيرة المتذبذبة ذات الروح المصلحية لا تنشئ سوى مثل هذا الحراك الغائي الفاسد، وتنظر إلى جهات المصلحة التي تلوحُ في الأفق، وتظن إن هياكلَها النخرة التي أقامتها على أشلاءِ المناضلين وعلى الديمقراطية الحزبية، يمكن أن تستفيدَ منها في المقاولات السياسية التي قد تظهر في السوق.

ولهذا تبقى حذرة من النقد العميق لأنظمة رأسماليات الدولة الشمولية، ويبقى عدم نقد النظام الإيراني الراهن هو أحد الأشكال الرئيسية في الانتهازية الحالية.

فذلك دغدغة لمشاعر بعض المؤمنين المتخلفين في وعيهم السياسي، وإبقاؤهم في نسيج الشمولية الدينية الاجتماعية المهترىء، الذي لا يمكن أن ينتج سوى عاطفية جياشة حادة عمياء فكرياً وسياسياً.

ولو أن مبضع النقد كان مستمراً خلال ربع القرن الأخير وجيَّش أناساً يقفون ضد دكتاتورية بعض رجال الدين في نضالهم ضد التاريخ، وضد الثورات الحقيقية، وضد التقدم الإيراني بشكل خاص، لما كانت التركيباتُ التنظيمية بمثل هذه الانتهازية وهذا الخواء الفكري السياسي.

لقد قامت تكويناتُ هذه البرجوازية الصغيرة الفقاعية على التبعية لكل قوي، سوفيتياً، قومياً إجرامياً، وطنياً بيروقراطياً فاسداً، والآن شمولية إيرانية مريضة تتقيأ أحماضها على الدول المجاورة، ولا يمكن لمن لم يقمْ بشحذِ أدواته التحليلية وممارسته النضالية ضد كل هذه التعاقبات السياسية الاجتماعية الاستغلالية إلا أن يبقى كحباتِ زئبق صغيرة تتدحرجُ نحو الصلابة النقودية القوية.

إن التبعية للدينيين التي تمت في خلال العقدين الأخيرين هي ذروة الكارثة، هي التتويج للخواء الفكري الذي استشرى وتغلغل مع نضوب القدرات على التحليل العميق الواسع لكل الظاهرات، وغدا جملاً سياسية مكرورة تنمطية، وقد كان الدينيون أكثر القوى الفكرية الاجتماعية التي تعرضتْ للنقد من قبل الفصائل التحديثية على مدى قرن من النهضة العربية، وكان استبعاد ممارساتها السياسية واستخداماتها للأديان بشكل تجاري، كان قاب قوسين أو أدنى من النجاح، لكن مع ظهور رأسمالية الدولة الإيرانية و(رعايتها) هذه القوى انتعشت مرة أخرى.يعبرُ الموتُ السياسي لهذه الجماعات عن انهيارِ رأسماليةِ الدولة الشمولية بكل أشكالها، والتي راحتْ تحتضر وتواصلُ ذلك في العديد من دول العالم الثالث، فيما تتصاعد الجماعاتُ الديمقراطية والليبرالية معبرة عن تصاعد الشرائح الوسطى المختلفة في مرحلة جديدة من تطور الرأسمالية الشرقية، حيث تتطلب أبنية مختلفة، وتغيير ظروف الكادحين ونشوء علاقات ديمقراطية بين القوى الاجتماعية والمستويات الاقتصادية.

ويحدث هنا جذب للدينيين إلى الليبرالية بدلاً من جر الدينيين الواقع والجماعات للوراء، وهذا كله لا ينفي دور اليسار، لكنه يسار جديد ديمقراطي، تجاوز الاشتراكيات الشموليات العالمية والقومية، وسدها لآفاق التطور اجتماعياً وثقافياً.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 30, 2019 07:36
No comments have been added yet.