عبـــــــدالله خلــــــــيفة : التفككُ الثقافي

  [image error]
تتخثرُ الإرادة بعد سنين فعقود، وتكف العينان عن القراءة، والتحديق في الأشياء، والحفر في التاريخ.
لا إراداتٍ صبور، ولا قدرة على الصعود الحقيقي، النازف، المتعب، المضني، تسألُ الذاتُ نفسَها: أكل يوم قراءة؟ مستحيل! أكل يوم تفحص؟ لا يستطيع مثقف الليل أن يصير هذا، أفي كل أسبوع كتاب؟ مستحيل تضيع الكتب في السيارة وبين ثياب الأولاد غير المغسولة وأهرام العلب الفارغة.
في زمن الشباب ثمة بعض الهمة، والصعوبات كثيرة وكبيرة، ولا يمكن أن تدع القيودُ والهياكلُ العظمية والمقابر والزنزانات والملفات العتيقة وفقدان النظرة والموقف أن تتطور الذات كما تشاء.
تلجأ إلى السرعة في النقد، وإلى تحطيم الرؤوس الفنية والإبداعية بارتجال حاد، تصعب لملمة الأوراق، وتصعيد أفكار الوعي والتحليل والنقد، وربطها بالحالات الاجتماعية والنماذج البشرية والمصادر.
تتلكأ الكتابة، لا تغدو تغييراً للذات الارتجالية، الفوضوية. الحالات الشعرية الوامضة المتقطعة عبر سنين تموت.
الكتابة الساخنة تتطلب قضية، والذات الذاتية تريد أن تتسلط فوقها الأضواء، أن تعلو فوق المسرح، أن تجري وراء المهرجانات، أن تحصل على مكاسب مادية كبيرة.
الذاتُ الذاتيةُ تتوهمُ القضيةَ، غير أن لا طبقةَ تناضلُ من أجلها، ولا شعب تناضل من أجل توحيده، ولا جماعة تنمو من إشعاعاتِها، فأوراق العمر المتراكمة النقدية والإبداعية تضيع، تبحثُ عنها في المخازن والملفات وسلات المهملات والمكتبات غير أنها تضيع، خيوطُها انقطعتْ بشرايين الفكر ولغة الشعب، فصارت عرائس من البلاستك، ونواطير مزارع تخيف الطيور الباحثة عن أعشاش.
لا تجسد موقفاً سياسياً فكرياً ثقافياً متجذراً، تغدو فقاعة، الدراسة التحليلية العميقة هي المفقودة هنا، لأنها تأصيلٌ وتشريحٌ وتبيانٌ للموقف. إن الدراسةَ تفجيرٌ للفقاعة.
تستطيع أن تمارسَ استعراضاتها على الفقراء الخائبين في فهم القضية، على القرويين الذين تزعمَهُم أعداؤُهم، فهنا المكسب بالمجان.
في عقود عديدة لم تستطع الذات الذاتية أن تنتمي إلى القوى الحية فتعود إلى الطوائف، فهي لا تراكم تنويراً، أو نضالاً، بل تنتفخ على المسرح وتصبح بالوناً.
كل بضع سنين لها قضية معاكسة للقضية السابقة.
وبين القضايا ليس ثمة خيطٌ من تراكم الوعي الديمقراطي، بل مواقف حربائية متعددة اقتضتها المصالح والانتفاخات والعفوية الصارخة.
فمن الصعب أن تصلَ الذاتُ الذاتيةُ إلى أعماق القرويين، المتألمين الحالمين، الذين يركبون خيولَ دونكيشوت، ودون كيشوت له قضية.
الصراخ لا يغير التاريخ، والدوران حول الذات، لا ينتجُ شيئاً فيها، وحب المرايا ورؤية الذات العظيمة كل يوم، يقللُ من قيمتها ويكسرها.
تصبحُ قوى الإبداع التي لا تحفر ولا تنقد مسطحة فتتصارع في المسائل الطائفية، لأن هذه المسائل هي سطوح الواقع ومستنقعاته. إن الذين تاهتْ أوراقُهم وبحوثهم ونصوصهم الأخيرة الممزقة ومسوداتهم وذواتهم يتوهون في معركة الريح.
تضاف أجيالٌ جديدة للصحراء الثقافية، فتجد ان الإبداع فرجة ونصوص باهتة، فيزداد الرمل، وتتقلص شروطُ الكلمة.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 17, 2019 14:23
No comments have been added yet.