عبـــــــدالله خلــــــــيفة ‏‏‏‏‏: ما بين الدين والفنون من اتصال

سادت عداوة تاريخية مرحلية بين الدينين اليهودي والإسلامي وبين الفنون بسبب ظهور هذين الدينين بين شعبين بدويين، كانا لا يزالان في المرحلة البسيطة من التطور، ومحاولة هذين الشعبين تجاوز الوثنية، وقيام الوثنية على تلك الفنون.
 نقولُ (الفنون) خاصة بسبب أن الآدابَ أكثر تجريداً فهي فنون كذلك لكنها مرتبطة بصناعةِ الكلمة، وبالتالي لم تكن لها علاقة وثيقة بالوثنية، فالشعرُ ينشرُ فيه بعض الكلمات الوثنية، لكن من الممكن تحوير هذه الكلمات الدينية القديمة إلى الألفاظ المقدسة الجديدة، كما فعل العرب تجاه قصائد الشعراء (الوثنيين) كطرفة بن العبد وامرؤ القيس وعنترة وغيرهم، وهذا ما حدث لسجع الكهان كذلك.
 لكن الفنون كان من الصعب تحوير الكلمات فيها، وشطب بعض المفردات لتستوي ذات قوام ديني إسلامي، فهي تماثيل لآلهات وآلهة معبودة، كما أن الاغاني والرقصت تحتفي بتلك الألوهية المفرقة.
 كان القرار السياسي الأسهل هو شطب هذه الفنون كلية، لكن الشعر وهو حياة العرب من المستحيل شطبه، وقد ساعده بناؤه الفني اللفظي، الذي لا يُحطم، بل هو موجودٌ في العقلِ والذاكرة والروح، ومتصلٌ بمفاخر القبائل وأيامها، وهذه القبائل أكبر من الأوثان وأبقى في التاريخ!
 فلا عجب أن سلمَ الأدبُ من شعرٍ وقصةٍ وأمثال من الانقلاب الديني الذي حلَّ بالأمة العربية وهي في طور قبليتها البطولية تقتحمُ العالمَ وتشكله!
 وهذا الطور البطولي الشعري، حل محله طورٌ آخر، هو طور المدنية وطور النثر وطور الفنون، فلم تعد الأوثانُ سوى ذكرى غابرة، وقاد العربُ مجموعة كبيرة من الشعوب إلى عبادة الله، وابتعدت الفنون عن ماضيها، وغدت جزءاً من حياة الشعوب الإسلامية في تاريخها الحضاري الواسع المتنوع، وإذا كانت الفنون التجريدية المعتمدة على الخطوط قد غزت كتابة القرآن وعمارة المساجد وتشكيل الأبنية، فإن الفنون التصويرية قد انتشرت في الكتب والملابس والأقمشة والأواني الخ..
 فكتبُ الملاحم ككتابِ عنترة بن شداد وكتب القصص ككتاب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة كلها مليئة باللوحات، أما الرقص فقد واصل الرقص الشعبي حضوره وتنوع بتعدد الشعوب الإسلامية. أما الرقص ذو الطابع الاستمتاعي الشخصى فقد كان منتشراً فقط بين علية القوم نظراً لتكاليفه الباهظة!
 أما الغناء فقد كان أكثر قدماً وحضوراً واتساعاً خاصة في مدن الحجاز من العصر الإسلامي الأول، ولهذا حين احتل الخوارجُ المدينة في إحدى غاراتهم منعوا الناسَ من الغناء فثاروا عليهم وطردوهم!
 في أوج عصر الحضارة العربية اندفعت الفنون في كل جوانب الحياة، فإضافة للفنون التزيينية والبصرية بدأت الفنون التشخيصية في الانتشار سواء في الاحتفالات الصوفية أو المذهبية المختلفة أو في الفنون المجردة (الدنيوية) المحضة كخيال الظل والقرقوز وغيرهما، وهي أشكالٌ راحت تجسدُ الإنسان من خلال تمثله للرموز أو من خلال الأدوات الوسيطة كاللعب والمصابيح والظلال.
 كان الفهم الديني التقليدي لا يزالُ عالقاً بهذه الظاهرات الفنية، وظل الخوف من تجسيد الإنسان حاضراً، وفيه جذور من المخاوف القديمة عن مسألة (الخلق)، لكن يتوارى وراءها خوف السلطات المختلفة من تمثل وتجسيد قضايا الإنسان.
 إلى أن جاءت النهضة الأوروبية وصعدت من هذه الظواهر إلى التجلي الإنساني الواضح، فظهرت المسارح وصعدت الفنون إلى مستوى كبير.
 ويلاحظ أن الفنون الراقية كانت دائماً أساس نشر التطور الأخلاقي الرفيع، وهي دائماً فنون محاصرة، في حين أن الفنون المتدنية القائمة على الحس الهابط ونشر الغرائز هي المروج لها، وهذا يتعاضد مع طابع التعليم والحياة الاجتماعية عامة، التي تجعل الناس في بؤس دائم لا يتحرك فيهم سوى الغرائز، بل يتصورون أن أي فن رفيع كالباليه بأنه فن غرائزي!
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 05, 2019 11:33
No comments have been added yet.