بداية جديدة لانطلاق السحر

كان السحر جزءً من التكوين الديني العريق في المنطقة، ولم تقم الأديان بتجاوزه، فهي رغم رفضها لاستخدامه لكنها لم تستطع إلغائه، وهو لا يزال يعيش حتى العصر الراهن، فلم يحدث في العصر الديني الوسيط تحول جذري عن البنية الرعوية ـ الزراعية. وكان1+2 الاتجاهات المثالية في الفلسفية العربية الإسلامية السحر موجوداً في الجزيرة العربية قبل الإسلام وأستمر بعده. فالقرآن يذكر (وغاسق إذا وقب) و(النفاثات في العقد) ، وهذه تعبر عن دور القوى الطبيعية والساحرات في التدخل في الحياة البشرية. إن دور القمر في التأثير على الوعي السحري ـ الديني كان كبيراً، وعبادة النجوم والكواكب كانت متأصلة في الجزيرة العربية ، والمنطقة عموماً. وكان الانفصال بين العرب وسكان المناطق الشمالية واضحاً في عبادة العرب للقمر ، ومنها تشكلت السنة القمرية ، وهي غير مرتبطة بالزراعة ، فيظهر طابعها الرعوي جلياً، في حين كان سكان الشمال، الذين سوف يصيرون عرباً، مرتبطين بالسنة الشمسية ، ذات الأهمية القصوى للزراعة ، إن هذا يوضح التضاد الأقصى بين جزئي المنطقة المتباينين.
وكما تتبعنا التداخل بين القسمين في مختلف تجليات الوعي ، عبر العملية التاريخية الصراعية ، فإن قراءة تطورات السحر هامة ، لمعرفة دور هذا العامل في التفاعلات الاجتماعية والفكرية، وكيف إن الانتقال إلى القسم الشمالي الزراعي، وبدون حدوث تغيرات صناعية هامة ، سوف يعزز الجانب السحري في الوعي، كما سيؤدي إلى نهوض الماضي الفكري.
إن كلمة (النفاثات في العقد) تعطي ملمحاً هاماً للمشترك بين الشمال الزراعي والجنوب الرعوي ، يقول ميرسيا ايلياد في كتابه صور ورموز:
(في بلاد الرافدين ، هنالك آلهة ذات سلطان مطلق مثل إنليل وزوجته نينكورساك (...) وجميعها توقع في شباكها الجناة الذين يقولون الزور، ويحنثون باليمين، وأما شاماش ، إله الشمس، فسلاحه، الأربطة والحبال)، ويضيف:(1ـ هناك "الأربطة" السحرية ، المستخدمة ، أثناء الحروب، ضد الخصوم من البشر. 2 ـ وهناك " العقد والأربطة" الدالة على اليمن وحسن الطالع ، والمستعملة كوسائل للدفاع ، ولدرء خطر الحيوانات المتوحشة ، ولتحصين الفرد ضد الأمراض، وضد الأبالسة والموت ، والمفيدة أيضاً في مواجهة رقية الشر والأذى) ،( 1 ).
وهكذا فإن العقد هي شكل سحري مستخدم بوفرة في الجزيرة العربية والمنطقة ، وتعبر عن التداخل العميق بين هذين الجزئين الجغرافيين ، هذا التداخل الذي أستمر لآلاف السنين ، ولكون الوعي السحري أعمق تجذراً في الحياة الاجتماعية ، ولا يحتاج التأثير السحري في هذا النفث سوى إلى تكوين هذه (العقد) وحلها ، عبر التعاويذ واللغة السحرية. إن كافة أشكال الرقى مبثوثة في استخدامات الوعي الإنساني لفك العقد الطبيعية والاجتماعية ، وتصل إلى ذروتها باستخدام النجوم والكواكب ، باعتبار هذه الأجرام مؤثرة على الوجود البشري.
يقول أبن خلدون حول دور الأمم القديمة في إنتاج السحر:
( كانت كتبها كالمفقود بين الناس(..) وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين وفي أهل مصر من القبط وغيرهم وكان لهم فيها التآليف والآثار ولم يترجم لنا من كتبهم إلا القليل مثل الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل فأخذ الناس منها هذا العلم وتففنوا فيه ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة وكتاب طوطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرهم ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة الخ..، (2 ).
لقد كان السحر موجوداً ومنتشراً لدى العرب ، ولكن تحوله إلى ظاهرة فكرية ـ سياسية واسعة أمر أحتاج إلى شروط موضوعية ، فقد رأينا السحر لدى خالد بن معاوية ، كبير المثقفين الأمويين، والذي قيل إنه استخدمه لتحويل المعادن" الخسيسة" إلى ذهب ، ولم تكن هذه سوى ظاهرة فردية ، وعبرت هذه المحدودية السحرية عن انشغال العرب بالفتوح ونشر الإسلام ، وتوفر مستويات معيشية جيدة لهم قياساً بالأمم المغلوبة ، وفي العصر العباسي الأول ، وبعد منافسة الفرس وانتشار اللغة العربية، وبدء التغلغل العربي في العالم الزراعي، وحدوث التمازج مع الأمم الأخرى ، بدأت البنية العربية الرعوية الذهنية في التبدل ، كما بدأت عملية تصعيد الأمم المغلوبة لتراثها القديم باللغة العربية ، واعتباره أداة مقاومة سياسية لثقافة الفاتحين . وكانت ركيزة هذه الثقافة هي السحر وعبادة الكواكب في المشرق خاصة.
وفي هذه المرحلة ، يبرز أبن وحشية في هذه العملية الإستعادية للإرث القديم ، يقول أحد المساهمين في كتاب(تراث الإسلام) :
( وقد اشتهر أبن وحشية كجامع وشارح للمؤلفات القديمة في العلوم ، وبأنه مترجم لكتاب في أحكام النجوم لمؤلف يعرف بأسم تانكالوشا (..). واشتهر كذلك ناقلاً لكتابات بابلية قديمة مزعومة أشهرها الكتاب المعروف باسم " الفلاحة النبطية ". وكتاب السموم (...). وهذه الكتب ، كما نرى في هذا العرض ، ليست دائماً مؤلفات حول موضوعات غيبية، بل كان من بينها أيضاً كتابات لها قيمة علمية كبيرة ، وإن لم تكن تخلو تماماً من المادة الخرافية.) . ويقول المؤلف إن هذه الاستعادة ليست بعيدة عن إثبات تفوق البابليين على العرب الفاتحين ، كما يرى أبن وحشية. ( 3 ).
إن تمازج المنظومات المعرفية الثلاث:السحرـ الدين ـ العلم هو أمر شائع في العصرين القديم والوسيط ، وفي البدء كان السحر مسيطراً ، وحين حل الدين فإنه لم يلغه ، بسبب الطبيعة الفكرية المشتركة ، فكلاهما يعتمد على الاستعانة بالقوى الغيبية، لتغيير المادة والواقع، وكلاهما يتغلغل في الوعي البشري لإحداث الفعل المطلوب، وإذا كان الدين يعتمد على القوى الخيرة فالآخر يعتمد على القوى الشيطانية، ثم ألتحم الأخير بالقوى الغيبية المرئية كالكواكب و النجوم ، وفي تضاعيفهما لا بد من توفر المادة المعرفية الموضوعية كذلك ، بسبب إن هذه المادة لا بد منها في إثبات غيبهما. وإذا كان العلم يتشكل كنقيض للشكلين السابقين ، فإن ثمة وشائج تعاونية بينه و بين الدين ، بسبب إن غيبية الدين عامة وغير متدخلة في تفسير مختلف الظاهرات ، ولكن مع محدودية العلم فإن الشكلين السابقين يتقدمان لتفسير الحياة و الطبيعة ، ويرتبط تطور العلم بنمو الصناعة والوعي الحر المستقل ، و كما رأينا ـ في الفصول السابقة ـ فإن ذلك مرتبط بسيطرة الأشراف على الملكية العامة ، و تطورات الصراع الاجتماعي . فمع استقرار النظام الاجتماعي في علاقاته الزراعية خاصة و تدفق التجارة ونمو المدن ، تتشكل هوامش للتطور العلمي ، و مع تقلص هذه الهوامش وحدوث أزمة فإن انهمار الغيبيات السحرية والدينية سيكون حتمياً ، ونستطيع أن نعتبر ذلك أحد قوانين التطور في المنطقة.
وفي عصر الدولة العباسية الأول رأينا كيف تدفقت الفوائض المالية من الزراعة والضرائب ، فاتسعت المدن وتطورت التجارة ، وكان الدين والعلم هما الظاهرتان الناميتان في الحقل الثقافي ، وكان السحر موجود كعناصر ظاهرة، و كمثال عليه ترجمات كتب السحر كما فعل أبو جعفر المنصور، وهو موجود كعناصر متوارية لدى العامة ، وبشكل خاص أهالي البلدان المفتوحة ، كما قال أبن خلدون، و مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وتحولها إلى حركات سياسية وثورات ، يبدأ التصدع في المستوى الفكري ، فتتشكل ظروف لزيادة مساهمة السحر في الحقل الثقافي ، وحينئذٍ تتكاثر الترجمات لكتب السحر و يظهر مؤلفون مختصون بذلك كأبن وحشية و جابر بن حيان كبير السحرة في التأليف العربي ، كما يصفه أبن خلدون.
أي أن الدين والعلم ، بوضعيهما الملحقين بسيطرة الأشراف ، يعجزان عن تحليل أسباب الكوارث المتلاحقة على البناء الاجتماعي العام ، فقد قال الدين بأن المجتمع مادام في رعاية الإسلام فهو المجتمع المعقول والمحمي إلهياً ، و لكن توالي الأزمات والحروب أخذ ينشر علامات الاستفهام حول هذه المعقولية ، و كان الدين الرسمي قد جعل العلم ملحقاً به ، و هو علم يقوم على الترجمات والمبادرات الفردية ، و نظري غير تجريبي ، و غير منتشر بين العامة ، وهكذا ظهر شخص كأبن وحشية يعتبر العودة إلى تراث الرافدين القديم بطابعه السحري وعبادته للنجوم والكواكب ، حلاً وبديلاً عن وعي الدين الجديد .
إن أزمة سيطرة الأشراف العباسيين على السلطة ، تخلق بداية أزمة فكرية عميقة في الدولة الواسعة، فإذا كانت المزدكية قد عادت إلى أقسام من إيران ، ثم فشلت سياسياً وفكرياً، و انبعثت القبطية كثورة في مصر ، وترك أهل شمال أفريقيا المذهب الخارجي و تبنوا المذهب المالكي ، ولهذا فإن أديان ما قبل الإسلام و المذاهب المتطرفة ، لم تستطع أن تسود ، و أخذت مجموعات الشعوب المختلفة تدخل في الإسلام رغم هذه القلاقل ، و تبدأ بأخذ صيغ منه تعبر عن وضعها الخاص وتجربتها.
وفي أزمة سيطرة الأشراف على المركز ، ومع حل هذه الأزمة عبر إعادة النظر في هذه السيطرة المركزية الشديدة ، فإن الخريطة السياسية والاجتماعية سوف تتبدل ، وتبدأ عمليات جديدة من التكوينات الفكرية تنمو في مخاض جديد ، يبدأ من هذه العناصر الجديدة المتكونة على مدى القرنين السابقين ، ومن العناصر الماضوية البعيدة ، فيأخذ عناصر من الإسلام وعناصر من الأديان القديمة ، من الدين والعلم والسحر على السواء ، بمعدلات تعكس التجربة المناطقية لكل أقليم وبلد.
إن محاولة المركز فرض صيغة من التجريد العقلي ، المنقطع عن أخذ المصالح العامة للأقاليم وعن التقاليد المتشكلة خلال الماضي الإسلامي ، إن هذه المحاولة تفشل ، وتبدأ صيغة مشتركة ، من المركزي والمحلي ، من ما هو إسلامي مشترك و ما ينبعث من التقاليد المحلية، ومن المجرد والملموس ، من ما هو إسلامي و من ما هو قبل إسلامي ، من ما هو ديني ومن ما هو سحري و من ما هو علمي. والنسب بين كل ذلك تخضع للفاعليات الملموسة في التاريخ الخاص والعام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(1 ): ( منشورات وزارة الثقافة، دمشق،1998 ، ص 150ـ 152).
( 2 ): ( فصل علوم السحر والطلسمات ، المقدمة ص 393 ، طبعة دار العودة ).
( 3 ):(ج 2 ، عالم المعرفة 1998ص 147 ، 148 ).
https://www.goodreads.com/book/show/4...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 15, 2019 16:39 Tags: بداية-جديدة-لانطلاق-السحر
No comments have been added yet.