النسخُ والتغييرُ

الأديانُ البشريةُ أدواتٌ فكريةٌ ظهرتْ في الأزمنةِ القديمة، حاولتْ تغييرَ حياة الناس لمراحل أعلى، وبأدواتِ تلك العصور الثقافية.
إن نسخَ النصوصِ الدينية المقدسة كان يطرحُ سؤالاً إشكالياً لماذا لم تظهرْ النصوصُ كاملةً وجاءتْ على دفعاتٍ؟
هذا السؤالُ كان يخصُ الإسلامَ بدرجةٍ أساسية، لأن الأديانَ الأخرى جاءتْ النصوصُ فيها بعد أن إنتهتْ التجربةُ الدينية، في اليهوديةِ جاءتْ بعد مئاتِ السنين، وفي المسيحيةِ بعد عشرات السنين، فظهرت هناك مسافةٌ بين الفعل وتدوينه.
وتدوينُ النصوصِ الدينية يتأخرُ بشكلٍ متفاوتٍ ومعبرٍ عن سرعةِ الحركةِ التاريخية، فالزمنُ القديمُ الذي نشأتْ فيه اليهوديةُ كان الزمن السياسي فيه بطيئاً، ثم أخذتْ الحركةُ التاريخيةُ تتسارع، بسببِ إلتحاق الشعوب البدوية بدوائر الحضارة، فجاء العربُ في نهاية المطاف فكانت الحركة الدينية تجري مع التدوين.
ولكن النسخ حتى في الأديان السابقة كان متضمناً، فظهور النص بعد تاريخ الأنبياء، كان يعني عدم مطابقة النص للسير اليومية وللتسجيل الدقيق للكلمات وللغات وللحقائق، كان يعني الإنتقاء والتفسير والإضافة والإختصار.
وهي أمورٌ بالغةُ التشعبِ والاتساعِ بحيث إنهمرتْ عليها البحوثُ وآلافُ الكتب ولم تنته بعد.
في الإسلام كانت فترتا الذكر القرآني في مكة والذكر القرآني في المدينة، تحيلان إلى زمنين إجتماعيين مختلفين، لكن كان الذكرُ يجري مع السيرة، ويتدفقُ اللفظُ والفعلُ معاً، كانت ثمة تسجيلية دقيقة هنا. وبعضُ العرب كان يحفظ حتى بدون تسجيل، فيرى إختلافَ النصوص، ويندهش كيف يبعثُ الإلهُ نصوصاً مختلفة، فالإلهُ في تصورهم خارجَ الحركة والإختلاف وهو يعرف الأفعال قبل حدوثها، والبشر مسيرون به.
فلماذا كان نسخ الآيات وأن تتبدل الأحكام وتتغير؟
مفردة(النسخ) تحوي هذه الجوانب المتضادة، فالنسخُ تكرارٌ للقديم والنسخٌ تجاوز للقديم. وهذه التعابيرُ المختلفةُ تعكسُ طبيعةَ الحركةِ التاريخيةِ الدينية هنا في أن تحافظَ على طبيعتِها الإلهية المُفترضَة السرمدية الأبدية، وأن تكون متغيرة في ذات الوقت. وهذا كان أمراً محيراً في ذلك الوقت وحتى الآن.
(ما نَنَسخ من آيةٍ أو نُنسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مِثِلها ألم تعلم إن اللهَ على كل شيءٍ قديرٌ)سورة البقرة 106.
سورة البقرة المدنية الطويلة التي جاءتْ في زمنِ الهدوء السياسي بالمدينة، واتجهتْ للرؤيةِ العميقة البعيدة، وربطت بين الصراع الراهن بين المسلمين الوثنيين، وقراءة التاريخ، فسرتْ النسخَ تفسيراً يشوبهُ الغموضُ الشديد كذلك، فكيف يكون النسخ أفضل من الكتابة السابقة وكيف يحدث النسيان في الذاكرة الإلهية؟
هنا ثمة فترتان من الصراع السياسي الاجتماعي مختلفتان، ففي الفترةِ المكية طُرحَ الخيارُ السلمي في التغيير، كان ثمة في البدء هجومٌ كاسحٌ على السلطة السياسية والسلطة الدينية، المتفارقتين في مكة، السلطةُ السياسيةُ غيرُ مركزةٍ في يدٍ واحدة، كان ثمة حكمٌ جماعي بين الملأ، ولكنه ضيقٌ مرتبطٌ بمدينةٍ واحدة، وكانت الأحوالُ تدعو لدولةٍ موحدةٍ متوسعة كذلك، وكان يناسب المستوى السابق المفكك أفكارٌ دينية تعددية وثنية تعكس حياة القبائل وأفكارها وتصادماتها.
هذا المناخُ السياسيُّ الصراعي البطيء لم ترضاه الدعوةُ الدينية الإسلامية، فهي تريدُ دولةً موحدةً، سريعةَ التشكل، تقومُ بالتحولِ لدولةٍ عالمية ذات رفاهية وليس أن تبقى محصورةً في الجزيرة العربية الفقيرة.
(لعل هذا ما سوفَ تنسخهُ، بمعنى تكررهُ هنا، تجاربٌ سياسيةٌ إسلامية أخرى قادمةٌ على مدى التاريخ فكلُ قائدٍ سياسي طموح كان يريدُ أن يحكمَ وأن يتوسعَ وأن يخلقَ دولةً مزدهرة عبر الفتوح).
البقاءُ في مكة لم يُنتج دولة، والوثنيون تمسكوا بدويلتهم، ولم يريدوا الارتفاع لما هو أكبر، لأن الملأ المكي كان ثرياً، ليس بذي فقر وعوز، وتجارته التي تعطيه الرفاهية تقومُ على هذا البناء المدني الصغير وعبر المعاهدات مع القبائل والدول الكبرى.
في حين أن الطبقات الفقيرة والتجارية الصغيرة الطموحة لم تكن مثل الملأ المرفه، ولهذا فإن عناصرَ منها إنحازتْ للدعوةِ الإسلامية التي كانت أشبه بمغامرة سياسية كبيرة خاصة بالنسبة للملأ الخائف من التغيير، في حين أن الفقراء والمعوزين لن يخسروا فيها شيئاً وسوف يربحون كثيراً، وقد بُشروا بالأرباح الجزيلة في الدنيا والآحرة.
إن لغةَ (الأرباح) تشيرُ إلى العقليةِ التجارية(البرجوازية) النهضوية هنا، فجماعاتٌ تعيشُ على البضائع يستحيل أن لا تتسرب اللغةُ البضائعيةُ إلى مفرداتِها المقدسة، خاصة إنها تجري في حالةِ السيولةِ التاريخية. إن الأرباحَ الدينية مؤجلة آخروية، لكن الفتوحات جعلتها دنيوية.
إن الدعوة السلمية وصلتْ إلى نهايتها بعد أكثر من عشر سنوات في مكة، فالوثنيون بدأوا العنفَ وتآمروا لقتل الدعوة عبر سفك الدم، وهو أمرٌ ينهي العلاقة القرابية المقدسة التي كانت تسري تحت مجريات الصراع، لقد حطموا القبيلة التي هي أكبر من الأوثان ومن الحكم، وبالتالي ظهرت أهمية العنف المضاد.
وإذا ظهرَ العنفُ ينفجرُ العنفُ المضاد، هذه أولُ دروس التاريخ الديني الإسلامي.
قريش صارعت قريشاً، طبقةٌ عليا أرادتْ أن تجتثَ رؤى طبقات دنيا.
ماذا يحدث للنص الديني في هذه الحالة؟ هل يواصل الألتزام بوحدانية القبيلة وبالعمل السلمي وإجتثاث أموال الأغنياء الفاسقين عبر المصادرة؟
العنفُ المكي ولدَّ الهجرةَ والهجرةُ ولدَت الدولةَ الإسلامية فتبدلت الظروفُ كثيراً. المصاجرة إلغيت وحلت الزكاة، والحوار السلمي صار كفاحاً مسلحاً، فنسخت آيات، فماذا؟
في المدينة ظهرتْ ظروف موضوعية أخرى، ظهرت دولة وعليها أن تكّونَ وسائلَ القوة والقمع لديها، وهي دولة فقيرة معوزة، ليستْ لديها موارد، فلا تستطيع أن تصادرَ أموالَ الأغنياء الكبار فهم غير موجودين إلا بشكل التجار اليهود الذين إنساقوا ضد الدولة، حتى حصلتْ أسباب لمصادرة أموالهم وحياتهم كذلك وتقوية ميزانيتها.
لم يعدْ للديانةِ الإسلامية وقد صارتْ دولةً أن تبقى فقط في عالمِ الحوار الفكري المكي، بل هي فكرةٌ وقوةٌ معاً، ديمقراطيةٌ داخلها ودكتاتوريةٌ ضد أعدائها.
الدولةُ التوحيديةُ في زمنِ الخطر تتشكلُ نصوصٌ في إطارِ ظروفها وغالباً ما تُرفع هذه النصوص بشكلٍ تجريدي من ظرفها فيما بعد من التاريخ وعبر مفسرين سياسيين، وتؤدلجُ، أي تُوضع لظروفٍ ليست هي ظروفها.
أي أن الديمقراطية في المدينة المنورة ككل تُنسى وتُؤكدُ الدكتاتورية، حتى لو كان الظرف غير ظرفها، والحاجة لنقيضها.
عموماً تاريخ مكة الديني غير تاريخ المدينة، تبدلت الظروفُ والأحكام، وصار الهجومُ على الأغنياءِ وإكتنازهم المال منتفياً ومرفوضاً بل المطلوب هو تثمير المال وزيادته لتوسيع حضور الأغنياء في دولة المدينة، بشرط أن يُزكى منه، فالزكاة تغدو العلاقة الضريبية التي تؤدي لازدهار الدولة وقوتها.
هذا يجسد الرأسمالية الحرة والدولة غير الرأسمالية، فرؤوسُ المالِ موجودة لدى التجار، والتجار هم المهيمنون على رأس المال المتحرك، الذي يغذي العمليات الاقتصادية فتتطور عمليات الإنتاج بوسائل(طبيعية)، وفيما بعد، أي حين تستولي الحكوماتُ على المال العام، لا تعودُ هذه الآياتُ والسورُ منطبقةً على حالاتها رغم إستشهادها بها.
ولهذا فيما بعد حين تغدو الحكوماتُ متحكمةً في المال العام تتجمد العملياتُ الاقتصاديةُ في خاتمة المطاف. وكان يُفترضُ إن هذا النسقَ الحر هو الذي يسودُ في فضاءِ الملةِ أو الأمةِ المؤسسة، التي تتفرعُ عنها الأممُ الإسلامية.
بعد ذلك سوف يقيسُ المسلمون في حالاتهم الاستبدادية وهيمنة الحكومات على المال بذلك المثال الإسلامي التأسيسي الذي لا ينطبق عليهم.
ومن التحولات التاريخية في النص القرآني هنا صيرورة الحرب ضرورية لتغيير الأوضاع السياسية. رغم أنها مكروهة وذات شروط صعبة.
التاريخ هنا يتسمُ بالإختزال، فدكتاتورية مكة يُهربُ منها وتحقُ الهجرة عنها فيما ديمقراطية المدنية تُمنع الهجرةُ منها، ويؤكدُ البقاء والصمود فيها.
وهنا شدد العلماءُ فيما بعد على معرفةِ أسبابِ النزول للآيات والسور، لتحديدِ الألفاظِ والمعاني كلفظةِ (الهجرة) ذات المعنيين المختلفين هنا، بخلافِ أقوالِ جماعة التكفير والهجرة التي تعِّومُ لفظةَ الهجرة، وتجعلها مجردة، فلا يجوز لدى العلماء الهجرة من مدن المسلمين فلا هجرة بعد فتح مكة.
فكلُ مفهومٍ مركزي يخضع للتاريخ، لمصلحة تقدم العرب والمسلمين. والهجرةُ للمدنيةِ المقبولة غير الهجرة للبداوة المرفوضة.
الصلاة التي كانت في مكة غير محددة تُحدد بأوقات معينة في المدينة، تغدو مؤسسةً من مؤسساتِ النظام، وتصيرُ مؤسسةً شبه عسكرية ومؤسسةَ تعبئةٍ معنويةٍ على مدار اليوم، أي تتطلب من الناس الاستعداد الدائم للعمل السياسي بل وللعمل الحربي، لأن المدينةَ في حالةِ طوارئ، في حالةِ تأسيسِ دولةٍ قابلةٍ للهجوم والمحو في كل لحظة. إن هذه العسكرةَ مرتبطةٌ بزمانِها، لكن فيما بعد ستغدو حالات الطوارئ لدى الحكومات والجماعات الإستغلالية أبدية للهيمنة على المسلمين.
إن النسخَ هو من أجل التغيير المتصاعد، من أجلِ نمو المدينةِ بدون حالاتِ طوارئٍ وبتجارةٍ حرة وبزكاةٍ تشرفُ عليها دولةٌ شعبية غيرُ مالكةٍ للمال العام.
الآية السابقة الذكر(ما نَنَسخ من آيةٍ أو نُنسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مِثِلها ألم تعلم إن اللهَ على كل شيءٍ قديرٌ" ( سورة البقرة 106)، تعني في المعنى الكلي العام إنه حتى لو نُسيت الآيات فإن التغيير للأفضل هو الهدف، فالتقدم هو الأساس، والآياتُ أدواتٌ فكريةٌ لكشف سبل هذا التقدم.
النسيانُ والإتيانُ بالمثل أو بالأفضل، لغةٌ إنسانية، فالإلوهيةُ تتداخلُ والأنسنة، هي حالةٌ تعيشُ مع البشرِ وحراكهم التاريخي لأجلِ تقدمهم، بسببِ الظروفِ المتغيرة، وللتصدي لهذه الظروف بمواقف أعلى. هي حالةٌ رفيقةٌ بهم، ولتشكيلِ نظامٍ سياسي يتطور مع حاجاتِهم في أجواءِ الحرية. وبعد ذلك سوف تُفسر هذه الآيات بشكلٍ آخر مع تبدلِ أسسِ النظام.
تتطلب ظروف وجود الدولة ومؤسساتها أحكاماً جديدة، لكن هل معنى هذا إنه إنتفى الحوار مع الآخرين؟ وإنه لا توجد من حلول سوى لغة القوة والعنف؟
مع الوثنيين المكيين الذين جعلوا هزيمة المسلمين وسحقهم هو هدفهم، من الصعب أن تنتفي لغة القوة، وحتى هذه لها إستثناءات، فالأخوة لم تنقطع والرجاء بتغير هؤلاء موجود، والتسامح معهم مطلوب.
في المرحلة التي تضعُ الأسسَ للتاريخ الديني القادم كان ثمة روح تشريعية مفتوحة، تستبصرُ مصالحَ الجماعة وتطورها في عالم بلا إستغلال حكومي قاهر.
إن المدينةَ لم تصل في وجودها البدوي التجاري البسيط أن تؤسسَ الديمقراطية بشكلها الانتخابي، وفيما بعد ستغدو القوة وحدها أساس التغيير أو الهدم. لكون القادمين فيما بعد سيجعلون من الهيمنة على الموارد العامة أساساً لإعادة تفسير النصوص حسب سيطرتهم.
إن معرفةَ أسباب النزول إذا غدتْ هامةً لفهمِ القرآن، لا بد أن ترتبطَ بمعرفةٍ تاريخيةٍ عميقة في فهم الاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة، فمعرفةُ تاريخيةِ النصِ تكشفُ غناه.
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية by عبـــــــدالله خلــــــــيفة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 15, 2019 16:52 Tags: النسخ-والتغيير
No comments have been added yet.