إشكالية الراعي

انبثقت سلطة العرب من رحم القبيلة، من جذور سيطرة شيخ العشيرة الذي كان راعي غنم، فحول سلطته على الماشية إلى سلطة على البشر.
إن شيخ القبيلة لديه اتجاهان، إما أن يكون مع القاعدة الشعبية في القبيلة والقبائل الأخرى التي تنضم معاً في «شَعب»، وكلمة شعب لغوياً تعني تجمع القبائل المتوحدة.
وإما أن يصير مع الملأ ، مع الأقلية المالية العقارية التي نزفت عاملي القبائل في خزائنها .
لقد تحول راعي الغنم إلى حاكم مطلق، فعمد إلى توظيف الإسلام بخلاف مضمونه الثوري الديمقراطي إلى أن يكون سلطة نص مسيطر على عقل المدينة، أي على عقول أبنائها، ومنعهم من الحداثة، حيث الأفق العريض للحرية، والانتقال من رعي الطبيعة إلى صناعتها.
وبخلاف راعي الغنم البدوي البسيط، الذي يتآلف مع ماشيته ويقدرها ويقيم علاقة مباشرة بين خيمته وحظائرها ، فإن السلطوي الذي وصل إلى الحكم المطلق في تاريخنا أقام حول نفسه أسواراً وعزل نفسه في قصور.
وبدلاً من عصا الراعي وكلاب الحراسة الأليفة التي لا تعض الغنم بل تنبح نباحاً لطيفاً حولها، فإن الحاكم العربي، أقام حشوداً من العسكر الضاري، وغالباً ما يكونون مرتزقة أجانب وبدواً شرسين من المناطق الحدودية، مهمتهم بقاء الغنم البشري في ساقية الإنتاج المتخلف، أو أن هذه الرعية تقدم في مسالخ الحروب كلما توجه الراعي للتوسع، أو ضاقت به سبل الرزق.
وبدلاً من الكلاب وحيوانات الطراد ظهر المثقفون الحافظون على سلامة النص المهيمن، يبعدون الغنم البشري والرعية المعصوبة العينين، عن مناطق الخطر الفكري، ويحفظون ديمومة النص والحقل الأصفر الذي تبقى فيه الماشية ترعى حتى تُذبح.
وهم لا يهشون بعصيهم هنا بل بألسنتهم، داعين الماشية للبقاء في النص الذي سيجوه وأدلجوه. ومن هنا تتعدد خطابات هذه الألسنة من قصائد سلخ أو وعظ أعمى أو فكر فارغ.
ومن هنا يقول محمد بن تومرت: إنه لا فائدة من العقل، ولا من الاجتهاد، فالنصُ كاملٌ موجودٌ، ولا داعي لاستعمال الفكر، وهل يجب أن تستخدم الماشية الفكر ؟
ورغم أن الراعي تحول إلى سلطان مهيمن على مناجم الذهب، فإنه لا يريد أن يُخرج الناس من ثقافة الرعي والغنم، فهو يحافظ على الخيام وثقافة الأساطير، جاعلاً الرعية مستمرة في رعي الكلأ، وهو الحشيش الأصفر من بقايا التراث.
مع انتقالات السياسة العربية الكثيرة إلا أن الراعي والغنم ظلا محفورين في المجتمعات، فظهر رعاة الديمقراطية، ورعاة الآداب والفنون، ورعاة التنمية والابتكارات العلمية والجامعات والأحزاب…
ولكن هذه الرعاية للمجتمع والخدمات فيه لا تتقدم بشكل كبير حقاً، لأن الراعي يستمر في الوجود كسلطة ذات عصا وغنم، فلا أحد يعرف نتاج المرعى، بشكل دقيق. ولا أحد يعرف مصير الغنم بشكل دقيق.
تنتظر ثقافة المرعى المطر والغيث وتنتج الحداء للإبل وإذا تطورت زرعت وسكنت المدينة بأفخاذها وعشائرها، ثم لا تستطيع أن تعمل في المصانع، لأنها مدربة على رعي الغنم، والنوم تحت الأشجار، وترك الكلاب تهش وتتحكم في الغنم الشاردة !
فتجلب عمالاً آخرين لديهم إمكانيات العمل الصناعي، وتجثم هي في الإدارات الحكومية حيث عصا الراعي الذي ينام تحت الأشجار ويترك العشب للمطر، والبهائم للقدر .
ويحن الرعاة لتاريخهم وللخيام وللبر، وجلسات المقاهي، ويكرهون الكتب والعلوم والفلسفة.
رأس المال الحكومي الشرقي
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 15, 2019 16:46 Tags: إشكالية-الراعي
No comments have been added yet.