رسالة

على غير العادة في ذلك التوقيت من العام كان الجو جميلاً رغم إضطرابه خلال الأيام القليلة الماضية، دخل أدهم الكافيه المملوك له المفعم برائحة القهوة الذكية ، جلس في كرسيه المعتاد بالقرب من الشباك المطل على الشارع السكندري ، طالما كان يرى الجمال في الشارع و حركة الناس و أن ما يميز الإسكندرية دونا عن كل المدن التي زارها هو الروح الحقيقية للشوارع ، فلكل شارع شخصية و حكاية.
دون أن يطلب شيئاً قام النادل بإنزال القهوة السادة مصحوبة بقطعة من الشيكولاتة الداكنة أمام أدهم ، و الذي أبتسم للنادل و أخرج علبة سجائره الغير معتادة للناس في هذا المكان و أعطى له سيجارة منها.
كان كل شئ يسير وفق خطته اليومية المعتادة، حتى دخل ذلك الثنائي إلى المقهى، شاب و فتاه يبدون في غاية الحب و الاندماج، الشاب مهندم و طويل ، بجسد صحي و ثياب بسيطة ، أما الفتاة فكانت بسيطة و جميلة ، لا تضع الكثير من مستحضرات التجميل او بمعنى أدق لا تضع إطلاقا هذه المساحيق ، ربما وضعت الماء فقط فوق وجهها و لربما تستيقظ بهذه الصورة ، شعرها القصير الفاحم يزيدها قوة و بريقا.
جلسا أمام أدهم تقريباً و شرعوا في الحديث الهامس، كم كان هذا جميل ، طالما أحب أن يراقب قصص الحب في المقهى خاصته، كانت تلك القصص هي عزاءه الوحيد في فشله السابق في زواجه و فشل علاقاته اللاحقة لما بعد الطلاق، لكن داخله كان هناك شيئا ما يقول له أنه هناك شيئا خاطئ في ذلك، بعد تدقيق بسيط ستجد أن الفتاة غير مرتاحة في الجلوس ، تضم ذراعيها و كأنها تحتمي ، قدمها تشير ألى باب الخروج و كأنها تستعد للرحيل في أي لحظة، بينما كان الشاب يبدو أنه يفرض السيطرة بشكل ما عن طريق ضم يديه على المنضدة مع فتح ذراعيه و رجله المفتوحه بشكل ما بحيث تكون من أمامه في حيز السيطرة الحركية أيضاً اذا ما قامت بالهرب.
كان حديثهم في البداية هادئا و ما لبث ان تصاعدت الوتيرة ، لم يتبين أدهم حديثهم بشكل كبير و لكن كان هناك رفض لشئ ما ، و حتى إنطلقت تلك الجملة التي تعبر عن كل شئ: إما أختيارك لهذا الموضوع أو اختيارك لي أنا شخصياً. هذه تقنية معروفة في علم الإجتماع، عندما تفرض نفسك كملاذ وحيد و أخير للأمان فإنك تستطيع فرض كل شئ على من يلوذ بالفرار أليك، هذه القاعدة رغم بساطتها إلا إنها تحمل في طياتها الكثير و الكثير من التفاصيل المهمة،
قرر أدهم أن يحاول أن يتدخل بشكل لطيف، نادى على النادل و طلب منه تحضير أثنين من الكب كيك و ورقة صغيرة من الورق الخاص بالمقهى.
أحضر النادل ما يريده منه مديره و تركه، و أمسك أدهم القلم لأول مرة منذ فترة طويلة ليكتب شيئاً مختلفا عن الأرقام و الإيراد اليومي و مختلفا ايضا عن إمضاء الشيك الذي تاخذه منه زوجته السابقة شهرياً و شرع في كتابة عبارات صغيرة:
" و ما الحياة الا مجموعة إختيارات صغيرة ، إختيارك للمكان الذي تجلسين فيه لربما يضعك في طريق مختلف، فكري كثيرا في اختياراتك الصغيرة ، فهي من تصنع حياتك كلها. أنت روح قوية بما يكفي"
أنهى تلك الرسالة الصغيرة و وضعها تحت احد الكب كيك و توجه لهم قائلاً:
صباح الخير يا فندم، الكافيه الصغير خاصتنا يرحب بكم و بيقدم لكم الكب كيك ده هدية.
قدمه أدهم لهم و حرص على أن يتاكد من انها رأت الورقة.
لم تستطع ان تخفي دهشتها او ان تدسها في شنطتها دون ان يلاحظ المرافق لها، ببساطة قراتها و ابتسمت ، خطفها منها الشخص الاخر بعصبية و عيناه تطلق شررا ، ظن انها رسالة بها رقم او موعد، و لكن عندما اخذها و قرأها أدرك أنها عبارة تحفيزية، قد تتواجد في اي مطعم مصاحبة لبعض انواع الوجبات السريعة.
بتلقائية سحب أدهم ورقة أخرى شبيهة و توجه بها لهم قائلاً: أسف على عدم وجود النصيحة اليومية في الكيك خاصتك.
ابتسم ذلك الشخص ببرود و أخذها، كل ما لاحظه أدهم بعد ذلك هو بقايا الورقتين و عدم الاكتراث، يلوم نفسه بشدة لما أقحم نفسه في قصة ليس له فيها ناقة و لا جمل و عرض نفسه للاحراج بدون داعي.
خرجوا من المقهى و كانت المرة الاخيرة التي يراها فيها لمدة عامين.
بعد عامين كانت الامور تغيرت، تراكمت الديون عليه و اصبح بلا هدف، تحول أدهم من الشعلة المضيئة إلى الخفوت الدائم، كان يوماً عصيبا يوم قرر الانتحار، جمع كل ديونه و وضعها في طبق و اخرج ورقة بيضاء و مسدسه العتيق، كتب في الورقة:
لقد كانت حياة صعبة، اختياراتي الصغيرة خذلتني ، لم اعد انتمى لهذا العالم.
وضع تلك الورقة في نفس الإناء و فتح التلفاز و أختار رقم 16 ، رقم عشوائي لا يعرف لما اختاره، قام بجعل الصوت على الدرجة الاعلى حتى لا يسمع الجيران صوت اختراق الرصاصة لرأسه التي أتعبته طوال حياته، وضع المسدس على جبهته و أستعد أن يطلق النار و لكنه رأي شيئاً جعله يتراجع فجأة، كانت هي التي رأاها في المقهى منذ سنوات، تستضيفها احد القنوات المحلية، ترتدي ميدالية ذهبية و تبتسم، و مكتوب تحت صورتها: هايدي منتصر الزيات بطلة العالم في الإسكواش، بشكل ما أبتسم أدهم و نسى فكرته عن الانتحار، و تابع البرنامج و المذيعة تسألها و ما هو سر نجاحك يا هايدي؟ قالت : ربما هي رسالة صغيرة قرأتها مرة ، أرسلها لي الله عن طريق شخص ما و أختفى ، أنا أحمل وشما يذكرني بها، و اشارت الى عضلة ذراعها و التي كتب عليها بخط عربي جميل: روح قوية.
تحول اليأس الى أمل و دبت طاقة داخل تلك الروح اليائسة و بما انه سحب زر الامان في المسدس فقرر عدم التراجع عن الاطلاق، وجه المسدس بدقة هذه المرة و بكل ثقة اطلق النار، تحطم الإناء بكل ما فيه، لقد كان اختيارا صائبا يوم كتب الرسالة، ها هي تنقذه كما حاول إنقاذها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 15, 2019 07:01
No comments have been added yet.