وليام ماكسويل- حب
كتبت الأنسة فيرا براون على السبورة، حرفا حرفا بأشكال بيضاوية، بأسلوب بالمر(*) بطريقة لا يشوبها شائبة. كانت معلمتنا للصف الخامس. ربما تم نقش اسمها بمثل هذا في الحجر.
وبينما كانت تقول قائمة الأسماء، كان صوتها رقيقا كما الانطباع الموجود بأعينها الداكنة الجميلة البنية. كانت تذكرني بزهور البانسية. فعندما دعت ألفين أهرينز للإجابة قال “أعرف، لكني لن أستطع أن أقول”، لكنها قالت “حاول” مشجعة، وانتظرت، كي تكون متأكدة من أنه لا يعرف الجواب، بعدها قالت إلى أحد من الأيادي الملوحة بالهواء “اخبر ألفين ما حاصل ضرب خُمس في ثلاث أثمانٍ؟”. ولما كنا نصل متأخرين إلى المدرسة بوجه أحمر، منقطعي الأنفاس، ونندفع مع عذر قد فكرنا به في الطريق، نجد أنها تقول قبل أن نتحدث ” متأكدة، أنكم لم يكن يمكنكم الإسراع عن ذلك، اغلقوا الباب، من فضلكم، واتجهوا لأماكنكم” ولو أنها أبقتنا بعد المدرسة، لم يكن ذلك لتوبيخ، بل لمساعدتنا على تجاوز فهم الجزء الصعب.
ترك أحد ما تفاحة حمراء كبيرة على مكتبها لتجدها عندما دخلت إلى الفصل الدراسي، فابتسمت ووضعتها بداخل مكتبها، بعيدا عن الأنظار. ترك شخص آخر بعض من زهور الأستر الأرجوانية، والتي وضعتها بداخل كأس شربها للماء. كانت المعلمة الوحيدة الجميلة في المدرسة. لم يكن عليها أن تطلب منا أن نكن هادئين أو أن نتوقف عن رمي المماح(**). لم نكن لنحلم بعمل أي شيء من شأنه أن يزعجها.
فآجأها شخص ما عندما أتى عيد ميلادها. وبينما هي بخارج حجرة الدرس، صوّت الفصل على إعطائها باقة زهور من الصوبة الزجاجية. ثم أجروا تصويتا آخرا، وفازت زهور البازلاء العطرية. عندما رأت صندوق الزهور في انتظار مكتبها ، قالت “أوه؟”
بصوت واحد قلنا “انظري بداخله”
بدا على أناملها الرقيقة أنها ستستغرق للأبد لفك الشريطة. في الأخير رفعت غطاء الصندوق وتعجبت بينما صحنا “اقرأي البطاقة”
كانت تقول “أيام حلوة قادمة لأجلك أستاذة فيرا براون، من الصف الخامس”
بعدها دست أنفها في الزهور، ثم قالت “شكرا لكم.. شكرا لكم جزيلا” ثم حولت أذهاننا إلى درس اليوم للتهجئة. بعد المدرسة رافقناها إلى وسط المدينة لحمة واحدة إلى حفلة صباحية للمخرج ديفيد وارك غريفينث لفيلم”قلوب العالم”. لم ندعها تشتري تذكرتها. فقد دفعنا كل شيء.
كنا قد أردنا جعلها مدرستنا للأبد. عقدنا العزم معا على عبور الصف السادس، والسابع، والثامن، وكذلك إلى المدرسة الثانوية وهي معنا. لكن هذا لم يحدث. بيوم ما، كانت هناك مدرسة بديلة. كنا نتوقع من مدرستنا الحقيقية أن تعود في اليوم التالي، لكنها لم تعد. مر أسبوع بعد أسبوع، بينما واصلت المدرسة البديلة الجلوس في مكتب أستاذة براون ، تنادي علينا أن نقرأ وتعطينا اختبارات وتعيدها إلينا بدرجاتٍ، وواصلنا التصرف بالطريقة التي كنا معها عندما كانت أستاذة براون لدينا لأننا لم نكن نريدها أن تعود وتجد أننا لم نكن لطفاءا مع البديلة. وذات صباح يوم الإثنين تمتمت البديلة وقالت إن الآنسة براون مريضة ولن تعد ما تبقى من الترم.
في الخريف كنا انتقلت إلى الصف السادس، ولم تكن قد عادت بعد. اكتشفت والدة “بيني” الآيرلندية أنها كانت تعيش مع عمة وعمّ في مزرعة على بعد ميل أو أكثر من حافة المدينة . وأَخبرت والدتي ، والتي أخبرت أحدهم بحضوري. وبيوم بعد ظهيرة، بعد المدرسة، أنا وبيني تحصلنا على دراجاتنا وقدنا لرؤيتها. وفي المكان حيث سُد الطريق إلى المقابر وأرض شوتاغوا، كان هناك مخزن أحمر بملصق سيرك عملاق عليه، مظهرا كل ما بداخل الأقسام، خيمة السيرك المنتفخة، وكل ما يدور بحلقاتها الثلاث. في وقت الصيف، عندما كنت راكبا بالمقعد الخلفي بعربة أبي الشالمر المفتوحة، كنت أشرئب برقبتي عابرين هذا الملف، آملا برؤية كل من النمر الأخير، ولاعب العقلة الطائر، لكن لم يكن ذلك ممكنا.. كان البوستر متهالكا، تتدلى منه شرائطا من الورق خارجه.
كان الظلام قد ازداد عندما قمنا بربط دراجاتنا بمحاذاة منزل المزرعة حيث تعيش الآنسة براون. قال بيني عندما وصلنا في الشرفة: “خبط أنت”
قلت له: “لا، أنت افعل ذلك”. لم نكن نرى أمامنا ما هو سيكون ردة فعلنا لرؤيتها. لم يكن سيفاجئنا إذا كانت قد وصلت إلى الباب بنفسها ورفعت يديها في دهشة عندما ترى من جاء، ولكن بدلا من ذلك فتحت الباب امرأة أكبر سنا بكثير وقالت:
“ماذا تريدان؟”
قلت له: “لقد جئنا لنرى آنسة براون.”
“نحن في فصلها في المدرسة.” هكذا أوضح بيني.
وقتئذ أمكنني رؤية أن المرأة كانت تحاول أن تقرر إما أن تخبرنا بأن نذهب بعيدا، لكنها قالت: “سأعرف ما إذا كانت تريد رؤيتكما” وتركتنا واقفين على الشرفة لما بدا وكأنه زمن طويل. ثم ظهرت مرة أخرى وقالت: “يمكنكما الدخول الآن”
وبينما نحن نتبعها عبر الردهة، أمكنني التخمين في الضوء الخافت بأن وراءه جهازا قديما مثل النوع الذي اعتدت رؤيته في كنائس البلد، ومشمع فوق الأرض، ومقاعد صلبة غير مريحة، وبورتريهات عائلية محفورة بالزجاج في إطارات بيضاوية كبيرة.
كانت الغرفة التي وراءها مضاءة بمصباح فحم نفط ولكنها بدت أكثر قتامة من الغرفة غير المضاءة التي مررنا بها. رأيناها مستندة على الوسائد على سرير مزدوج كبير، مُدرستنا ولكنها قد تغيرت. كانت ذراعيها مثل العصي، وبدا أن كل حياتها كانت مُتركزة في عينيها، التي كانت دائرة داكنة من حولها، هائلة. أدارت إلينا بريقا من التمييز لكنني دهشت بسبب حقيقة أنها لم تكن سعيدة برؤيتنا. لم تعد تخصنا بعد الآن. كانت تنتمي إلى مرضها.
قال بيني: “آمل أن تتعافي قريباً”
الملاك الذي يرعى الصبية الصغار كان يعرف ولكنهم لا يستطيعون القول لنا، لأننا لم نشعر بأي شيء. كنا في دقيقة في الخارج على دراجاتنا، نمر عبر الغسق نحو الملف إلى الطريق والمدينة.
بعد بضعة أسابيع قرأت في “(***)جريدة ساعي لينكولن” أن السيدة “فيرا براون”، التي درست الصف الخامس في المدرسة الرئيسية، قد ماتت بسبب مرض السل، وهي تبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً وسبع أشهر.
أحيانا كنت أذهب مع أمي عندما تضع ورودا على قبور جدودي. كانت تفهم السير بتلك الطرق الملفوفة الملتوية بطرقها، بينما لا يمكنني ذلك، كنت أقرأ الأسماء على الشواهد: بروير، كادوالادر، أندروز، بيتس، ميتشل. في ذكرى محبة… ابنة رضيعة ل…الزوجة المحبة….كانت المقبرة كبيرة للغاية ودفن الكثير من الناس بها. لكان قد تستغرق وقتًا طويلاً لتحديد موقع قبر معين إذا لم تكن تعرف مكانه بالفعل. لكني أعرف، كما أعلم أحيانًا ما بداخل الحزم الملفوفة، أن المرأة المسنة والتي أدخلتنا، والتي تولت رعاية مس بروان خلال فترة مرضها الأخير، تمضي بانتظام إلى المقابر، وتنزح الماء الزنخ المتدفق من وعاء القصدير، والذي يبدو غارقا أسفل مستوى العشب أمام موضع قبرها، وتملؤه ماءا جديدا من صنبور قريب وترتب الورود بطريقة ما تفرح أعين العائشين وأعين الموتى المغلقة كذلك.
(*) أسلوب بالمر: تم تطوير طريقة بالمر لتعليم فن الخط عن طريق أوستن بالمر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تم إنشاؤه إلى حد كبير كنمط مبسط من “الأسلوب سبنسيري” والذي كان النظام القياسي الرئيسي للكتابة اليدوية منذ أربعينيات القرن التاسع عشر.
(**) مماح: جمع ممحاة
(***) ساعي لينكولن: هي الصحيفة اليومية المحلية الوحيدة لنكولن، بولاية إلينوي.
[image error]