العنقاء
أدريان إجوني باريت – كاتب من نيجيريا
بين مصبي نهري النيجر والبينو العظيمين يرقد مرتفع؛ مسكون من ممالك من القرى والعديد من القبائل . وإلى أي مدى يمكن للعين أن تسافره تسري بعيدا هذه التلال الخضراء على هذه الأرض،و تنبسط عليها بنعومة. لذلك لا تجد تلك الشلالات المائية لها منحدرا لكي تجري. أيضا يشق الجهة الشرقية لأرض الوادي الخصيب عقد من التلال. و تتوه قممها الشاهقة يوميا بغيوم الصباح.
كانت تقع بين التلال نتوءات عملاقة عظيمة من الرخام الأزرق والأسود مثل قشر البيض المكسر. وبذلك النسيم الدائم لهذه المرتفعات المتشققة؛ كانت سجادة عطرة من عشب الأفيال اليانع ترقص في هدوء. وتفصل فراسخ الشجيرات المتناثرة والتي نبتت عن الأرض، كل شجيرة أقصر من رجل، بلا أغصان وارفة مما جعل الأفاعي تتدلى منها كما زهور المقابر، كأشراك منصوبة. وبسبب التيارات الغادرة من (مادا ) النهر الطيني، الممر الرفيع بين تعرجات التلال البعيدة إلى هذه الأرض أصبح ممرا موحلا. وبين هذه الفخاخ المنثورة ذيل حفرية من العصر الديناصوري، ربما فيل ما دهم هذه الممرات، ربما أيضا الغوريلات، أو النعام، أو تبشيرون بيض ، ما بقى من الذيل فقط: عظمة كالحة.
هذه هي الأرض التي شهدت ميلاد تارتيوس فاقد الذراعين، الشجاري لا(*)؛ والذي تملكته بشغف همجي واستحوذت حياته، حتى فقد كلتي ذراعيه لخبطتين بساطور.
كان محظوظا –كان الناجي الوحيد من حفنة من أطفال المدارس الذي يتلألأ- لتوقفه عن الضحك بكمين شنه مقاتلو قبيلة مجاورة.وقد قصمت تلك المذبحة رحى الموت- لعقود من الهدنة- بين الأعداء القدامى. تبعتها أعمال انتقامية لا حد لها، وبالوقت الذي انفلت الصراع واستنفدت وقودها من الشبان الغاضب، كان تارتيوس –فاقد الذراعين- في مقتبل عمره.
وبالرغم من الإعاقة -والتي كانت ترزح ثقيلا فوقه، وقد كسرت عزيمته تقريبا، فكلتا ذراعيه قطعوا من الكوع – تارتيوس فاقد الذراعين رفض لنفسه مصير هيئة المتعطف، والمعتمد على شفقة الغرباء..
نفض المخاوف عن كتفه، بشأن العائلة والأصدقاء، واختار التجارة، تعلمها جيدا، وعوضت حيلته نقائصه الجسدية، تارتيوس فاقد الذراعين أصبح خياط المتجولين.
بعد يومين من إتمامه لمهنة الخياطة، ازدرى تارتيوس فاقد الذراعين مجددا النصيحة السهلة القادمة من كيث وكِن، وهي التخلي عن مشاهدة بلائه. لم يكن قرارا سهلا له؛ فجمال السهول الخضراء المجرور بها كما الحبل السري هي ما جعلته يتقبل ذكرى خسارته.
مبحرا بتجارته في المدينة الكبيرة، تارتيوس فاقد الذراعين، الذي بدا طُرفة و بقوة هذه الحقيقة جذب زبائنه، فمرأى هذا الرجل الفاقد الذراعين بماكينة الخياطة والتي تشبه رأس الحصان المقطوعة على كتفه، وغطاء الرأس الذي خاطه بيده المستقر على رأسه بزاوية غير معهودة-كما لو كان لديه يدان مدسوستان في جيوبه- جعل منظره مريبا، قزم قصير ورفيع مثل النمس، وملامحه الرقيقة غير المتأثرة لعاهته، ووقع خطواته كذلك لا يبعث على القلق. والذي سرعان ما أن يشاهدنه ربات البيوت حتى يتخلين عن أشغالهن؛ ويتقاطرن من بيوتهن مع أذرع من الملابس والتي، فجأة تحتاج للمسته الحانية.
وبينما هو يقصقص ويخيط، كانت هذه الأجساد الممتلئة تحمحم بشأنه، بشكل ظاهر. لم تكن النميمة تحبطه، بل أمتعهن بحكايات فضفاضة معاديه لجنسه، وجذب انتباههم بنفس السهولة التي يدفق بها قدمه مع فكي المقص وخيوط الإبر.
بمرور الوقت، ونظرا لجوده شغله، ومقدم بعضهن للتمتع بصحبته هربا من الرتابة الساكنة. أصبح المفضل بين ربات بيوت أوكوبابا وماكوكو (**) واكتسب لقمته جيدا من وحدتهن.
في الانفصال الثاني قبلما يفقد تارتيوس ذراعيه، والتي كانتا ممدوتين بعد رمية تماس تخيلية، هذه النقاط الدقيقة لا تَلقى بالا إلا لدى لاعب كرة رشيق. كان مدمن كرة. وبينما كان أقرانه يحلمون بأن يصبحوا شخصيات كرتونية لا أكثر. كان بالفعل قد وضع اللمسات الأخيرة لخطه عمله لتحقيق هدفه، ولكنها نفسها كانت السنة التي وقف فيها له القدر. وحيث أنه لا توجد خطة طوارئ لانقاذ الحلم الذي تنكرت له الأقدار، شاهد طموحه وهو يتغضن ويموت.
تارتيوس بآلة الخياطة على كتفه وتلكؤه حتى في حرارة اليوم، رفع يده ليهرش أنفه، ولكنه رأى الختم.
جعد أنفه وابتسم بامتعاض، حتى بعد مرور كل هذا الوقت، لم يكن قد اعتاد على فقد يديه، والموقف كذلك لم يساعده على الإطلاق لإحساسه الدائم بهما يتأرجحان بنهاية العدم. كان يستطيع الشعور بكل تشنج لعضلة، بكل رعشة لإصبع، وبوزن الأظافر المتنامية غير المقلمة، وحكة المال ببطن كفه. نخز أنفه بضربة وحول خواطره لكرة القدم.
حلمه الميت منذ سنين، الآن قد تجلى من قبره، وطرح نفسه مجددا إلى وعيه. تدحرج كما حجر من باب الضريح إذا جاز التعبير، فقد تعثر بمبارة قدم وقتئذ.
السيد أكوي صديق وزبون، والذي فقد ابنته الصغرى. وبينما كان تارتيوس بطريقه لمنزلها القديم لتقديم العزاء له، والذي كان عبر واحة من العشب في صحراء من الطوب والحديد المموج، سنحت له فرصة للتمتع بالمنظر.
كانت مجموعة من الرجال المعوقين تتشارك في لعبة جميلة. فور رؤيته سمحوا له أن يصبح في الأخوة وطلبوه للمشاركة، ولكنه بهذا اليوم رفض بمحرد رؤية هذا المنزل الأرمل على مرأى من الحقل.
ولكن بعد تأكده أنهم يشكلون ناديا، وأن بالفعل أفراده يلعبون باحترافية، وأنهم يعقدون أحلامهم على هذا الملعب، بذات اليوم من كل إسبوع، وعدهم بالظهور بالموعد القادم، وذلك كان اليوم.
ارتعدت قدم تارتيوس عند تفكيره بتقبيل كرة جلدية. مرت بالفعل سنوات من السكون، سنوات من انعدام الشغف، ولكن بعد رؤية كثيرين مثله في اللعبة يعيشون الحلم. قال أنه يمكنه، ربما ليس المشاركة بالبطولات الكبرى، ولا الأندية الكبيرة، ولما ليس هذا؟ ربما أمكنه الاشتراك بالبارالمبياد، وربما أصبح أول فاقد ذراعين يلعب في الدوري الإسباني، كتاب جينيس كمجمل نعمة أيضا.. ولكن الشيء الأهم له كان لعب الكرة.
“السارق.. راقبه ..أنت” مضى مقذوف بسرعة لجوار تارتيوس…
كانت تجري نحوه، المرأة التي دقت الجرس، الضحية التي ظنها ..تعرقلت جهودها بوزنها الزائد، وأبقاها قادمة مراوغة، ولكن مع ذلك صراخها أطُلق بعض المارة بمطاردة الجاني، والذي سرعان ما انضم إليهم الكثيرون، بينما لا تزال المرأة تصرخ، تتوسل، وتقلب شفتها على وجهها.
“أنا لست معاق..أنا فقط ليس لدي ذراعين” هكذا همس لنفسه تارتيوس، ثم قذف عنه آلة الخياطة بعدما تشكل خيط الحشد بذيل السارق.
بعد خطوته الأولى، كان هنالك انفجار بعقله، تبعه هدوء ثم سكن..وعندئذ بدون ذراعين لتسيره، جرى بغرابة مثل طائر لا يطير، وارتسمت معنوياته كعلم، وقد ضربت عضلة سمانته في استعدادها للارتفاع. تذكر لعبة الكرة، وانفجر للأمام.
ضد الريح بوجهه، تارتيوس استدعى صورة الحقول من طفولته، النعومة المخملية، والشذى من سحق العشب، وطموحاته، وركض.
وكانت دمكت قدماه كما لو كانتا فرحتين، لا تعانيان من أي ثغرة، عصر من زوايا عينيه الدموع، و التي شفطت بالوشيش النابع من انصهاره.. واستمر في الركض.
الحشد أمامه مثل الغوغاء. ولكن الشاردون، سمعوا النار المستعرة لرطمة قدمه من ورائهم، فتفرقوا ليد تارتيوس عديم الذراعين تعبرهم..
وبينما هو يشق مركزهم كما قطار طَلقْ عبر نفق، أفلتوا هديرا من الاحتفال وتبعوه، تارتيوس الراكض كشيطان منفي، غادر صيحاتهم خلفه. وتبرق أمام رأسه صورا له في الدوري الأسباني، هو يمرمغ آخر مدافع، ويقترب من حارس المرمى، جرى تارتيوس كما لو أن حياته متوقفة على ذلك.
المحجر، أبعد بخطوات منه، ومن ورائه الغوغاء، الذين ألقوا نظرة من فوق كتفه، ورأوا أنه كسب بلا عودة.. حجب وجهه إيماءة، تارتيوس الأعمى لحساب الجلم الذي حمحم أمام عينيه،كانت الحقيقة الغاشية قد أُدمغت بذقنه وجلبته مسافة. اجتر الرجل خطواته عند مفترق الطرق، وتمزق به.. تارتيوس ركض، دار بالمفرق بالوقت المناسب ليرى الرجل المائل عبر العطفة .. ركض كما لم يركض من قبل، ركض ليلتقط حلما..
آن وصل لمدخل العطفة، شيء ما على الأرض حاذ عينه ولكن سماع الصيحات القادمة النكيرة من الطريق المقابل –ليسلبوه جائزته- جعلته يزيد سرعته بجهد من أدخل صدره بكماشة، جرى بتهور ليلقى نفسه في أحضان الحشد الثاني..
“السارق” زركشة الوجوه المضيئة اشتبكت مع تارتيوس فاثد الذراعين، حينئذ طحن في حيرة لاهثة، راسما ابتسامة عريضة، وغير قادر على النطق عن الألم الذي في صدره..قبعوا إلى صفين فوق رأسه وسكبوا فوقه بنزينا، وأشعلوه بالنار.
“خياط” هكذا صاح قبل أن تبتلعه ألسنة اللهب.
وصل الحشد الأول كما كتلة متفحمة، لحظتها كان تارتيوس بآخر حلقة من رقصة الموت، هوى إلى الأرض، فعلا غير قادر على النهوض مجددا، لضموا صيحاتهم لهؤلاء الذين قابلوهم.. عندئذ فقط السيدة التي دقت جرس البدء ظهرت وشنطتها المسروقة مدسوسة بيدها، وجدوها حيث وجدوا السارق.
“ولكن هذا ليس السارق” قالتها وهي تنظر برعشة.
“ليس هو –كيف تعرفين – لا.. انظري لوجهه مجددا” هكذا أتت الإجابات الغاضبة..
“ولكن هذا الشخص ليس له ذراعين، اللص لديه ذراعيه وإلا كيف أمسك بحقيبتي؟” السيدة لديها وجهة نظر لا يمكن دحضها.
خيم الحشد بالصمت، محدقين بالجثة المدخنة في تهوع، واندفع شخص ما في التجشؤ. تذكر أحدهم أنه ترك دكانه بلا أحد، وكما حبوب صغيرة، تفكك الحشد، تاركين وراءهم تارتيوس فاقد الذراعين برماد أحلامه.
(*)Shangri–La
مكان تخيلي ذكر برواية الأفق المفقود للكاتب البريطاني جيمس هيلتون صدرت في عام 1933.
(**) بلدتين بلاجوس بنيجيريا[image error]