بضع أيّام لغريب
لم يكن غريبا عليّ أن يتصل بي صديقي ليخبرني أنّه بحاجة لمكان حميم ينام فيه، فلدى عائلته عادة قاسية نوعا ما فيما يخص جرح جواجي قلبه المليء بالغلا لجميع الناس، ولدى البشر العاديين مثلي عادة الرغبة فيما يملكه الآخرون، حتى وإن كان الشيء الوحيد الذي يملكونه.
صديقي، رُغم أنّه كان نحيلا مريضا ومصابا بانفصام الشخصية جراء ما عاناه وما يعانيه، فقد كان محبوبا بشكل عجيب من الجميع، من عائلتي، من أصدقائي، من الجميع عدا عائلته؛ أظنّنا كبشر لطالما أهملنا أثمن الأشياء التي كانت بحوزتنا تركيزا منا على ما نملكه.
قبل أن يجدني في الماضي مغميا عليّ بسبب وعكة صحيّة في الشارع واهتمامه بي، كان يبيت في الخلاء عندما تطرده أمّه تجنبا لأنظار الناس وأحكامهم، وقد ظننت أنني بإيوائي له، سأضرب عصفورين بحجر، سأرد له دينه وأكون محبوبا منه اكثر، لكن الأمر لم يحصل أبدا.
كان دوما هادئا وإن كان يضج بالألم، لا تسمع منه أنوحا ولا إنتهاز؛ نظيفا تكاد لا تؤمن بأنّه في معظم الأيام مشرّد؛ مبتسما رغم ما يمر به؛ لا يتكلم إلا نادرا، وإن غرق ببصره في الفراغ، فلا غير العَبَرُ توقظه.
أذكر أنني سألته متعجبا مرّة : كيف كنت تتحمل ليالي الشتاء الباردة في العراء؟!
وأذكر أنه بإبتسامة هادئة أجابني: لم يكن لديّ خيار آخر قبل أن بدأت تدلّلني.
إلاهي كم كانت ابتسامته جميلة، كيف كانت تخرج نصفية من شفتيه الشاحبتين، تسحر كلّ القلوب بلطفها وتعبها، يصاحبها بنفس جمالها جمال سود مدامعه.
حين كان يحس بثقل وجوده بسبب إنفصامه، يرحل بهدوء تاركا خلفه مكانه نظيفا مثلما كان عليه قبل أن يأتي.
أحيانا كنت أنظم إليه لأبيت معه في المرآب، ليست رغبتي ولكتها رغبته في ان يبيت هناك، يقول أنه لا يريد أن يُشعر أحد من عائلتي بالخجل منه، لكن في رأيي أظنه سئم العائلات فحسب ويريد البقاء وحده ليجد راحته في البكاء دون أن يسمعه أحد، راحته في الرحيل دون أن يراه أحد؛ على كل حال كنت أبيت معه أحيانا مع هرّتي، يحاول اللّعب معها لكنّها لسبب ما كانت لا تحبّه، الوحيدة التي تحبني أكثر منه، وقد كنت أستمتع بهذا بطريقة تجعلني أكره نفسي عندما أفكر بالأمر؛ أظنها كانت تستشعر حزنه وكآبته من خلف هدوءه وإبتسامته، وكلّ ما توده القطط هو اللعب.
فاجأني هذه المرّة ليلا يطرق بابي كالهيزوع الصغير يرتجف بصوت أنيح خافت يحاول جعله اكثر قوّة، مبلّلا لا يتكلم إلّا بالألغ والأريج.
ادخلته إلى المرآب ودون أن يجفف نفسه حتّى أو يعد فراشه كما إعتاد أن يفعل، أسقط جسده على الأرض وبقي هناك يرفض الإجابة عن أسئلتي، تظهر عليه الكآبة وتسلل إلى قلبه الحزن؛ تمادى شحوبه إلى بؤبؤ عينيه.
لم أكن أعرف ما سأفعله، أو ما يحصل معه، ظنتت أن عائلته تمادت أكثر هذه المرة، وستنتهي نوبته بليلة نوم طويلة.
بقيت جنبه إلى أن غفا، ثم عندما حاولت العودة للمنزل، أبت هرّتي العودة معي، وكلما أخذتها غصبا معي، تسلل من منزلي إليه لتبيت معه، وكعادة البشر شعرت بالإحباط لأنّها فضّلته عنّي، حتى وإن كان شعورا بالشفقة نحوه إو مهما كان ما جذبتها إليه كلّ تلك المرات التي هربت من حضني لتنام في حضنه، كعادة البشر نسيت كره عائلته له فقط لأنّ هرّتي أحبّته؛ لكنها لم تتوقّف.
لثلاث ليال كاملة كانت تبيت معه، وكان هو لا يكلّم أحدا؛ يتجنّب لقاء كل من يسأل عنه، الجميع عداي، وأظن سبب ذلك هو خجله منّي لأنّه في منزلي.
ابقى معه في المرآب أراقبه وهرّتي فوق بطنه، لا هو يتحرك ولا هي تستفيق...
كنت نائما في غرفتي حين شعرت بحركة خفيفة على فراشي، وقد تعرًفت عليها ولم أنسها رغم بعد الليالي، كانت هرّتي تحاول الزحف داخل غطائي، وقد أزحتهه لها كي تصل إلى ذقني أين كانت تحب أن تنام، وما أن وصلت حتى فعلت دون حركة، وكم شعرت بالسّعادة تغمرني من شدّة الرّياف الذّي عوّضتُه بحضنها.
استيقظت صباحا متأخّرا كعادتي ومتفاجئا بهرتي لا تزال نائمة جنبي وهي من كانت تستيقظ دوما أبكر من الجميع وتوقظني معها جوعا.
لا أنكر أنني ابتسمت كونها تخطّت صديقي واشتاقت إلي، لكن...لكنّها لم تكن تتحرك، في الواقع لم تكن حيّة.
بعد أن تخطّيت الصدمة والحزن، بدأت تراودني الشكوك على أنّ المجنون في المرآب قد آذاها غضبا منها، فهو مصاب بانفصام عدواني، وقد نويت أن أجعله يدفع الثمن واطرده بعد ذلك، فكيف له أن يرد لي الجميل هكذا، لكنّه لم يكن يتحرّك أيضا، في الواقع لم يكن حيّا، مات نتيجة إلتهاب حاد في الكبد بسبب كلّ الودق الذي نام تحته في البرد.
للآن لم أفهم، يقول لي الجميع أنّ هرّتي أحسّت بقرب أجله ومرضه، وأمّي تقول أنّ صديقي كان مقدّر له أن يموت تلك الليلة التي جاء فيها، لكن هرتي اهدته بضع أيام اخرى مقابل حياتها، ربما ليستوعب الأمر أو ربّما ليعقد سلامه مع الدنيا...
كانت مراسم دفنه غريبة، فلا أحد تكلّم أو تجرّأ على ذلك، ولم تكن عائلته حاضرة فيها؛ كانت كيوم صيفي مغبّر لا هواء فيه ولا برود، لا شمس تمنح الحاضر بأمل في يوم جديد، وحتّى السّحب كانت صفراء كأنها تتوعّد بغد لا خير فيه، لا بركة.
غريب كيف أن القلوب الطاهرة تموت شابّة، ومخيف كيف أنّه رغم قناعتنا بطيبة قلوبنا، لا نزال هنا.
هل لأنّه لم يحن موعدنا؟ أم أنّه لأنّنا لسنا بالطّيبة الّتي نظنّها بأنفسنا؟
رحمك اللّه يا صديقي، رحمك اللّه يا غريب.
صديقي، رُغم أنّه كان نحيلا مريضا ومصابا بانفصام الشخصية جراء ما عاناه وما يعانيه، فقد كان محبوبا بشكل عجيب من الجميع، من عائلتي، من أصدقائي، من الجميع عدا عائلته؛ أظنّنا كبشر لطالما أهملنا أثمن الأشياء التي كانت بحوزتنا تركيزا منا على ما نملكه.
قبل أن يجدني في الماضي مغميا عليّ بسبب وعكة صحيّة في الشارع واهتمامه بي، كان يبيت في الخلاء عندما تطرده أمّه تجنبا لأنظار الناس وأحكامهم، وقد ظننت أنني بإيوائي له، سأضرب عصفورين بحجر، سأرد له دينه وأكون محبوبا منه اكثر، لكن الأمر لم يحصل أبدا.
كان دوما هادئا وإن كان يضج بالألم، لا تسمع منه أنوحا ولا إنتهاز؛ نظيفا تكاد لا تؤمن بأنّه في معظم الأيام مشرّد؛ مبتسما رغم ما يمر به؛ لا يتكلم إلا نادرا، وإن غرق ببصره في الفراغ، فلا غير العَبَرُ توقظه.
أذكر أنني سألته متعجبا مرّة : كيف كنت تتحمل ليالي الشتاء الباردة في العراء؟!
وأذكر أنه بإبتسامة هادئة أجابني: لم يكن لديّ خيار آخر قبل أن بدأت تدلّلني.
إلاهي كم كانت ابتسامته جميلة، كيف كانت تخرج نصفية من شفتيه الشاحبتين، تسحر كلّ القلوب بلطفها وتعبها، يصاحبها بنفس جمالها جمال سود مدامعه.
حين كان يحس بثقل وجوده بسبب إنفصامه، يرحل بهدوء تاركا خلفه مكانه نظيفا مثلما كان عليه قبل أن يأتي.
أحيانا كنت أنظم إليه لأبيت معه في المرآب، ليست رغبتي ولكتها رغبته في ان يبيت هناك، يقول أنه لا يريد أن يُشعر أحد من عائلتي بالخجل منه، لكن في رأيي أظنه سئم العائلات فحسب ويريد البقاء وحده ليجد راحته في البكاء دون أن يسمعه أحد، راحته في الرحيل دون أن يراه أحد؛ على كل حال كنت أبيت معه أحيانا مع هرّتي، يحاول اللّعب معها لكنّها لسبب ما كانت لا تحبّه، الوحيدة التي تحبني أكثر منه، وقد كنت أستمتع بهذا بطريقة تجعلني أكره نفسي عندما أفكر بالأمر؛ أظنها كانت تستشعر حزنه وكآبته من خلف هدوءه وإبتسامته، وكلّ ما توده القطط هو اللعب.
فاجأني هذه المرّة ليلا يطرق بابي كالهيزوع الصغير يرتجف بصوت أنيح خافت يحاول جعله اكثر قوّة، مبلّلا لا يتكلم إلّا بالألغ والأريج.
ادخلته إلى المرآب ودون أن يجفف نفسه حتّى أو يعد فراشه كما إعتاد أن يفعل، أسقط جسده على الأرض وبقي هناك يرفض الإجابة عن أسئلتي، تظهر عليه الكآبة وتسلل إلى قلبه الحزن؛ تمادى شحوبه إلى بؤبؤ عينيه.
لم أكن أعرف ما سأفعله، أو ما يحصل معه، ظنتت أن عائلته تمادت أكثر هذه المرة، وستنتهي نوبته بليلة نوم طويلة.
بقيت جنبه إلى أن غفا، ثم عندما حاولت العودة للمنزل، أبت هرّتي العودة معي، وكلما أخذتها غصبا معي، تسلل من منزلي إليه لتبيت معه، وكعادة البشر شعرت بالإحباط لأنّها فضّلته عنّي، حتى وإن كان شعورا بالشفقة نحوه إو مهما كان ما جذبتها إليه كلّ تلك المرات التي هربت من حضني لتنام في حضنه، كعادة البشر نسيت كره عائلته له فقط لأنّ هرّتي أحبّته؛ لكنها لم تتوقّف.
لثلاث ليال كاملة كانت تبيت معه، وكان هو لا يكلّم أحدا؛ يتجنّب لقاء كل من يسأل عنه، الجميع عداي، وأظن سبب ذلك هو خجله منّي لأنّه في منزلي.
ابقى معه في المرآب أراقبه وهرّتي فوق بطنه، لا هو يتحرك ولا هي تستفيق...
كنت نائما في غرفتي حين شعرت بحركة خفيفة على فراشي، وقد تعرًفت عليها ولم أنسها رغم بعد الليالي، كانت هرّتي تحاول الزحف داخل غطائي، وقد أزحتهه لها كي تصل إلى ذقني أين كانت تحب أن تنام، وما أن وصلت حتى فعلت دون حركة، وكم شعرت بالسّعادة تغمرني من شدّة الرّياف الذّي عوّضتُه بحضنها.
استيقظت صباحا متأخّرا كعادتي ومتفاجئا بهرتي لا تزال نائمة جنبي وهي من كانت تستيقظ دوما أبكر من الجميع وتوقظني معها جوعا.
لا أنكر أنني ابتسمت كونها تخطّت صديقي واشتاقت إلي، لكن...لكنّها لم تكن تتحرك، في الواقع لم تكن حيّة.
بعد أن تخطّيت الصدمة والحزن، بدأت تراودني الشكوك على أنّ المجنون في المرآب قد آذاها غضبا منها، فهو مصاب بانفصام عدواني، وقد نويت أن أجعله يدفع الثمن واطرده بعد ذلك، فكيف له أن يرد لي الجميل هكذا، لكنّه لم يكن يتحرّك أيضا، في الواقع لم يكن حيّا، مات نتيجة إلتهاب حاد في الكبد بسبب كلّ الودق الذي نام تحته في البرد.
للآن لم أفهم، يقول لي الجميع أنّ هرّتي أحسّت بقرب أجله ومرضه، وأمّي تقول أنّ صديقي كان مقدّر له أن يموت تلك الليلة التي جاء فيها، لكن هرتي اهدته بضع أيام اخرى مقابل حياتها، ربما ليستوعب الأمر أو ربّما ليعقد سلامه مع الدنيا...
كانت مراسم دفنه غريبة، فلا أحد تكلّم أو تجرّأ على ذلك، ولم تكن عائلته حاضرة فيها؛ كانت كيوم صيفي مغبّر لا هواء فيه ولا برود، لا شمس تمنح الحاضر بأمل في يوم جديد، وحتّى السّحب كانت صفراء كأنها تتوعّد بغد لا خير فيه، لا بركة.
غريب كيف أن القلوب الطاهرة تموت شابّة، ومخيف كيف أنّه رغم قناعتنا بطيبة قلوبنا، لا نزال هنا.
هل لأنّه لم يحن موعدنا؟ أم أنّه لأنّنا لسنا بالطّيبة الّتي نظنّها بأنفسنا؟
رحمك اللّه يا صديقي، رحمك اللّه يا غريب.
Published on July 20, 2018 12:51
•
Tags:
وحيد-ظلم-انفصام-تعب
No comments have been added yet.
@IslamBakli
- Islam Bakli's profile
- 106 followers
Islam Bakli isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.
