يحيى حقي، الفنان والإنسان والمحنة

كان إبراهيم أصلان قد بدأ حياته بكتابة القصة القصيرة وكان بيبعت وينشر من وقت للتاني في الملحق الفني والأدبي لجريدة الأخبار. ولفت نظر نجيب محفوظ قصة من هذه القصص وكان عنوانها "الطواف" واللي عجبته جدا. وسأل عن كاتبها وعرف طبيعة عمله وقابله مرة وقدمه لتوفيق الحكيم قائلا: يا توفيق بك، إنت عارف إن فيه جيل جديد من الكتاب، وهذا الجيل فيه كتاب منهم في المقدمة، وآخرين في مقدمة هذه المقدمة، والأخ إبراهيم من هؤلاء". وبيحكي إبراهيم أصلان إن محفوظ كتب له تزكية للتفرغ، كما كان الحال وقتها، وحصل عليها بالفعل ونشرت الصحف إنه حصل على منحة تفرغ لكتابة الرواية. أي رواية، أنا بكتب قصة قصيرة؟ وكذب الخبر الذي نُشر وذهب ليسأل فكان الرد إن المنحة لا تعطى لكتابة القصص ولكن للروايات والمسرحيات والأبحاث. ولما كان قد حصل على التفرغ فعلا، ورغم إنه لم تكن في نيته أبدا أن يكون له صلة بكتابة الرواية. لكن أصلان قال في النهاية: خلاص نكتب رواية.. وكانت الرواية هي "مالك الحزين" واحدة من أجمل الروايات العربية، وواحدة من أجمل ما كتب جيل الستينيات. (والحكاية تفصيلا يذكرها أصلان في كتابه: شئ من هذا القبيل).
صدر كتاب عن يحيى حقي من كام يوم طازة، وهو مجموعة مقالات متفرقة للأستاذ رجاء النقاش، والكتاب عنوانه "يحيى حقي الفنان والإنسان والمحنة"..(صدر عن قصور الثقافة وسعره فقط ثلاثة جنيهات، يعني يا بلاش والله. تقرأه في جلسة واحدة) وأنا أحب يحيى حقي الإنسان الفريد والنقي وصاحب "الحياة النظيفة" بلا حقد ولا ضغينة ولا تكالب على منصب، بل-كما يصف رجاء النقاش تلك الحياة وهذه المسيرة بأنها "حياة نظيفة منتجة تتميز بالحكمة والصبر والموهبة والتنوع والعمل الهادئ البسيط". ومثل "صدفة" رواية "مالك الحزين" التي اضطر أصلان أن يكتبها وخرجت رواية مهمة وفريدة. يحكي يحيى حقي، أيضا عن عمله الفريد "قنديل أم هاشم"، إنه تعب جدا على ما لقى ناشر لهذه القصة، وأن الفضل في نشرها في سلسلة اقرأ العدد 18 في يونيو 1944 يعود للأستاذ محمود شاكر الذي قدمها للمشرفين على هذه السلسلة في دار المعارف، ثم يعود إلى الدكتور طه حسين الذي قرأها ورشحها للنشر. وكما ساعد نجيب محفوظ إبراهيم أصلان وتحمس لموهبته، يكتب رجاء النقاش إن يحيى حقي كان وقتها عمره 39 سنه وكان غير معروف في الوسط الأدبي، وكانت "قنديل أم هاشم" ممكن تمر دون أن تلفت نظر أحد وأن تبقى في الظل. لولا أن الناقد البارز والمعروف الأستاذ سيد قطب كتب عنها وأشاد بها وبكاتبها وموهبته الكبيرة في مقال له بمجلة "الرسالة" وفيه يكاد يصرخ إعجابا بموهبة يحيى حقي ومولوده الفني الجديد. ويقول سيد قطب "في قنديل أم هاشم ثمرة حلوة ناضجة عبقرية. كانت البذرة في "عودة الروح" وفي "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، وهي هنا الثمرة في "قنديل أم هاشم".. وفي خلال 52 صفحة فقط من حجم الجيب يتم تصوير الروح المصرية الكامنة العميقة العريقة، ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب، ويتم انتصار الإيمان المبصر على العلم الجاحد". ومع إعجاب سيد قطب بموهبة يحيى حقي الكبيرة لكنه يعاتبه بمحبة على طول فترة غيابه عن الكتابة فيقول " أوه! يحيى حقي! أين كانت هذه الغيبة الطويلة؟ وفيم الاختفاء العجيب؟.. حتى لقد نسيته لولا "قنديل أم هاشم". كل ما أذكره أنه من زملاء محمود تيمو الأوائل في بناء الأقصوصة. وتيمور ويحيى حقي برهان على أن النبوغ وحده لا يكفي، ولا العبقرية أيضا. لابد من الدأب والثبات والمثابرة ليكون الإنسان شيئا مذمورا، وإلا فأين فن "تيمور" من فن "حقي"! ثم أين مكانة "حقي من مكانة "تيمور". "حقي" رجل كسول.. مهمل.. يستحق اللوم على تفريطه في موهبته الفذة. و"تيمور" رجل دؤوب مجتهد. يكتب.. ويكتب.. ويكتب.. ولابد أن يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شئ ذو قيمة". ومثل هجوم سيد قطب على تيمور الذي ترك فيه باب للأمل؛ إننا ممكن نلاقي بالصدفة ومعانا محمود تيمور نفسه، وسط كل الكم ده من الكتابة بتاعته "حاجة" عليها القيمة، هاجم جلال أمين في كتابه "كتب لها تاريخ" الكاتب ثروت أباظة، وقال عنه ما معناه إنه كان دؤوب جدا لكن بدون أي أدنى موهبة، اللهم إلا موهبة "الغتاتة" في فرض الحضور، ومكانته التي حصل عليها من الطبقة التي كان ينتمي إليها، والعائلة الغنية التي كان أحد أبنائها.. "هكذا كان الأمر للأسف مع مع ثروت أباظة: عناد وإصرار ومثابرة وإلحاح للحصول على اعتراف الناس به كأديب وروائي موهوب وكاتب صحفي قدير، وهو في الحقيقة غير مؤهل بمقتضى استعداته الفطرية لأي شئ من هذا" كان ناقص إن جلال أمين يقول: ولن تجد عن ثروت أباظة هذا وسط كل ما يكتبه ويكتبه ويكتبه، ولو بالصدفة حاجة عليها القيمة.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 25, 2017 15:55
No comments have been added yet.