ذاتَ باصٍ



درجة الحرارة تدّعي أنها تلامس الأربعين، لكن مقاعد الباصات الجلدية تقول غير ذلك. يحدث أن تكون المقاعد في الباص الذي ستستقلّه إلى وجهتك مغطاةً بقماش منتوف لم تبقَ قطعة منه دون قطع أو ترقيع. ثم حين يُقبِل الصيف، تتحول مقاعد الباصات كلها من القماش إلى الجلد حتى تضمن تمتّعك بالدفء. يتباهى سائق الفان الذي أستقلّه اليوم وهو يشير إلى السقف المطرز والمقاعد الفاخرة بأن عملية تنجيد الباص كلّفته خمسة آلاف دولار، و "لن تجد مثله في كل ساحة شتورة". 
نسمة الهواء تمازحك بأن تمرّ من جانب النّافذة المفتوحة ولا تسلمَ عليك. والباص الذي تنتظر فيه اكتمال عدد الرّكاب لينطلق، يقلّ ركابه بدل أن يزيدوا. تستنتج عندها أن غالبية الركاب هم سائقو باصاتٍ ينتظرون دورهم لنقل الركاب. يستذكر أحد السائقين مثل هذه الأيام من العام الماضي، حين كان مسجوناً بتهمة التهريب. يقول: "قال لي الضابط يومها، يا ظالم! تسع وستون مرةً واحدة! إيتِ بهم اثنين اثنين! أين سأضعكم كلكم الآن!" فيردّ عليه سائق من الناحية الأخرى: "أنا حُبست بخمسة عشر". يضحك ثم يتابع، "قضيت اليوم الأول، ثم في اليوم الثاني أحضَروا هذا -يشير إلى السائق الآخر-، وحين خرجنا إلى الباحة ندخّن وإذا بكلّ سائقي شتورة هناك". يعقّب الآخر على كلامه ضاحكاً: "دخلت السجن بعده وخرجت قبله". 
يسترسل السائق يروي التفاصيل دون أن يسأله عنها أحد. "علّقوني، قدماي في الأعلى ورأسي في الأسفل. ضُربت أكثر مما تتصور"، يضحك، "قلتُ للضابط انقلوني إلى مركز آخر، فأجابني: هل تظن أن الأمر يعود إليك؟". يسأله أحد كيف خرج، فيتابع:" قضيت فترة حكمي، ثلاثة أشهر وتسع عشرة يوماً، ودفعت خمسة ملايين ليرة. كنت من قبل قد سُجنتُ ثلاثة أشهر، مع أن حكمي كان خمس عشرة يوماً فقط حينها. في رصيدي الآن شهران وخمس عشرة يوماً، لكن المحامي قال لي أن أتركهم، لربّما احتجت إليهم في يومٍ ما!".
في جانبٍ آخر يقف بائع الساعات الأنتيكة الملوّنة. يمسح الغبار عنها يوماً، ثم ينساه عليها أياماً بينما يلفّ على نفسه حزاماً يربط به الحقيبة التي تكتظ فيها الألوان والنّوعيات. يحلف لك بأنّها من النوعية الممتازة، ويرجوك أن تشتري واحدة لتجرّبها، فيحلف له سائقٌ أنّه كان يشتريهم من قبل، الواحدةُ بعشرين سنتاً، ثمّ يبيعهم بالجملة. يصبح سعر الواحدة ألفاً ومئتين وخمسين ليرة على البائع الجوّال الذي لا يجب أن يبيعها بأكثر من دولار أمريكي. يرحل الرجل بعد أن بخّس السائق بضاعته، وينادي عليها في ناحية أخرى. 
سيدةٌ لا تختلف في هيئتها عن الشحاذين المنتشرين في ساحات تجمّع باصات النقل العمومي، فعباءتها المزركشة وشالها المرميّ على رأسها بملل كأنّه مفتاح الفرج أصبح أشبه بالزي الرسمي للشحاذة. تمدّ يدها إليك، وترفع الأخرى، إن لم يكن عليها رضيع تشحذ باسمه، جهةَ السماء تدعو لك إن كنت شائب الشعر بأن يحفظ الله لك عائلتك، وإن كنتَ مع حقيبة تدلّ على خروجك من وعكةِ اختبارات فتدعو لك بالتوفيق في دراستك، وإن كنتَ بين هذا وذاك، قد ترفع اليد الأخرى حثّاً في الطلب من الله أن يرزقك بابنة الحلال. وعلى هذا قِسْ وزِدْ. 
بينما أنتَ غارقٌ في العرض المسرحي الذي يمرّ من أمامك بعد أن تدفع تذكرة الدخول ساعةً من عُمرِك وحفنة من صبرك ودولارين، يُطِلُّ صبيٌّ صغير من النافذة يعرض عليك أن تشاركه البطاطا المقلية التي يبدو أنه حظيَ بها بعد جهد شِحاذةٍ أو بِسخاء أحد أصحاب المطاعم القريبة. تشكره وتبتسم للُطفِه، وتنتبه إلى السائق يدوس برِجلِه على دعسة البنزين تمهيداً للانطلاق فتتهلّل أسارير وجهك، قبل أن تُدرِك أنّ تلك الحركة كانت للتمويه :)حنان فرحات |2017
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 06, 2017 06:02
No comments have been added yet.