عم منصور
عم منصور هو السائق الخاص بنا مُنذ سنواتٍ طويلة، أشعرُ أنَّهُ لا تظهر عليه علامات كِبَر السِّن رغم أنَّه عندما أتى ليعمل لدينا كان كبيراً في العُمر، ولم أستطع أن أناديه باسمه مُباشرةً دون أسبقهُ بكلمة ''العم'' .. فهو يكبرني بعشرين عاماً على الأقل، لكنَّه لم يتغيَّر شكله مُنذ ذلك الحين، بينما أنا الذي أزداد عُمراً وأخالني أقتربُ مِن عُمره، عُمر عم منصور.وعندما نكون سوياً بداخل السيارة، فإنَّ عم منصور لا يقوم بتشغيل أية برامج إذاعية غير اذعة القُرآن الكريم، قد يكون لديه موروثٌ قديم يقول أنَّ الأغاني والموسيقى ليستْ بشيءٍ حَسَن، رُبما يعتبرها حراماً وربما يعدها مِن المساخر، المهم أنه يتجنبها بشدة، لكنَّني على العكس أُحِبُ أن أستمع إلى الأغاني لأُنفِّسَ عن بعض هُمومي ومتاعبي، لكنَّني أستحي أن أبدو أمام عم منصور بصورة الرجل المُحِب للهزل أو المرح.لذلك ألجأُ إلى حيلةٍ تجعلني لا أبدو كذلك في نظره (أو هكذا أظن)، فبمُجرد ركوبي السيارة أُنصتُ إلى تلاوة القرآن الكريم الذي يقوم بتشغيله عم منصور، وأنتظرُ قليلاً ثم أقول صدق الله العظيم، وأشرع في تحويل مُفتاح القنوات الإذاعية نحو الإذاعة الرسمية لأستمع إلى نشرة الأخبار. أنا لا أُحب نشرات الأخبار، لكنَّني أتحملها وأنا أتصنَّعُ الجديَّة والصرامة حتى تنتهي، فيعقبها بعض الاغاني والتي هي هدفي مِن البداية. أشيحُ برأسي بعيداً عَن عم منصور كي لا أرى ردَّ فعله، ولكي أدَّعي أنا أيضاً عدم الإكتراث.أولادي لا يستحون، لا يُهمهم صورتهم ولا انطباعات الآخرين عنهم، وبمُجرد ركوبهم السيارة يُبادر أحدهم بتشغيل اسطوانة أغاني أو شريط كاسيت دون أن يستأذن أو يقول صدق الله العظيم، كما أنَّ عم منصور لا ينهرهم أو يوبخهم على ذلك أبداً، تتحرك السيارة بينما الأولاد يصفِّقون ويتمايلون مع الأغنية.حبيبي قرب .. بص وبص بص ..زعلان إزعل .. إزعل نص نص .. ألتفتُ نحوَ عم منصور فأجدهُ في مُنتهى السعادة بسبب مرح وسعادة الأولاد وبسبب طريقة تفاعلهم مع الأغنية، أراهُ يبتسم ويضحك مِن اندماجهم، ورُبما كان يعشق الأغاني مثلي لكنَّه لا يُصرِّح بذلك، رُبما يُحبها لكنَّه يخشى أن يقوم هو بتشغيلها خوفاً مِن موروثٍ ديني أو أخلاقي يُسيطرُ عليه مُنذ زمن.لا أدري لماذا أشغلُ بالي بعم منصور، إنَّهُ رجلٌ كبيرٌ ومُلتزم، يستمع فقط إلى القرآن الكريم وتتميَّز حياته بالبساطة، لابد أن نفسيته سويَّةً أكثر مِنِّي لأنَّه لا توجد أمورٌ كبيرةٌ تؤرقهُ مِثلي، أنا الذي يحملُ هموماً كثيرةً هُنا وهُناك، وكُلَّما اتسعتْ دائرة أعمالي كُلَّما ازدادتْ هُمومي أكثر.قال لي صديقي (وهو رجل أعمالٍ أيضاً) أنَّ أفضل شيءٍ قد يُساعدني على نسيان همومي هو تدخين الحشيش، قال لي أنَّه شيءٌ لا يُسبب الإدمان كالكوكايين والهيرويين، لذا فلن يُضيرني أن أقوم بتجربته، لأُنفِّسَ عَن روحي وضيق صدري.كيف يُمكنني أن أشتري ذلك الحشيش؟ لا أُريد أن أُرسل أحدهم ليشتريه لي وإلا اهتزَّتْ صورتي أمام الناس، المُهم هو المظهر العام، تمنيتُ لو كان بإمكاني أن أُرسل عم منصور ليشتريَ لي الحشيش، فهو الوحيد الذي أئتمنهُ، أطردُ الفكرة مِن رأسي سريعاً وأنا أضحك، عم منصور لا يقوم بتشغيل الأغاني أبداً.وصف لي صديقي مكاناً غريباً يُمكنني أن أشتري مِنهُ الحشيش، لا مَفرَّ مِن أن أذهب بنفسي كي لا يعلم بأمري أحد، تركتُ سيَّارتي بعيداً وترجَّلتُ نحو المكان الذي وصفه صديقي لي، إنَّه مَتْجَرٌ مُتواضعٌ يبيع بعض الخردوات كستارٍ يخفي وراءهُ تجارة الحشيش، لقنني صديقي كلمةً سريَّةً لابُد أن أُلقيها على البائع حتى يطمئنَّ إليَّ ويبيعني الحشيش، يالها مِن مغامرةٍ ساخرةٍ لا تليقُ برجل أعمالٍ مِثلي، رأيتُ أحدهم يقفُ أمام باب ذلك المَتْجَر، وقفتُ بعيداً انتظرهُ ريثما يرحل، اشترى الرجل شيئاً مُريباً في لفافةٍ صغيرةٍ جداً وعاد ليمُرَّ مِن أمامي تماماً دون أن يلتفتَ إلى أحد، كان الرجل مُرتبكاً وقلقاً للغاية، تابعتُه بنظري ريثما ابتعد عنِّي قليلاً، كان الرجل هو عم منصور
Published on August 23, 2011 15:49
No comments have been added yet.


