إلى هادي العبد الله في السنة السادسة للثورة
ليلةَ رأسِ السنة، يقف العالم كلّه على حافّة الزّمن ينتظرون العام القادم الذي لا يدرون ما سيحمله لهم. يتمنّونَ أن تكونَ مفاجآته هذا المرّة أكثر سعادةً وبأقلّ الخسائر.. ينتظرون دَقّة الساعة الأخيرة، لحظة الصفر التي ستمثّل للبعض نقطة انطلاق جديدة، وللآخرين بداية سلسلة جديدة من الانهزامات. هي الليلة ذاتها، تمرّ على البعض بنشوة انتصار، وعلى آخرين بمزيد من الانكسار.
ثمّ إذا اقتربْنا أكثر من رأس سنةِ كل شخص على حدة، ذكرى ميلاده الميمون الذي أمضى حياته بانتظاره كل ثلاثمئة وخمس وستين يوماً، وجدنا في بعض الأحيان موائد عامرةً بما لذّ وطاب، وزينة ملوّنة تحيط بالمَدعوّين، وشمعات على عدد السنوات التي انقضت من عمر المُحتَفى به تنتظر، صامدة في وجه النسمات، أمنية منه قبل أن تنطفئ.
لكنّ ذكرى الميلاد في أماكن أخرى هي شيءٌ آخر تماماً. هي ذكرى رسالةٍ، أو ذكرى هديّة، أو ذكرى شخصٍ، أو ذكرى أمنية. هي ذكرى وجهٍ أحبَبتَه ولمّا يعُد إلى لقائه سبيل.. وذكرى أهلٍ اشتقتَ إليهم، باعدت بينك وبين لقياهم شواطئ الرحيل.. هي ذكرى سنواتِ سِلْمٍ، وذكرى أوقاتِ مرَح، وذكرى اجتماعات مع الأحبّة.. ذِكرى كعكة احتفاءٍ متواضعة، وذكرى ابتسامةٍ نادرة، وذكرى صورةٍ أخيرةٍ.. واليومَ، في ظلّ الطائرات، وتحتَ سحُب التفجيرات، أصبح لذكرى الميلاد طعمٌ جديد.
من كان يظنّ، يا هادي، أنّ أطفالاً كانوا يلعبون يوماً في شارع الحيّ سوف يُصبحون رجالاً في غضون أشهر؟ أرباب خيامٍ يُطلقون عليها اسم "البيوت"؟ من كان يظنّ أنّ النساء سوف يُصبِحن رجالاً تحت وطأة النزوح، وأنّ رجالاً سيصبحون شائبين من كثرة الفواجع؟ من كان يظنّ أن ستّ سنواتٍ شرذَمتِ العوائل، وفرّقت الأصدقاء، وجعَلَت في صدْرٍ كلٍّ منهم خوفاً وحزناً يزيد ألمه مع الزمن بدل أن يندمل؟
الحربُ يا هادي صورة لمن يُتابعها من خلف الشاشة.. مُصطَلَحٌ قابل للحوار والتّفاوض والنّقاش.. مفردةٌ مليئةٌ بالمعاني، تنفُضُها عنها قبل أن تصل إلى المستمعين.. الحرب أشلاء ممزقة، ودماء منتشرة، وبقايا منازل، وآثار مدُن، وفيضٌ من الذكريات.. هي أعداد شهداءٍ، وأكثر منها أعداد الإصابات.. وأفئدة تكاد تهوي من وقْع تخاذل العالم، قبل أن تمسّها الجِراح. وهي في مقابل ذلك كلّه، صوتُ المخنوقين المقهورين، تُحاول إيصاله أنت، فتَخسَرُ أشقّاء الروح على طريق الثّورة.. لكنّك بالرغم من ذلك تتابع المسير، وتحمل الراية وتسير قابضاً على ندبات المصائب كي تحيا القضيّة الأمّ.
لحظةٌ واحدة تكفي لتصبح المنعطف القاسي في حياةِ كلّ منّا، حيث يتحوّل كلّ شيءٍ قبلها وبعدها إلى تقويم مُسنَد إليها، وتغدو هشاشة أرواحنا أوضح. وإني لأحسَب أن حياتَك قد غدَت مجموعة منعطفات يُخيّل للمرء أنّها لن تنتهي. الصورة الأخيرة قبل الفقْد، الحُلمُ الأخير قبله، السهرة الأخيرة قبله، وجبة الطعام، النظرات، الإيماءات، النّكات، التخوّفات، والتّوصيات.. تتهافت كلّها، الجراحُ، عند كلّ اختبار جديد.. لكنّها لحظات نُضجٍ مُحَتّم. لحظات اختبار للصبّر، وابتلاءٌ لن يزيد الحِملَ -بحكمة ربّانية- فوق طاقتك.
في الذكرى السادسة لبداية الثورة السورية على وجه كوكبٍ يعجّ بالظّلم، أدعو الله لك، حيثُ أنتَ، ألّا تشهد المزيد من سفك الدماء وهتك الحُرُمات، وأن يربِط الله على قلبك، ويزيد من همّتك، ويُجنّبك المزيد من الفَقْد، ويحميك وأمثالك ممّن رفعوا صوتَ النّاس في حين كانت حناجرهم تغصّ بالآلام وأنفاسهم تخفُتُ تحت الركام.
15-3-2017
Published on March 15, 2017 11:22
No comments have been added yet.