وحشتني قوي يا عمو مصطفى

عندما سألني البعض عن مدونتي، أجبت أنني كلما شرعت في إنشائها تذكرّت أنه عليّ أن أكتب تجاربي الشخصية بها فأتوقّف. أخبرتني صديقتي المهتمة بعلم الأبراج – كل المهتمين بعلم الأبراج نساء لذا هو رائج في الأغلب – أن هذا من صفات برج الدلو الذي عليّ التشرّف باقتراني به، وخاصةً وأنا من مواليد 25 يناير.
اليوم وجدتني أتخلّى عن كل هذه القناعات وأكتب ما أشعر به وفقط، دون التفات إلى لفظ مكان آخر، أو أسلوب يجب أن يُصاغ بطريقة ما مواءمة للمضمون. ما يختلج بداخلي وكفى.. وآه ٍ مما يختلج بداخلي..
أعود بالذاكرة لعام بالتمام.. يوم الرابع والعشرين الأسود من أغسطس لعام 2010، تلقيّت اتصال من أحد الأصدقاء يؤكد حضوري في يوم 25، والذي وافق الأربعاء وقتذاك؛ إذ أنه موعد معرفتنا إن كان سيتم تجندينا ضمن القوات المسلحة، أم أن التأجيل كان نصيبنا. أكدّت حضوري، ولكن متأخراً لظروف الصيام واتفقنا.
لماذا أسرد هذه الوقائع تفصيلاً رغم أنني سافرت بورسعيد في اليوم الثاني ولم أذهب لمنطقة التجنيد بالمنيا؟.. أحس للمرة الأولى أنني أريد الفضفضة بقلمي مع ورقي.. لم يُسيطر عليّ شعور بالرغي الورقي أبداً مثلما يكتنفني الآن.
المهم أنني ذهبتُ لصلاة التراويح في المسجد القريب، برفقة أبي، وسألته في الطريق عن حالة عمي مصطفى.. عمي الذي رقد في مستشفى ببورسعيد لمدة أسبوع زرته في خلاله، وأخذ يمازحني رغم تدهور حالته الصحيّة.. استغرب رأسي الأصلع. تعللت له بأن ذلك من أجل الكشف الطبي للجيش. غاب عن الوعي وهو يحادثني مرات عديدة، وأخبرتني زوجة عمي العزيزة أن هذه حالته منذ بدء رمضان، وقد كنا في مطلع الأسبوع الثاني من رمضان. بعد أن تأخرّت الحالة اُضطرنا لنقله لمستشفى بالهرم ليكون تحت عناية المتخصصين في أمراض الكبد.
في مستشفى الهرم بدأت الحالة في التحسّن، وأخبرني أبي أنه لا ضرورة للسفر من جديد لزيارته، فالحالة قد استقرّت. إذن فهذا جواب أبي: الحالة مستقرّة، وطنط أمل –زوجة عمي – برفقته وتؤكد أن حالته آخذه في النمو. أثلج صدري، بعد قلق متصّل لأيام طِوال خاصةً مع أبناء عمومتي تلفونياً؛ إذ لم تتح لهم الظروف ليسافروا مع أبيهم من بورسعيد للقاهرة.. ألا لعنة الله على المركزية والإمكانيات الطبيّة التي تفرّق بين أب وبنيه.
في طريق العودة من الصلاة، امتدحنا صوت الشيخ الملائكي الذي تفوّق على نفسه. ووصلنا المنزل. وفتح أبي هاتفه فوجد أن هناك مكالمة فائتة من عمي أحمد المرابض مع عمي جمال في المستشفى. اتصّل ابي ليستعلم إن كان هناك جديداً فكانت الصاعقة.. وجدت لون أبي يتغيّر فعلياً: ويهتف غير مصدّق: "البقاء لله في مين؟.. في مين؟.. مصطفى أخويا؟.. مصطفى؟.. لا متقولش يا باشمهندس؟.. ازاي دا حصل؟ امتى؟.. الحمد لله.. الحمد لله يارب.. الحمد لله"..
وكانت المرة الأولى منذ مولدي التي أرى فيها دموع أبي.
صلّيت خلف أبي الذي كان إماماً في جنازة والده، لكنه لم يدمع. عرفتْ أنه بكى ليلاً حينئذ، لكنه أمامي لم أعهده أبداً مثل ذلك، لذا أصابني انهيار، وأحسست بفجيعة أن أفقد عمي، وأنا أرى أبي بهذا الحال.
بعد ذلك لم يلهج أبي سوى بكلمتين رددهما بقيّة الليلة: "إنا لله وإنا راجعون.. الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه".
حالتي كانت يرثى لها، حتى أن المنزل عندما ضج بالمُعزين، والذين رغم تقديري لواجبهم العظيم، إلا أن مثل تلك اللحظات تحتاج للاختلاء بحق.. لكن من يقنع. لم أشاهد وجه أحد، لأنني ألقيت نظارتي ودفنت وجهي في كفي طوال الليل، حتى أن كثيرين مما جاءوا حاولي رفع يدي عن وجهي بمقولات "عيب أنت راجل"، و"أنت مؤمن متعملش كدا".. وكأن البكاء والحزن الشديد فعلين ينفوا الرجولة والإيمان.. كرهت كل شخص وكل شيء في ذلك اليوم.
حينما يجيئك خبر موت عزيز لديك، أول ما يجول بخاطرك هو أنك لن تراه ثانيةً. هذا الخاطر قتلني بكل ما تحمله الكلمة.. كيف لا ألقى أحب أعمامي إلى قلبي.. الرجل الذي كان صديقي حقّا، ولم أكن أخفي عنه شيء ألبتة. الوحيد الذي يجعلني أجلجل بضحكتي، ومنذ فارق الحياة لم أضحك ضحكة من قلبي فعلاً. هو الذي علمني الابتسام، وعرّفني كيف أحب الحياة.. لقد أحب الحياة، لكن الحياة لم تحبّه، لذا فارقها.
عمو مصطفى.. حبيبي.. الذي كان يصفنى وابن عمي بأقفال العائلة، إذ كنت في مرحلة عمرية ما صلفاً في التعامل خاصةً مع الفتيات. رباّني نفسياً، وحتى جسدياً.. حينما سخر من سمنتي المفرطة فيما سبق، وكيف أنني سأصير أفضل لو قمت بالتخسيس خاصةً في الملابس. وعندما هبطت بوزني كان حفيّاً بي للغاية.
عمو مصطفى الذي يناديني دائماً بالفسل والإمعة، وعندما ندخل في نقاش ما ويعجبه منطقي كان يقول لي: "أنت ملكش حل". آهٍ كم اشتقت أن أسمعها بنبرته.. نعم أفتح هاتفي باستمرار وأرى رسالته لي التي كتب بها "أنت ملكش حل"، بعد نقاش في الرسائل ساخر عبر الهاتف، لكنني أتوق بحق لأن أسمعها بصوته.
والكتب، تلك الحياة الذي جعلني أبحر فيها ولا أغرق، عندما سألني طفلاً ما هوايتك ولم أعرف الإجابة، غضب وعلمّني ألا أجيب هذه الإجابة مرة أخرى، وعليّ البحث داخلي عن شيء ما يشبع هوايتي لأبرز فيه. كل منّا لديه الشيء الكامن بداخله وعليه أن يظهره، لو كتب بهذا الشأن لتفوّق على خيميائي باولو كويلو، فقد نجح في إبراز نقطة النور داخل طفل مداركه لم تتفّح بعد على العالم.. ولم يتوّقف عند ذلك، بل قراءتي عندما بدأت في التوسّع، وبدأتُ أكبر سنّاً كان دائم الترشيح بالنسبة لمن أقرأ؟.. استغرب أنني لم أقرأ لمحمد عفيفي، ودُهش من ندرة كتب يحيى حقي التي أمتلكها. ويوم حصدت جائزة عصير الكتب، أول من هاتفت عندما علمت كان هو. وعندما علمت بصدور الكتاب أخرجت رقمه من الهاتف وكدت أدقّ عليه. جنون أعلم ذلك. لكن المنفلوطي قالها: وهل تطيب الحياة بدون جنون؟.
ورحلته الأخيرة لمسقط رأسه، بني مزار، تلك المدينة التي غادرها في ريعان الشباب، مسافراً ليعمل كخبير تجاري في وزارة العدل ببورسعيد، واستقر به المقام هناك حتى دُفن في المدينة الباسلة التي أحبّها، وزرع بداخلي عشقها. ورغم التعصّب الكروي هناك، إلا أن أهلاويته ظلّت راسخة، وكم من حكايات كان يحكيها لي عن كواليس تدور هناك، واستفزاز يقوم بصنعه كونه الأهلاوي المنتصر دائماً.
المهم أنه عندما زار بني مزار، وكان ذلك في شتاء 2010، كان كالحبيب الذي سيقابل حبيبته بعد غياب. الشوق لكل ركن في البلد. قلت له "يا عمو مصطفى وحشاك في ايه دي بلد معفنة"، فأجاباني: "واحشني ريحة العفن بتاعها، صدقنّي لمّا حتكبر حتفهم قصدي، عارف أنا مهما رحت وسافرت وجيت، عمري ما حسيت بالأمان غير وأنا في بني مزار". كنت رفيقه لحظة بلحظة في هذا الأسبوع، حتى في النوم كان يشاطرني غرفتي. وعندما نخرج في الصباح أو المساء كان يتأبط ذراعي ونسير بين الطرقات، نزور هذا، ونسلّم على هذا. حكى لي عصارة تجربته، حكايات أعلمني أنه لم يتلفّظ بها طوال حياته. عن معاناته في الحياة، المشاق التي تعرّض لها حتى وصل لمنصبه المرموق في وزارة العدل كوكيل وزارة، ومدير مكتب شبرا. كنت فرحاً كصديق يسمع أسرار صديقه. الصبر والثقة بالله والضمير كانت العصارة التي لقنهّا لي.
وحشتني جداً يا عمو مصطفى
وحشتني حكاياتك التي لا تنتهي، ونكاتك التي لا تنضب، وضحكتك التي لا تنقطع، وحديثك الذي لا يمل سامع منه.

نفسي أقول لك أنه مصر قام فيها ثورة، نفسي أقول لك أني عملت كتاب، نفسي أسمّع معاك "مضناك جفاه مرقده"، نفسي أقول لك أني مبقتش قفل زي زمان، نفسي أسألك أنت كنت بتحب أمل دنقل عشان شبهك قوي؟، نفسي أقول لك أني مبقتش أحط المروحة قدام جسمي زي الأول عشان مبقاش مكحكح لمّا أكبر.

للأصدقاء الأعزاء، عذراً لو بالغت في بعض مشاعري وأطلت، عذراً لو أفرطت في الاستطراد والاسترسال وتوقفّت بنقاط لم أكُملها وتحدثّت بغرابة عن نقاط أخرى: إنه القلب حينما يكتب ولو وجدتم أخطاء كتابية، فلأنني لم أقو على قراءة النص ثانيةً، ولا أعرف حتى اللحظة كيف كتبته.

أرجوكم اقرءوا له الفاتحة، وادعوا له بالرحمة والمغفرة، فإن ذكرى رحيله جوار ربّه تحلّ في 24-8
20 likes ·   •  12 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 19, 2011 16:56
Comments Showing 1-12 of 12 (12 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

أميــــرة عمّك مماتش يا حازم
لو زرع فيك كل الحاجات دي فعلا يبقى مماتش
اللي بيموت هو اللي عدى على حياتنا زي السحابة في وقت ليل ، لا بتشوفها ولا هتفرق معاك لو معدتش
بس الأكيد إن عمك كان سحابة ضخمة في نهار حار
وقليل أوي مننا اللي ممكن يتكلم عن شخص أثّر في حياته زي ما عمك أثر فيك
افخر به .. وافخر بنفسك
ربنا يرحمه :)


message 2: by Walid (new)

Walid Elalfy لا املك لك الا رساله العظيم امل دنقل الى اسماء بنت الاديب الرائع يحى الطاهر عبدالله ليرثى صديقه ويقول فيها :-


ليت أسماء تعرف أن أباها صعد

لم يمت

هل يموت الذي كان يحيا

كأن الحياة أبد

وكأن الشراب نفد

و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد

عاش منتصباً، بينما

ينحني القلب يبحث عما فقد.

ليت "أسماء"

تعرف أن أباها الذي

حفظ الحب والأصدقاء تصاويره

وهو يضحك

وهو يفكر

وهو يفتش عما يقيم الأود .

ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات

خبأنه بين أوراقهن

وعلمنه أن يسير

ولا يلتقي بأحد


message 3: by حازم (new)

حازم Amira wrote: "عمّك مماتش يا حازم
لو زرع فيك كل الحاجات دي فعلا يبقى مماتش
اللي بيموت هو اللي عدى على حياتنا زي السحابة في وقت ليل ، لا بتشوفها ولا هتفرق معاك لو معدتش
بس الأكيد إن عمك كان سحابة ضخمة في نهار ح..."


شكراً جزيلاً ليكِ يا أميرة
كلماتك ووصفك البديع أضاف كثيرة للنوت ولي..
:)


message 4: by حازم (new)

حازم Walid wrote: "لا املك لك الا رساله العظيم امل دنقل الى اسماء بنت الاديب الرائع يحى الطاهر عبدالله ليرثى صديقه ويقول فيها :-


ليت أسماء تعرف أن أباها صعد

لم يمت

هل يموت الذي كان يحيا

كأن الحياة أبد

وكأن الش..."


رسالة في الموعد تماماً.. شكراً جزيلاً لك مشاركتي إياها :)


منيره محمد الله يرحمه يارب ونجاحاتك بتوصله بكل تأكيد ..
استمتعت بالقراءة حتى وصلت إلى اخر نقطه ..
) نفسي أقول لك أنه مصر قام فيها ثورة، نفسي أقول لك أني عملت كتاب)
لم استطع أن أملك دمعتي ..!
ربي يبلغه فيك أكثر وأكثر ..

لو كان الموت بشراً لدعوت الله أن يقع مصيره بأيدي الثوار .!


message 6: by حازم (new)

حازم اللهم آمين يارب، شكراً ليكِ جداً يا منيرة
:)


message 7: by Radwa (new)

Radwa الله يرحمه
:)


message 8: by حازم (new)

حازم اللهم آمين يارب
:)


message 9: by Marwah (new)

Marwah  Salem اثرت فيني جدا يا حازم . الله يرحمه . الفراق صعب ومؤلم بس انت خليت الفراق يعلمنا ان في انسان رائع بشخصيته اسمه عمو مصطفى وفي انسان اروع باخلاصه اسمه حازم
الله يبارك فيك ويرحم عم مصطفى


message 10: by حازم (new)

حازم أشكرك جداً لذوقك :)
واللهم آمين يارب


message 11: by Radwa (new)

Radwa موجعة جداً
ربنا يرحمه ويكرم نزله ويغسله بماء وثلج وبرد وينقيه من الخطايا ويصبرك


message 12: by حازم (new)

حازم اللهم آمين :)
شكراً ليكِ


back to top