3015
مقدمةأنت،أيّها الغريب، المتطفل على عالمي،إن كنت تخطو مرة إلى الأمام وعشرة إلى الخلف، فاعلم أني فعلت ذلك قبلك..لكنّ الجهل عدوّ لا يحارب إلا بالإقدام على المعرفة،والواقعُ فسحة ضيقة، نحتاج فيها إلى فقاقيع الخيال!
1
دخل الدكتور "فَحميّ" إلى القاعة بهدوئه المعتاد. توقّف أمام منبره، ثم توجه إلى الحضور:"إدارة جامعة قوس الألوان، العاملون فيها في أي مرفق كان، الطلبة الأعزاء،لا يخفى عليكم أن اليوم يومٌ مجيد في عالم الألوان.في مثل هذا اليوم منذ ثلاثة آلاف عام، اجتمع أجدادنا الأحمر والأزرق والأصفر لوضع دستور عالمي يضمن بقاء ذرية الألوان على كوكبنا هذا. وهذا المرجع القانوني لم يوجد عبثاً.هو الذي حدّد اليوم يوماً للفرح المطلق.. يوماً للتسامح والتفاؤل بالسنة الجديد. ستتعطل الدروس كما في كل عام. وسيحتفل الكوكب بأسره.. هذا الكوكب الفريد وُجد للفرح. تنوّعنا هو سر تألّقنا واختلافنا هو الحلّ لتآلفنا.تجانس بعضنا، أو عدمه لا يزيد أيّاً منا أهمية على غيره،.. واشتداد اللون أو خفوته لا يقسمنا إلى طبقات اجتماعية. والفضل الأكبر في هذا يعود إلى أجدادنا كما سبق وذكرت.لنتذكّر سويةً المواد الأولى من القانون: تولد جميع الألوان حرّة، ومتساوية في الكرامة والحقوق.هذا يذكّرني بكوكب بعيد عنّا، تتحدّث عنه كتب التاريخ:الكوكبُ الأزرق –طبعاً بالإذن من عائلة الأزرق التي نشهد جميعنا على برائتها منه-،.. لم يتمّ التأكّد من صحة الأخبار التي نُقلت عنه، ودُوّنت.. إنما يمكننا توقع حالة الفوضى التي يمكن أن تصير إليها بلادنا في حال سِرنا على نَهْجِهِم.ذاك الشعب له قانون جدّ شبيه بقانوننا، لكنّه وضِع دون أن يُطَبَّق! وُجد لِتُغنّى –ربما- كلماته، وتنسج شعارات فقط.. أو لِتُقدّم في المدارس كأطباق دسمة للامتحانات..بل وزادوا على المادة الأولى في دستورهم بأنّ كلاً منهم قد وُهب عقلاً وضميراً، كأنّ أحداً يحتاج إلى معرفة ذلك.. واشترطوا التعامل مع بعضهم بروح الإخاء.لكن هيهات..فرؤوس الدول تآخت مع من يؤمن مصالحها،..ولم ترحم مع من تعارض معها دفاعاً عن "حقوقه" التي يقرّها قانونهم!سُلبت الأراضي، ومُزّقت وقُسّمت،واستَولت واعتَدت،وأَمرت سُلُطاتها ونهت، والأرواحَ أزهقت،ثمّ أدانت واعترضت! قُلِبت حياتهم من غير أمن، وأنتم اختبرتم هذا من قبل،وتعلمون جيداً ماذا فعلت ثورة الألوان، ولولا تداركَ الكبار الوضع،وهدّأوا النفوس لوقع ما يقطع الذرية، فننقرض، ولا يبقى منّا إلا القليل القليل في كتب التاريخ كحال هؤلاء، لم يبقَ منهم إلا خبرهم قبل أن تحلّ عليهم الألفية الثالثة.الأعزاء الحضور، لحظات وتتلاحم عقارب الساعة مع حرف الألف..لحظات ونودع عالماً من الرقيّ، لنستقبل عالماً أرقى..ها هي الألوان تتطابق..ها هو مجموعها اللوني الأسود يفتح لنا باباً إلى الغد..الغد الذي يضيئه مجموعنا الضوئي..نحن الأبيض والأسود..دخلت السنة الجديدة..السنة الخامسة عشر من بعد الألفية الثالثة، سنة 3015نعلنها، ونحن نؤكّد على أهمّية التسامح والإخاء..نؤكّد على رباط اللونية الذي يجمعنا، اللونية التي ستضمن تطورنا وانطلاقنا بخفّة نحو عالم الرّخاء والتقدم والازدهار..كل عام وعالم الألوان بخير..كل عام والألوان بخير"
2غادر الدكتور القاعة في ذلك النّهار بعد أن أشعل نار فضولي. هل حقاً يوجد في هذا العالم كائنات غريبة كالتي في قصص الصغار منا؟ وكيف سيكون قوامها حتّى يسري عليها قانون ما..خرجت أنا و"زيتيّ" من القاعة مع الجموع لنحتفل مع البقيّة، مع أن بالي اضطرب بعد ما سمعت، مشوشاً تفكيري. لحظة، نسيت أن أخبركم من أكون! أنا "كاكيّ"، موجة ذات تردد لن يهمّك إن كنت من الكائنات الفضائية التي تكلم عليها الدكتور "فحميّ"، عالم التاريخ الأهمّ على كوكب الألوان. أمّا إن كنت شقيقاً من ذات كوكبنا، فلا بد أنّ حسّاساتك قادرة على معرفة تردّدي دون الحاجة إليّ."زيتيّ" هو صديقي الأعزّ، بحكم القرابة التي تربطنا، حيث أنّ تردّداتنا متقاربة، من عائلة الأخضر، التي تتفرّع عن جدّينا الأكبرين: الأصفر والأزرق. نكزني زيتيّ مراراً خلال الاجتماع السنوي لإعلان بداية العيد.. يظنّ أنّه يُسدي لي معروفاً، وكأنّنا لم نسمع هذا الكلام مراراً وتكراراً على مدى الأعوام السابقة.. لكنّ الجديد في الموضوع اليوم، أنّ الكلام ذاته يُعاد ويُقال في سنتي الجامعيّة الأولى. هذا يعني أنّ ما حُكيَ لنا من قبل ليس مزحة، والفكرة التي دَبّت فيّ ليست مجرّد فقّاعة خيال، الإنس موجودون!نظرت حولي: الفضاء يهتزّ فرحاً، والألوان تتحرّك بانسيابيّة، تكاد لا تفرّقها عن بعضها، فغضضت البصر عن الأفكار التي سرت فيّ، وانطلقت برفقة صديقي لنشارك الآخرين البهجة، مؤجلاً التفكير في ما أرّقني لليوم التالي.
3استيقظت باكراً اليوم، أكاد لا أحسّ بي. أظنّ أنّ حفل البارحة أَنْهَكَ طولي الموجيّ ما جعلني أبدو شاحباً. أو ربما كتابة المذكّرات هي التي جعلتني أفكّر أكثر ممّا ينبغي.. غريبٌ هو الشّعور، أن أكتب ما قد يقرأه كائنٌ مجهول بعد آلاف السّنين من انقراض جنسنا.. أو ربّما الغريب هو أن أظنّ أنّ كائناتٍ أخرى موجودة أو ستوجد في بقعة ما من هذا الكون.. بالنّسبة للدكتور فحميّ، احتمالُ انقراضنا لا يتعدّى الجزيئات من الواحد بالمئة، إذا التزمنا ب"الدستور المقدّس" حسب تعبيره. وهذا يعني أنّ حفيداً من العصور القادمة قد يلتفت إلى هذه المذكّرات كمخطوطاتٍ مهمّة يجب تباحثها لمعرفة أصله. حسناً أيّها القارئ، سأوضح لك كلّ شيءٍ عن عالمنا بالتّدريج. لكنّني سأكتبه بالترتيب الذي يناسبني. لذا لا تعجل، ولا تقرأ ما سأحاول تبسيطه إلا وَقمّةُ موجتك بأحسن حالاتها.أولاً، عليك أن تعرف أنّنا نحن الألوان كائنات ذات خواصٍ فريدة. معقّدة، لكنّها تولد معنا بالفطرة. فلا يحتاج أحدنا لمن يعلمه بأنّ المصدر الأساسيّ للطاقة لدينا هو المحيط الذي نعيش فيه. لكنّ علينا التدرّب قليلاً قبل أن يصبح بمقدورنا الاعتماد على مُستقطبنا دون توجيه. ثانياً، لكلّ لونٍ منّا مُستقطب، هو أقرب إلى "الروح" في مصطلحات "البشر" حسب ما قرأت. هذا العضو هو عبارة عن شريحة صغيرة تسمح لنا بامتصاص الشّعاع المناسب لطولنا الموجيّ، فنستمدّ منه حيويتنا ونضمن استمراريتنا. وعملية الامتصاص ليست ما يجب أن نتدرّب عليه، بل كيفية تحديد الشعاع المنعكس من أحد التضاريس المجاورة.ثالثاً، التضاريس من حولنا ليست كلّها من النّوع الحميد. وسبب وفاة لون من الألوان لا يكون إلا امتصاص شعاع مزيّف يعطّل المُستقطِب لديه. أمّا عن إمكانية إصلاح المُستقطِب بعد ذلك، فلا تزال الأبحاث تجري في هذا المجال. وبينما يصل علماؤنا إلى نتيجة، تُكدّس الألوان المتوفّاة في مُجمّع كبير يحفظهم من التّلف. رابعاً، مستوى الحيويّة فينا يُقاس بالحزمة الضّوئيّة، وهو ما يتراكم من أشعّة تُمتصّ بواسطة المستقطِب. وأمّا حركتنا فتُسمّى الذّبذبة. مستواها هو ارتفاعها عن التضاريس، واتّجاهها يحدّد المسار، وسرعتها تساعد على بيان قمّة الموجة، أي المستوى الأعلى للطّول الموجيّ، أو ما يسمّى ب"الطّاقة".أتمنّى أن يكون ذهنك قادراً على فهم ما قرأت حتى الآن، وإلا فما سأخبرك به على مدى الأيام القادمة سيكون مجرّد طلاسم لا فائدة لها. سأتركك تحلّل ما قرأت، وأذهب لأستقطب قليلاً من شعاعي الخاصّ، فقد استهلكت معظم مخزوني خلال نومي.
4واقفٌ أمام الشاشة الخاصّة بي، أستعرض الخلاصات التي دوّنتها خلال الأسبوع. أحسّ ب"بينك" تراقبني، ولكنني أحاول جاهداً أن لا أعيرها أيّ انتباه. تظنّ أنّ أخذنا مادّة التجاذب معاً يجعلننا "لائقان" جداً ببعض. لا تفهم أنّها تظنّني ذكياً جداً، وأنّ ما أحتاجه هو من يؤمن بذكائي، لا من يظنّه. هذا عدا عن كون اسمها مشتقاً من تفسير ل"ورديّ"، مأخوذ من إحدى لغات البشر. وإلى الآن، لا دليل إيجابيٍّ حول الأخذ عنهم بِصِفَتهم متحضّرين. أدقّق النّظر في الملاحظات التي تمرّ تباعاً أمامي. ضربٌ من ضروب الخيال أن تكون كل هذه المعلومات غير صحيحة. من سيهتمّ بتدوين سيرة شعبٍ لم يوجد، ويضع له أوصافاً، ويرسم له أجساماً تشترك في الشكل العام؟ الغريب أنّ الواحد منهم تشترك في كُتلته عدة ألوان. ولكن لا شيء يشير إلى كونهم مركّباتٍ لونيّة. يبدو أنّ الأمر سيحتاج بحثاً أوسع، وتفكيراً أعمق.توقّفت لوهلةٍ أفكّر في الخطوة التّالية، حين أحسست ببينك تتذبذب قريباً منّي مشتّتة تركيزي. اقتَرَبَت ممعنةً النّظر في الشّاشة مُتصنّعة القراءة ثمّ هزّت نفسها دليلَ فَهمٍ واهتمام. وبينما أنا مأخوذ بسذاجتها، إذ بحزمةٍ ضوئيّة تومض من خلف الشاشة متّجهةً إلى قسم التّاريخ، وتحديداً إلى قسم العلوم البشريّة. ولأنّ ما يسري فيك ارتعاشاً يوصلُك إلى طولك الموجيّ الأعلى، لا يأتي في العمر إلا مرّة، كان عليّ أن أتجاهل ما ستتفوّه به بينكمحاولةً استلطافي، لألحق بحفنة الذّكاء تلك.طاقتي تكاد تنفذ. ليس لديّ الكثير من الوقت لأتبيّن من تكون قبل أن ألحق بنفسي أشحنها. كان واضحاً جداً لحاقي بها، والأكثر من ذلك وقاحة سؤالي لها عن اسمها، فإعمال ذهني في دراسة مُستقطِبها قد يكلّفني حياتي. وأن أكسب اسمَ شعلةِ الذكاء هذه مع توبيخٍ منها أفضلُ وأسلمُ من خسارة ذاتي ريثما يجدني أحدهم ويشفق عليّ فينقلني إلى مركز التزويد الشعاعي الاصطناعي. ولكنّ الصدمة كانت أنّها أجابت ببساطة ولا مبالة: اسمي أوركيد.
Published on August 12, 2015 08:33
No comments have been added yet.