كتب: ماهر عبد الرحمن
بدأت علاقتي بالقرآن منذ كنت في السادسة من عمري، وكنت أتلقاه في البداية على يد أحد المشايخ واسمه الشيخ عبد العزيز، والذي لم أعرف إلا فيما بعد أنه لم يكن سوى عامل بالمسجد يرفع الآذان ويصلي بالناس مؤقتا إلى أن تُرسل وزارة الأوقاف مُقيم شعائر من طرفها.
وبعد وقت أرسلت الوزارة الشيخ حسين، وهو مقيم الشعائر بالمسجد. حدث ذلك بعد أن أصبحت في الثامنة من عمري وكنت قد حفظت من سورة الأحقاف حتى سورة الناس. كانت صدمتي وصدمة والدي عظيمة حين عرفت أن الشيخ عبد العزيز كان يعلمني القرآن على نحو خاطئ، خصوصا في تشكيل الكثير من الكلمات، فكان يجعلنا نقرأ كلمة "النعمة" في قوله تعالي "وذرني والمكذبين أولي النعمة" بالكسر وليس بالفتح على النحو الذي وردت به في سورة المزمل. وسألت الشيخ الجديد عن الفرق بين المعنيين، فأجاب بقول القرطبي أن: النعمة (بالفتح) التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. والنعمة (بالكسر) اليد والصنيعة والمنة وما أُنعم به عليك. وقال لي إن "النعمة" بالفتح هنا هي من باب التعريض بالتهكم عليهم ووصفهم في موضع آخر بـقوله تعالى "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا"، فكيف تكون "نعمة" بالكسر، بل هي بالفتح باتفاق القراء.
ثم ختمت القرآن في سن الحادية عشر، وكان فضل الشيخ حسين علي فضلا عظيما؛ فقد فهمت أن للقرآن علوم واسعة على القارئ الجيد أن يطلع عليها ما أمكنه ذلك. بداية من علم التجويد الذي يفتح لنا باب معرفة أحكام القراءة والوقف والابتداء ومخارج الحروف وغيرها. وكذلك تعلم معاني وتفسير القرآن بشكل عام حتى نستطيع أن نقرأ عن فهم ومعرفة. وهذا هو الحد الأدنى لمن أراد أن يسلك هذا الطريق.
وبخصوص مخارج الحروف ففي المقال الذي كتبته عن الشيخ مصطفى إسماعيل، لم أذكر مشكلة نطق حرف القاف عنده، فإن من يدقق السمع يجده يقوله وكأنه كاف، وسط بين القاف والكاف. كما ذكرت كنت وأنا صغير أسمع وأقرأ على المصحف المرتل للشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان وقتها بالنسبة لي أعظم من قرأ القرآن. كنت بسمع المصحف المرتل بصوت الخمسة اللي مسجلين المصحف مرتل برواية حفص عن عاصم وتذيعه إذاعة القرآن الكريم، وهم: البنا والمنشاوي وعبد الباسط والحصري ومصطفى إسماعيل. مكنش مسموح لي من شيوخي وقتها أسمع تجويد عشان متحصلش لخبطة، في التجويد هناك قراء يتصرفون في القراءة بقدر، فمثلا أكبر مد في القرآن كما تعلمناه هو مد 6 حركات، والحركة هي مقدار قبض الإصبع أو بسطه، لكنك ممكن تلاقي شيخ بيجود وبيلعلع فيمد لحد 12 حركة أو أكثر، أو يزود في مد الـ 4 حركات إلى عشرة حركات أو يزيد عشان يجيب درجة الجواب في الصوت مثلا. وهناك قراء في التلاوة بالتجويد يقولون الآية الواحدة بأكثر من قراءة أو بأكثر من وجه للقراءة الواحد، كل بحسب علمه. لكن الترتيل يكون منضبطا، وملائما أكثر لطلاب العلم في بداية الطريق.
كان الأفضل إني أقرأ على مصحف الشيخ الحصري عشان هو الأكثر انضباطا ودقة، في الترتيل وفي التجويد. لم يكن مجرد قارئ بقدر ما كان عالما تقيا جليلا، وكان شيخا لعموم المقارئ المصرية، وله مؤلفات عن علم القراءات والقراءات العشر والوقف والابتداء والقرآن برواية ورش عن نافع المدني وغيره. لكني، مع ذلك، اخترت القراءة مع صوت الشيخ عبد الباسط لأنه كان أبسط وصوته أفضل وأجمل بالنسبة لي وقتها. وصارت بيني وبين صوت الشيخ عبد الباسط ألفة وصداقة عظيمة، حتى أنني أصبحت أقرأ بطريقته ونبرة صوت قربية من صوته تماما. كنا بنتعلم صفات ومخارج كل حرف بنقرأه، وبنحفظ شعر في أحكام التلاوة والتجويد والمد وأحكام النون الساكنة والتنوين والغنة والوقف والابتداء، وغيرها من أحكام التلاوة.
وفاكر مثلا إن مرة جالنا شيخ من مشايخ معهد القراءات بالشرقية يحضر معانا "مقرأة" وكان صديقا لأحد مشايخنا الذين كانوا يعلمونا في المساجد وقتها. وكنا معجبين بأنفسنا لحفظنا القرآن ومعرفتنا للأحكام وحفظنا للمتون الرئيسية من الجزرية وتحفة الأطفال وغيرها، كنا نتخيل أننا أصبحنا علماء في القراءة برواية حفص(..). الشيخ يومها قالنا اللي هيقرأ سورة الفاتحة صح يا مشايخ هياخد مني 100 جنيه مكافأة له. ضحكنا كلنا طبعا لغرابة الموضوع، دي الفاتحة يعني؟ المهم بدأت أنا لأني كنت أتممت حفظ القرآن كاملا. بسم الله الرحمن الرحيم... "اهدنا الصرا طال مستقيم"، غلط، تاني وتالت ورابع مفيش فايدة، وفضلت "طال مستقيم" دي عقدة عندي لحد ما اتعلمت ازاي أنطق حروف مفخمة وبعدها حروف مرققة بشكل عادي وسلس، وحروف استعلاء وبعدها استفال بشكل عادي وسلس وطبيعي. ولا حد من زملائي يومها عرف يقرأ الفاتحة كاملة صح. عرفنا يومها إننا مشايخ نص كم ولسه قدامنا كتير عشان نتعلم هذا العلم الكبير والصعب وهو علم القراءات. كنا بناخد سكتات لطيفة في الطريق عشان نعرف إزاي نقرأ وننطق كلمات مثل: "لله الواحد القهار" و"ففروا إلى الله" و"فأسقيناكموه" "تأمنا على يوسف" و"أأعجمي وعربي"، و"مجراها ومرساها" وغيرها كتير في ثنايا المصحف.
ركزت مرة مع نطق الشيخ مصطفى إسماعيل لحرف القاف المكسورة وبعدها ياء مثل: مستقيم، متقين.. لقيته بيقول القاف على عكس ما تعلمتها أنا وبسمعها من الشيخ عبد الباسط والشيخ الحصري وغيرهم، بينطقها أقرب للكاف، مخففة ومهموسة ومستفلة. وقتها صورلي الشيطان إني أروح أقراها كده قدام الشيخ وكأني فلحوس صغير جاب الديب من ديله. وعرفت يومها إن الشيخ مصطفى بيقرا القاف غلط وعلى غير سند أو وجه وعاقبني الشيخ يومها بإنه الزمني بقراءة آية من سورة المائدة تقول "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" قراءة صحيحة يرضها الشيخ وقد قرأتها بعد عشرات المرات قراءة صحيحة وعلى مرة واحدة.
مازلت استمع لإذاعة القرآن من حين إلى آخر، وكانت هذه الطريقة، مع أخذ القرآن مشافهة عن المشايخ، هي الوسيلة المساعدة والجيدة للاستذكار والتعلم، في السنين الخوالي. كنا صغارا وكانت جوانا طاقة وأحلام على قدر عمرنا، في البداية كنت أريد أن أكون قارئا مثل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أو الشيخ مصطفى إسماعيل، ومع التقدم في هذا العلم الصعب أصبحت أحلم بأن أكون عالما في القراءات، وكان مثلي الأعلى في ذلك هم مشايخ مثل الشيخ محمود الحصري أو الشيخ رزق خليل مشايخ عموم المقارئ المصرية سابقا، أو الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف شيخ عموم المقارئ المصرية الآن. وقد سمعت تسجيلات للقرآن بأصواتهم وبقراءات مختلفة، وسمعت برامج لهم في الإذاعة المصرية عن أحكام التلاوة وعلم القراءات، وقرأت فيما بعد كتبهم وشروحاتهم، بل وما توفر لي من سيرتهم الذاتية العطرة. وبعد أن أتممت حفظ القرآن وجدت في نفسي الشجاعة لأذهب وأقرأ بين يدي الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف في الأزهر.
كان هذا منذ سنوات وقبل أن يُصبح شيخا للمقارئ، لكنه كان عضوا رئيسا في لجنة تصحيح المصحف الشريف بالأزهر، وكان هو الذي يقوم بإمامة المصلين في العشر الأوائل من رمضان بالجامع الأزهر. جلست بالقرب من مكانه وكان يسأل أحد طلابه يومها أن يكمل من قوله تعالى "إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لإُولِى النُّهَى"، وقتها تخيلت أني نسيت سورة طه، ونسيت المتشابهات، فهذه الآية وردت مرتين في سورة طه، بل وأني نسيت القرآن كله. خرجت من الرهبة مسرعا. ثم عدت مرة ثانية، في هذه المرة وجدته كان يرد كل الطلبة، في كل حرف وفي كل كلمة، ويقول: لو هتمد 4 حركات تفضل على الـ4 دول. مقدار الغنة حركتين، لا واحدة ولا ثلاثة. قول صفات الحرف كذا واقرا الآية تاني. لو بتقرا من الطيبة (يقصد من طريق طيبة النشر في شرح القرآت العشر) فلـ"حفص" وجهان في كذا. وقرأت في مقرأته وبين يديه عشر آيات من النمل دون توقيف منه، وهذا أمر كان بالنسبة لي وقتها عظيم. وانتهت المقرأة وصليت ركعتين حمدا وشكرا لله على فضله ونعمته تلك. ودعوت الله يومها أن أختم القرآن وأن آخذ الإجازة في قراءة حفص على يد هذا الشيخ الجليل. لكني أخذت الإجازة من أحد مشايخ معهد القراءات بعد أن ختمت وقرأت عدة مرات. والإجازة هي شهادة من هذا الشيخ الذي يقوم بالإجازة بأني قرأت القرآن عليه كاملا غيبا مع الاتقان للأحكام والتفريق بين المتشابهات وحفظ ودراسة متن الجزرية. هذا الطريق الطويل كان ينبغي أن يكتمل بالدخول لمعهد القراءات بصفتي طالبا لا مجرد زائر. كان الطريق يحتاج للتفرغ التام وبشكل منتظم لإتمام عالية القراءات، لكن لم يكن هذا ممكنا وقتها، فكانت لدي دراستي العادية، وكان يجب أن أعمل إلى جوار الدراسة. وفي الطريق الطويل وبعد سنين من حفظ القرآن وإحكام التلاوة وقراءة كتب المتون والأحكام وأخد الإجازة والسند بقراءة عاصم عن طريق حفص (حفص عن عاصم) وعن طريق شعبة، وجدت أن عاصم هو واحد من عشرة قراء، وأن للعشرة تلاميذ وطرق مختلفة. ومع أني علمت نفسي قراءة ورش وقالون عن نافع وكنت وقتها قد وصلت، على الجانب الآخر، إلى الثانوية العامة. لكن كان التفرغ لهذا العلم وهذا الطريقة من الصعوبة بمكان وقتها، فهجرته. كنت أحيانا في هذا العمر أعمل مقرأة في المساجد مرة في الأسبوع، وزي المشايخ كنت بطلب من الطلبة قراءة متشابهات أو آيات صعبة حتى يتعلموا دقائق العلم كما تلقيته عن شيوخي، وحتى يتعلموا، وأنا معهم كطالب علم مثلهم، التواضع دائما، وأنه دائما يوجد فوق كل ذي علم عليم. تعلمت أن طريق العلم، كما الحياة، صعب وطويل ويحتاج إلى إيمان ومثابرة وجلد وإخلاص.
http://www.tahrirnews.com/posts/44603...
Published on July 20, 2016 12:18