الجنرال التعيس


لا ينسى الشاب النحيل ذلك اليوم الخريفي الكئيب في منتصف الستينيات والذي رفضت فيه الكلية الحربية قبوله بين صفوفها طالبا، ولم يسعده نهائياً ذلك الحديث الودي بينه وبين أبيه ليلتها، بأن دخوله كلية الحقوق قد يتيح له فرصة عظيمة للانضمام الى سلك القضاء.
أرقه فقط في الليل تلك الهيئة المبهرة للبدلة العسكرية، وكذلك تلك الكاريزما المبهرة للزعيم جمال عبدالناصر، قبل أن تجبره الدموع على الغرق في النوم، كارها ذلك الجسد الذي يحوي روحه لأنه السبب في فشله في اجتياز الاختبار الطبي للكلية.
وفي خلال سنوات أربع تناسى صاحبنا فيها حلمه الأكبر بأن يصبح ضابطاً لكنه أبدا لم ينساه، وعلى الرغم من سقوط الجيش المصري بأكمله في حرب 67 ، إلا أنه ظل وفياً لحلم عاص لم يتمكن من تحقيقه، ومرة أخرى يواجه صاحبنا الفشل في اجتياز اختبارات النيابة، ويفشل في الالتحاق بسلك القضاء، لتتحول أحلامه دائماً إلى كوابيس.
فشله في أن يصبح ضابطاً ثم قاضياً، أصابه بالهلع، كره مهنة المحاماة قبل أن يزاولها، قبل أن يقرأ إعلاناً في جريدة قومية يطلب ضباطاً متخصصين من حملة ليسانس الحقوق.
لم ينم من الفرحة يومها، وربما من الخوف أن يعاود الفشل، ولكنه هذه المرة حقق حلمه بالالتحاق بالاكاديمية العسكرية للضباط المتخصصين، ربما لتساهل اللجنة الطبية مع المتقدمين بسبب كونهم لن يحملوا سلاحاً وسيمارسون تخصاصتهم المهنية داخل القوات المسلحة، أو بسبب النكسة التي فتحت الباب للعدد الأكبر للالتحاق بالكليات والاكاديمية العسكرية.
وبعد ستة شهور وقف صاحبنا مبتسماً أمام ابيه، حيث حقق الحلم المزدوج فصار ضابطاً وقاضياً في آن واحد في سلك النيابة العسكرية، لم تشغله أبداً تلك النظرة الدونية خلال الأشهر التي قضاها في الأكاديمة من طلبة الكلية الحربية، أو سخريتهم المريرة من طريقة ارتدائه للـ"بيريه" العسكري، أو حتى من نحول جسده، وطريقة تدريبه على السلاح الآلي وشغفه به، على الرغم من أنه لن يكون مضطراً لاستعماله بعد التخرج.
لكنه لن ينسى أبداً تلك الليالي المؤلمة التي قضاها على مكتبه في الضفة الغربية متابعاً للانتصارات التي يحققها الجيش في الضفة الشرقية من القناة في حرب اكتوبر 73، ولم تمنعه رتبته الصغيرة ومنصبه في القضاء العسكري حينئذ من أن يحقد على كل من حمل السلاح، ويعترف صاحبنا لنفسه أن الحلم ولد ناقصاً لن يتم.
تدرج الشاب النحيل بعد ذلك بين الرتب العسكرية المختلفة، وتميز بشدة أحكامه على تلك القضايا التي تعرض عليه، والتي نفث فيها عن الكثير من غضبه، خاصة أن معظمها كان يمس ضباطاً هربوا من الخدمة، او وقعوا في مشاكل مادية أو اجتماعية، اعتبرها هو كفراً بالنعمة التي لم يدركوا قيمتها ولم يدرك هو تحقيقها.
ومع مطلع الألفية الجديدة وبعد سنوات قليلة من بدايتها، احتل صاحبنا الجنرال التعيس الدرجة الأعلى في مساره الوظيفي وصار قائداً ومديراً للقضاء العسكري، والذي يتلقي أوامره مباشرة من رئاسة الجمهورية بالاحكام المطلوبة لتلك القضايا المحولة من القضاء المدني.
وأثبت صاحبنا خلال أشهر معدودة لمن أختاره وقدمه لمنظومة الرئاسة كفاءة وولاء مابعده ولاء، وبما أن ذلك المعيار كان العامل الوحيد للترقي واحتلال المناصب الكبرى، فلم ينهى صاحبنا وظيفته ليحال الى التقاعد، بل تم ترقيته ليصير مساعدا للوزير للشئون القانونية.
وفي ظروف غير تلك، تعتبر وظيفة مساعد الوزير، مكافأة نهاية الخدمة لكل ضابط حاز على الرضا السامي، حيث يتمكن خلال عامين من مضاعفة ثروته الشخصية، قبل أن يحال إلى التقاعد في احدى الوظائف المدنية.
ولأن صاحبنا صاحب الحلم الغير مكتمل هو الوحيد بين اقرانه الذي لم يحمل سلاحاً قط ليحارب، ولأنه يشعر بتلك النظرة الدونية التي ينظرها له ضباط الأسلحة المقاتلة المختلفة، ولأن البلد تمر بظروف خاصة تحتم اللجوء إليه لتخصصه القانوني، ولأنه لم يمارس القضاء الحقيقي طيلة عمره بين اروقة المحاكم العسكرية على الرغم من حصوله على شهادة الدكتوراة في القانون، فان صاحبنا اضطر الى أن يكون عسكرياً أكثر من كل رفاقه، واضطر إلى إلى تحقيق حلمه على ملايين الشعب المصري الذي لا ينظر إليه تلك النظرة الدونية، بل يعتبره أحد رجال المجلس البارزين، الذين يطلون كثيراً على شاشات التليفزيون.
ليحقق الجنرال التعيش حلمه القديم بعد صبر طويل،وتتحول كل انكسارات الماضي الى انتصارات، لدرجة أن توريطه للمجلس العسكري في الاستفتاء والذي كان ليطيح بشرعية وجود المجلس بالكامل على سدة الحكم، لان الشعب اختار بقاء دستور 71 مع الموافقة على تعديلاته التسع، تحول داخله الى أن الاستفتاء كان لقبول شرعية المجلس العسكري، وهو ما ردده في أروقة المجلس حتى صدقه ليقوله على شاشات الفضائيات.
الجنرال التعيس لن يقبل ابداً أن ينهار الحلم نتيجة ضغوط ثورية من بعض شباب الثورة، الذين أطاحوا بسيد سابق، لكنهم لن يطيحوا أبداً بحلم تحقق بعد صبر طويل.
1 like ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on May 28, 2011 01:44
Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Nermo (new)

Nermo رائع يا اسامه
الثوره مستمره :)


back to top