هكذا شاهدت: ماذا حدث للكابتن جاك سبارو؟! وقائع الظهور في إعلان كريستيان ديور

ما الذي ذكَّرني الآن بـ"جاك سبارو"؟ في الحقيقة أنا لم أنسه قط. فحضوره شبه دائم في ذهني وفي صورة خلفية الكمبيوتر. لكن الذي ذكرني بالكتابة عنه هو ذلك الفيديو الذي شاهدته منذ أيام لإعلان أحد عطور "كريستيان ديور" والذي يقوم ببطولته "جوني ديب" شخصيًا! "ديب" الذي كانت اختياراته المهنية كلها في السابق تصرخ بمخالفة المألوف والتعالي على السائد ورفض المفروض، والذي كان له موقف معروف وحاسم من الشركات العملاقة وإعلاناتها التجارية والضغوط التي تمارسها لتشتري ولتصنع المشاهير ونجوم السينما. وتذكرت على الفور أن ذلك التغيير المريع لم يطرأ فقط على "جوني ديب"، وإنما طالت آثاره "جاك سبارو" نفسه! فماذا حدث للكابتن جاك سبارو؟!
ولدت شخصية "جاك سبارو" في أوراق سيناريو فيلم ديزني الشهير "قراصنة الكاريبي: لعنة اللؤلؤة السوداء" وكان المقرر أن يكون مجرد قرصان ظريف يساعد البطل الأصلي للفيلم "ويليام ترنر" - أورلاندو بلوم - في مغامرته. لكن وقوع الاختيار على "جوني ديب" لأداء الدور غيّر كل شيء! بدايةً من المظهر الخارجي لجاك سبارو (كان التصور المبدئي للشخصية هو قرصان قصير الشعر حليق الوجه تمامًا بمنديل مربوط فوق رأسه فقط) وحتى الصوت واللكنة والأداء والحركة وسمات الشخصية كلها، التي أضافها جوني ديب: اللحية القصيرة ذات الضفيرتين، الشعر الطويل المجدول، الأسنان الذهبية، الكحل، القبعة الجلدية ثلاثية الأطراف، كل تلك الخواتم والمشغولات التي كان يرتديها، وطريقة الحركة والمشي العجيبة التي لم تُعجب المسئولين في أستوديوهات ديزني إلى درجة أنهم فكروا جديًا في تغيير جوني ديب، بعد أن ضغطوا عليه كثيرًا ليعدِّل من أدائه وفقًا لما يرونه هم ملائمًا لجمهورهم المستهدف، فما كان منه إلا أن وضّح لهم أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي سيؤدي بها الدور، وإلا فلا! ولولا تمسك المخرج به وثقته الشديدة فيه لما ولدت تلك الشخصية التي سحرت الكبار قبل الصغار.
ويحقق فيلم "قراصنة الكاريبي" الأول نجاحًا هائلًا، وربما يعود أكثر من نصف هذا النجاح إلى أداء جوني ديب، فترضى "ديزني" عن "ديب" وتبدأ على الفور في التخطيط لإنتاج أجزاء أخرى. ويعلم المهتمون بالسينما جيدًا كم هو صعب أن يفوق الجزء الثاني من فيلم ما نجاح جزئه الأول. لكن المخرج المتميز "جور فيربنسكي" يفعلها ويقدم قصة جديدة طويلة يقوم بتجزئتها إلى فيلمين هما الجزء الثاني والثالث من قراصنة الكاريبي. وإن كان الجزء الأول أقرب بالفعل إلى أفلام المغامرات التي تنتجها أستوديوهات "ديزني" - لولا غرابة أداء جوني ديب - فإن المغامرة في الجزء الثاني والثالث تأخذ منحنى جديدًا تمامًا. فلم تعد قصة حب الحداد الشاب الفقير "ويل ترنر" وابنة الحاكم الأرستقراطية "إليزابث سوان" هي مركز الأحداث، وإنما اتسعت الدائرة كثيرًا لتكشف بالتدريج عن طبيعة العالم الذي تدور فيه أحداث مغامرات القراصنة هؤلاء.
فالعالم يتغير، كما يقول الكابتن باربوسا لصديقه اللدود جاك سبارو، وهما يقفان معًا يتأملان الجثة العملاقة للكراكِن، ذلك الأخطبوط الأسطوري المروع الذي ملأ قلوب بحارة العالم القديم رعبًا، لكنه الآن يرقد ميتًا على الشاطئ كأية جيفة لمخلوق بحري لفظته الأمواج. يتأمل "جاك" جثة المخلوق - الذي أثار رعبه هو شخصيًا في السابق - بنظرة هي مزيج عبقري من الحزن والدهشة والهم والشعور بالضياع، ويرد: "العالم كما هو، لكنه لم يعد يحوي الكثير".
فكيف يموت الكراكِن الرهيب؟ ولماذا؟ لأن اللورد "كاتلر بيكيت" مدير "شركة الهند الشرقية" أراد ذلك. لأنه أراد أن يتوقف كل هذا الهراء عن القراصنة والكنوز والوحوش واللعنات و"الأساطير" التي تهدد مصالح الشركة. فهو في النهاية مجرد رجل أعمال لا يريد إلا "البيزنس الجيد" - على حد قوله - "فعُمْلَة هذا العصر لم تعد الولاء، بل أصبحت.. العُمْلَة!"، وعقيدته في الحياة بسيطة، وقد فسرها للقبطان الرهيب "ديفي جونز" بكلمات بليغة: "يجب أن تُسيِّر السفينة كما آمرك. لقد اعتقدتُ أنك فهمت الدرس بعد أن أمرتك بقتل حيوانك الأليف (يقصد الكراكِن). هذا العالم لم يعد عالمك يا "جونز". فغير المادي قد أصبح.. غير مادي!"
بهذه الفلسفة تحاول شركة الهند الشرقية بسط نفوذها على هذا العالم القديم الساحر، وتوحيده وفق رؤيتها الخاصة ليصبح العالم الجديد "المادي" الذي لا مكان فيه لأساطير الماضي وسحره، ولا مكان فيه لشخصيات تستعصي على الترويض مثل جاك سبارو أو ديفي جونز ووحشه الأليف، فتحاول استخدام كل هذه الأطراف ضد بعضها، فتجبر جونز على ملاحقة سبارو، وتفاوض سبارو لإفشاء هوية ومكان تجمع أسياد القراصنة التسعة، وتدفع برموز هذا العالم إلى الدخول رغمًا عنهم في معركة حتى الفناء، حتى إن اللورد "بيكيت" يهدد ذات مرة قائلًا موضحًا نواياه تمامًا: "يمكنكم القتال، وستموتون جميعًا. ويمكنكم ألا تقاتلوا، وحينها لن يموت سوى معظمكم فقط"!
فهي الحرب الشاملة إذن، بين عالم قديم ينتمي لمغامرين أحرار يمتلكون سفنهم ورجالهم وغذاءهم وسلاحهم ويبحرون في بحار الدنيا كما شاءوا - وبلا أعلام لدول ترفرف عاليًا فوق سفنهم - بحثًا عن كنوز الأرض، وبين عالم جديد تضع قوانينه شركة واحدة عملاقة، بدأت كشركة تابعة للتاج البريطاني ثم انطلقت لتتغول في البحار وتتحول إلى كيان أخطبوطي عملاق فاق الكراكِن نفسه (وقتله في النهاية!) وتحكم براثنها على كل الموانئ والبضائع وطرق التجارة والبحار نفسها، وتتضخم حتى تتجاوز قوة وسلطة التاج البريطاني نفسه، وتتخذ علمًا خاصًا بها، وجيشًا مستقلًا يخدمها وحدها، ولا يتبقى من جنسيتها البريطانية الأصلية سوى لكنة اللورد كاتلر بيكيت ولمحة شاحبة من العَلَم الإنجليزي في شعار الشركة (بالمناسبة شركة الهند الشرقية شركة حقيقية وعلمها كان - لسخرية القدر - مزيجًا بين العلم الأمريكي والعلم الإنجليزي!).
هي الحرب بين اتحاد يضم الأسياد التسعة لكل "القراصنة" ضد شركة واحدة عملاقة. حرب الإبادة التي ستمسح أحد الطرفين من الوجود وربما حتى من التاريخ. هي الحرب التي تحكي تفاصيلها قصة الجزء الثاني والثالث من الفيلم. القصة التي تنتهي بلقطة أخيرة لجاك سبارو في قارب صغير، مجردًا من سفينته الحبيبة "اللؤلؤة السوداء"، لكنه مسلح بما هو أكثر خطورة من أسطول كامل: بخريطة نبع الخلود (الذي يمنح من يشرب من مائه عمرًا فوق عمره)، وببوصلته المسحورة التي لا تشير إلى اتجاه الشمال وإنما لاتجاه أكثر ما يشتهيه حاملها، وبروح القرصان التي أخرجته من أصعب المواقف قبل ذلك.
إذن تنتهي الثلاثية بانتصار روح القرصان الحرة، والهزيمة المنكرة للشركة التي أرادت أن تسيطر على عالم كامل من أجل حفنة أموال. حقًا ما أجمل الأفلام من هذا النوع! وما أبعدها عن الواقع! الواقع الذي تحكمه شركات مثل شركة ديزني التي صممت على استثمار النجاح الهائل للثلاثية (الجزء الثاني حقق المركز الثاني عشر في تاريخ الإيرادات العالمية بأكثر من مليار دولار!) لإنتاج أفلام جديدة. وظننتُ حينها أن جوني ديب العظيم سيرفض وسيترك شخصية جاك سبارو لمكانها التاريخي وسط شخصيات عالم الخيال التي لا تُنسى. لكننا هنا في العالم الحقيقي، وهزيمة الشركة وانتصار القرصان كان مجرد قصة خيالية جيدة، أو حلمًا بعيد المنال. وتعرض ديزني على "ديب" رقمًا فلكيًا - بحسب روايته هو - ليعود للظهور في فيلم رابع. ويقول في مجلة فانيتي فير عدد نوفمبر 2011: "هذا المبلغ يبدو خياليًا، لكنني يجب أن أقبله في النهاية. فهو - عند هذه المرحلة من عمري - ليس لي أنا، وإنما لأولادي". هكذا تحول القرصان العظيم جوني ديب إلى أب عادي تمامًا يحاول - ككل الآباء في الكون - "تأمين مستقبل أولاده" بحفنة إضافية من الدولارات. وهذا إذن هو الاتجاه الذي صارت بوصلة الكابتن جاك - التي لم تعد مسحورة - تشير إليه.
ويخرج الجزء الرابع - بعد خروج المخرج المحترم "جور فيربنسكي" من المشروع، وحلول المخرج متوسط الموهبة "روب مارشال" مكانه - هزيلًا على مستوى القصة والمضمون والأداء بصورة مخجلة. لكنه ينجح نجاحًا كبيرًا على المستوى المادي، وتتجاوز أرباحه المليار دولار ويلحق بالجزء الثاني ويحتل المركز الرابع عشر في تاريخ إيرادات السينما، لأن ديزني أرادت هذا النجاح وعملت من أجله. فلنعتصر الشخصية حتى آخر دولار. لا تهم القصة ولا تهم المعاني. يكفي ظهور القرصان المحبوب ليتدفق الكبار والصغار أفواجًا لمشاهدة الأداء المسلي والمضحك.
وبالطبع هناك جزء خامس سيعرض في يوليو 2017، ويقال أن أجر "ديب" عن الجزء الخامس فقط سيصل إلى 90 مليون دولار. وسيكون هناك مخرج جديد - بل اثنان! - وسيشارك "ديب" بنفسه هذه المرة في الكتابة! وهذا ليس غريبًا بعد تصريح "ديب" في 2011 عندما قال: "سأستمر بأداء شخصية جاك سبارو طالما كانت تتمتع بشعبية بين الجماهير".
إذن فقد انتصرت أخيرًا الشعبية وانتصرت الجماهير وانتصرت الشركات التي تصنع الشعبية وتوجّه الجماهير. انتصر اللورد كاتلر بيكيت وصدق ظنه عندما قال: "جاك سبارو هو الأخير من سلالة منقرضة. والعالم ينكمش. والأطراف الخالية من الخريطة لم تعد كذلك. وعلى "جاك" أن يجد مكانه في العالم الجديد، أو أن يفنى".
وفي عالم الواقع الجديد، وجد "جوني ديب" مكانه أخيرًا، واستسلم لإرادة الشركات التي صارت توجهه أنى شاءت. وبدأت أدواره - منذ عام 2008 حتى الآن - بالانحدار إلى مستوى دون المتوسط (حتى تلك التي أخرجها رفيق مشواره تيم برتون) حتى وصلنا أخيرًا إلى إعلان "ديور"! ولكن كل ذلك صار غير مهم. المهم هو "تأمين المستقبل" حتى لو كان الثمن هو إهدار الماضي.
بالنسبة لي، سأظل أحب أن أحيا في الماضي، وفي ذلك العالم الساحر القديم الذي لم يجد فيه الكابتن جاك سبارو مكانه إلا في ركوب البحار حرًا باحثًا عن الكنوز. في ذلك العالم الخيالي الذي شوهد فيه يومًا مبحرًا بقاربه الصغير، ومسلحًا بخريطة نبع الخلود وبوصلته المسحورة وروح القرصان، لكنه لم يصل إلى نبع الخلود، ولم يَعُد قط، ويقال أنه لاقى نهاية تليق به، هناك في عرض البحر.
أحمد الديب
Published on March 17, 2016 03:05
•
Tags:
هكذا-شاهدت
date
newest »

لقد علمت الان من اين اتت قصص ما بعد النوم
شكرا لك عزيزى