آية عبدالرحمن's Blog - Posts Tagged "أخبار-الأدب"
ورقةٌ تامّة
كان الدكتور هشام أستاذًا جامعيًّا فاضلًا، يجنح في عدله إلى حدود القسوة، وإذ يرى أعضاء هيئة التدريس وجهه الصارم في لجان الامتحانات يتوجسون خيفة، ويتوقعون ساعات عصيبة عندما يدخل، ويتخيلون صيحاته تفضح طالبًا سكنت عيناه ورقة زميله، أو فتاة تغش بطريقة ناعمة من "براشيم" موشومة على معصمها.
طالما كانت كراهية الدكتور هشام للغش والغشاشين حديث الساعة في موسم الامتحانات، وطالما تهامس الزملاء عن قسوته في تصحيح الأوراق، لكن أحدًا منهم لم يكن يعرف ماضي الدكتور هشام، الذي رأى بعينيه زملاء له يغشون فيحتلون مقاعد المتفوقين زورًا، بينما يهوي وأمثاله إلى قرار هاوية الفشل. كان الدكتور هشام يشمئز من الغشاشين كالجرذان.
وفي أثناء تصحيح الامتحانات الأخيرة، حدث أن صادف الدكتور هشام ورقة امتحان كاملة لا عوج فيها، كتب صاحبها الإجابات بخطٍ منمق، واستخدم اللغة العربية دون لحن، وحين استوت له الورقة في تمام كمالها، أمسك مسطرته وشطب على كل ما كتب، بقلم رصاصي صنع خطوطًا طولية غير رحيمة.
حدَّق الدكتور هشام إلى الورقة فترة حتى استوعب ما فعل صاحبها، ثم ابتسم ساخرًا من هذا الغشاش الذي استيقظ ضميره بعدما أتمَّ إجابته، لكن صوتًا ملحًّا جعله يقارن الورقة بسواها، فوجد إجاباتها هي الأكمل والأدق، وما من ورقة ترقى إلى مستوى تَفوُّق صاحبها وتميزه. حيَّرهُ التساؤل عمّا يدعو طالبًا متفوقًا لوأد جهده بيده، ثم تجاهل الفكرة وابتسم ساخرًا، وهمَّ بالشطب على الورقة ومنحها الصفر من الدرجات، لكن الصوت المُلحَّ أوقفه، وجعله يرجئ هذه الخطوة، فألقى الورقة باشمئزاز، وإن جعلها في مكانٍ بارز.
وخلال أيام، أنهى الدكتور هشام تصحيح الأوراق، وجمعها في كومة عظمى تجاورها الورقة التامّة، ولبث يُنقّل عينيه بينهما والاشمئزاز لا يفارقه، ولمَّا طلبت منه الجامعة سرعة إعادة الأوراق، تحجج بمرض مفتعل، ونال إجازة ليستريح.
ظل الدكتور هشام يفكر في الورقة طيلة أيام إجازته، يطارده وسواس غامض برسالة لم يملك مفاتيح شفرتها، فملأه بقنوطٍ تام، واشمئزازٍ طاغٍ، واحتل الصداع دماغه، وحرمه النوم.
ثم كانت الليلة الأخيرة من إجازته، عندما استيقظ الدكتور هشام من نومه فجرًا، وتوجه إلى مكتبه، وفتح الورقة، وبممحاة ناصعة مسح الخطوط الرصاصية، فاندحرت قسوتها أمام ثبات يده.
ثم التقط الدكتور هشام قلمه الأحمر، وكتب الدرجة كاملة، وضمَّ الورقة إلى أخواتها باشمئزاز.
.
من المجموعة القصصية "كُل ما فيه أسود"
نُشرت بجريدة "أخبار الأدب" في يونيو 2016
طالما كانت كراهية الدكتور هشام للغش والغشاشين حديث الساعة في موسم الامتحانات، وطالما تهامس الزملاء عن قسوته في تصحيح الأوراق، لكن أحدًا منهم لم يكن يعرف ماضي الدكتور هشام، الذي رأى بعينيه زملاء له يغشون فيحتلون مقاعد المتفوقين زورًا، بينما يهوي وأمثاله إلى قرار هاوية الفشل. كان الدكتور هشام يشمئز من الغشاشين كالجرذان.
وفي أثناء تصحيح الامتحانات الأخيرة، حدث أن صادف الدكتور هشام ورقة امتحان كاملة لا عوج فيها، كتب صاحبها الإجابات بخطٍ منمق، واستخدم اللغة العربية دون لحن، وحين استوت له الورقة في تمام كمالها، أمسك مسطرته وشطب على كل ما كتب، بقلم رصاصي صنع خطوطًا طولية غير رحيمة.
حدَّق الدكتور هشام إلى الورقة فترة حتى استوعب ما فعل صاحبها، ثم ابتسم ساخرًا من هذا الغشاش الذي استيقظ ضميره بعدما أتمَّ إجابته، لكن صوتًا ملحًّا جعله يقارن الورقة بسواها، فوجد إجاباتها هي الأكمل والأدق، وما من ورقة ترقى إلى مستوى تَفوُّق صاحبها وتميزه. حيَّرهُ التساؤل عمّا يدعو طالبًا متفوقًا لوأد جهده بيده، ثم تجاهل الفكرة وابتسم ساخرًا، وهمَّ بالشطب على الورقة ومنحها الصفر من الدرجات، لكن الصوت المُلحَّ أوقفه، وجعله يرجئ هذه الخطوة، فألقى الورقة باشمئزاز، وإن جعلها في مكانٍ بارز.
وخلال أيام، أنهى الدكتور هشام تصحيح الأوراق، وجمعها في كومة عظمى تجاورها الورقة التامّة، ولبث يُنقّل عينيه بينهما والاشمئزاز لا يفارقه، ولمَّا طلبت منه الجامعة سرعة إعادة الأوراق، تحجج بمرض مفتعل، ونال إجازة ليستريح.
ظل الدكتور هشام يفكر في الورقة طيلة أيام إجازته، يطارده وسواس غامض برسالة لم يملك مفاتيح شفرتها، فملأه بقنوطٍ تام، واشمئزازٍ طاغٍ، واحتل الصداع دماغه، وحرمه النوم.
ثم كانت الليلة الأخيرة من إجازته، عندما استيقظ الدكتور هشام من نومه فجرًا، وتوجه إلى مكتبه، وفتح الورقة، وبممحاة ناصعة مسح الخطوط الرصاصية، فاندحرت قسوتها أمام ثبات يده.
ثم التقط الدكتور هشام قلمه الأحمر، وكتب الدرجة كاملة، وضمَّ الورقة إلى أخواتها باشمئزاز.
.
من المجموعة القصصية "كُل ما فيه أسود"
نُشرت بجريدة "أخبار الأدب" في يونيو 2016
Published on April 26, 2017 18:20
•
Tags:
آية-عبدالرحمن, أخبار-الأدب, طباخة_الحواديت, قصة-قصيرة, قصص-قصيرة