خالد الصامطي's Blog, page 5
May 26, 2011
افتتاح
May 25, 2011
Hello world!
Welcome to WordPress. This is your first post. Edit or delete it, then start blogging!
April 22, 2011
حفريات رصيف
March 26, 2011
رزق العالم
لأن معرفة جنسه قبل الولادة لتغطية جسده بعدها لم يكن أمرًا مهما، كان والداه في حراج بن قاسم يبحثان عن ملابس مواليد عندما نشّز المخاض مشية والدته، وجعلها تطلب من والده أخذها إلى المستشفى في الحال. لذلك أطلقت عليه خالاته في البدء: رزق الحراج، ولكن، ما إن كبرُ، حتى تبدّى للجميع أنه يبدأ بالارتعاش ويفقد التركيز بمجرد تجاوزه حدود أحياء الرياض الجنوبية، وسرعان ما أجمع المحيطون به من أقرباء وجيران على تسميته رزق منفوحة.
في البدء، شكّت عائلته أن للأمر علاقة بتعرضه للفحات الهواء الحار وهو يجلس مع قطيع إخوته في حوض سيارة والدهم الداتسون، ولكن الحالة تكررت كثيرًا، حتى عندما خرجوا به شمالاً في سيارة لينكون مكيّفة، استعارها والده خصيصًا لأجله من زميله في العمل.
قابلت رزق خارج أروقة مطار لاگارديا بنيويورك، حيث استقلينا، أنا وهو، إكسبرس شاتل إلى منهاتن- باص صغير يتسع لثمانية ركاب، يستقله عادة الباحثون عن أجرة توصيل رخيصة. وكما يشعر الغرباء بالراحة عندما يقابلون أشخاصًا يتحدثون لغتهم بعد نيفٍ من الحديث بلغة الآخرين، تحدثنا بسلاسة الحكايات المشتركة، الأمر الذي جعله يقرر، دون التصريح بذلك، مرافقتي إلى ذات الفندق الذي كنت أنوي السكن فيه. وعندما كنتُ أتحدث مع موظفة الاستقبال وأظهر امتعاضي من غلاء الحجرة وأن سعرها يختلف عن السعر المعروض في الكوبون الذي كنتُ قد طبعته مسبقًا من الإنترنت وجلبته معي من سياتل، سألها هو دون أن يشاورني عن سعر الجناح، وكان سعره مناسبًا جدًا إذا ما اقتسمناه، ما حدا به أن ينظر إلي وكأنه يحاول استنطاقي بنعم، ولولا تعبي ومحدودية ميزانيتي التي جمعتها من مكافآت أشهر سبقت ولا تكفي سوى لأسبوعٍ واحد في مدينةٍ تغلي بها الأسعار في عزّ الشتاء، لما كنتُ وافقت بمشاركة الحجرة مع شخصٍ غريب فقط لكونه يتحدث لغة عيال حارتنا، ويروّج رائحة أخي، ويشاركني ذاكرة أزقة حراج بن قاسم وسوق الحمام وفرقعات الكبريت برؤوس البواجي المذيّلة بالريش. استلمنا مفاتيح الحجرة وحملنا حقائبنا وأثناء لحظات الصمت التي تسود المصعد، ويقضيها الناس عادة وهم ينظرون إلى شاشة صغيرة تظهر فيها أرقام الأدوار، أسرّ إليّ:
- لا تفكر كثيرًا في المسألة، سأنام في حجرة المعيشة.. يعني في حالة أن تجلب معك فرخةً، ستتمكن من تناول وجبتك بهناء، وأتوقع منك أن تفعل المثل في حال حصلت أنا على دجاجة! أحب الدجاج أكثر.
قال ذلك وهو يضحك، وينظر إلى عداد الأدوار، تتحول ضحكته إلى ابتسامة، يصمت، ويفكر بأشياء أخرى أو ربما بالأشياء نفسها.
في المستشفى، أخبرَ آخرُ الأطباء والدَه أن جمود رزق الاجتماعي يدخله في حالة رهاب وتشنجات عصبية حال خروجه من محيط الراحة، الترجمة العربية للمصطلح الإنجليزي Comfort Zone، وقال بأنه في حاجة إلى جلسات وتقنيات علاجية غير معقدة ولكنها لا تتوافر لدى المستشفيات العامة. وبين مواعيد المستشفى، كان والده يعرضه على شيوخ يقرأون عليه وينفثون، ومعالجين شعبيين يكوونه بالنار، ولا تفلح جهودهم جميعًا، ويعود إلى البيت، ويكبُر.
تصالح رزق مع حالته في نفس الوقت الذي تصالحت الكرة معه، فهو يجيد ركلها باليسرى واليمنى، وعندما يستعرض مهاراته بها، كما فعل في حديقة السنترال بارك ونحن نلعب الكرة مع شباب مغاربة جمعتنا بهم الصدفة كما جمعتني به في المطار، يشعر الرائي وكأنه يرقص الهيب هوب. أخبرني أنهم كانوا يطلبونه من حارات أخرى للعب في فرقهم، وقد جاءه عرض من سمسار يمثل نادي الشباب بعد فوز فريق حارتهم بمباراة نهائية في ملعب الفريان، لكنه رفض العرض: النادي فادح الشمال، ثم أنني قد وعدتُ فريقي باللعب معهم الموسم القادم!.
كان يخرج من المدرسة ظهرًا، يمشي شرقًا إلى شارع البطحاء وعليه يتجه يسارًا ويجاهد فوقيّة الشمال إلى ميدان سميراميس، ذلك التقاطع الكبير، يقف على رصيفه يتأمل المدى الذي ينتهي بعمائر من الخرسان وجسر الوشم، يدخن سجائره الأولى حيث التقط عادة التدخين من أصدقاء الأول ثانوي وقهوة البستان، يتنفس الدخان وفكرة العبور، ومن خلفه تأتي متزاحمةً أصوات مزامير العربات وصياح سائقي الباصات ترتطم بزجاج عمارة السليمان، يرتدّ الصدى، ويستمرّ بالوقوف بين العمارة والخزّان، يستجلب الإصرار، تحت ظل ذلك المسمار الهائل الذي يُثبت جنوب المدينة، ويرسم آخر صورة في جغرافيا ذاكرته القصيرة. يحتاج لأن يقطع شارع الملك عبد العزيز إلى مبنى الأحوال المدنية كي يستخرج بطاقة، ولكن قدماه لا تحملانه، ومدير المدرسة وبوّاب القهوة لا يتفهمان حالته، يتردد.. ويعود إلى منفوحة سيرًا على ذات الطريق إلى بيته.
- من المؤسف أن تكون البطحاء أقصى شمالك لكلّ تلك الأعوام، يا رزق!
- كنت سعيدًا بذلك، تصدق!
بعد فعاليات اليوم الأول لمؤتمر التجارة الإلكترونية، والذي حرصت على جعل وقت زيارتي لنيويورك يتوافق معه، اتفقنا على الالتقاء في ميدان تايم سكوير. شاهدته يقف مع امرأة تحمل كاميرا، كنت أنتظره على طاولة الميعاد، وكانت هي تتحدث إليه وتكتب شيئًا في ملفٍ تحمله، ثم التقطتْ صورته مبتسمًا وهو يشكل بوسطاه وسبابته علامة السلام، ثم صافحها وأقبل يمشي منتصرًا. جلسنا نشرب القهوة، خلفنا شاشة كبيرة وأخريات صغيرات تتوزع في المكان، وحولنا محلات القهوة والبيغل والكعك، وعلى أرصفة القرميد تشكل وجوهَ العابرين خرائطَ العالم.
- من تكون تلك المرأة؟
- هه، تلك المرأة؟ كنا نتحدث حول أمرٍ ما. أنظر إلى تلك الحمامة، تسير مع الناس، ولا تخشى أن تُدهس!
لقد تجاهلني تمامًا، وأخذ ينظر إلى الحمامة! الحقّ، أنه كان منظرًا مبهرًا، الحمامة تمشي وسط الزحام وكأنها ترافق أحدهم على الرصيف، وكأنها ستتوقف لشراء فشار، ثم تقطع الشارع من على خطّ المشاة. أخرجت علبة سجائري، أشعلت واحدة، ومددت بأخرى إليه، فشكرني وقال أنه قرر ترك التدخين.
- متى؟
- اليوم.
رغم فضولي وشخصيته المحرضة على الاستكشاف، لم أكن مُلحًا في أحاديثي معه، كلّ ما أعرفه عنه بالإضافة إلى الحكايات التي يرويها لي ونحن نمشي على أرصفة منهاتن أو نأكل الحنيذ في مطعم اليمن السعيد في بروكلين، أنه حصل على بعثة بعد الثانوية قبل ابتداء برنامج الابتعاث السعودي ببضع سنوات، من خلال واسطة دبرها له والده الذي يعمل مراسلاً في وزارة التعليم العالي. أنهى البكالريوس في الهندسة المعمارية كتخصص أولي، ودراسات المجتمع المدني كتخصص ثانوي في جامعة لندن للاقتصاد، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على الماجستير في علم الاجتماع من جامعة فلوريدا، ويعمل حاليًا في سان فرانسيسكو في مؤسسة غير ربحية تشرف على تطوير مباني الأحياء الفقيرة بأكثر من ولاية.
- الصيف الماضي، ولأول مرةٍ في حياتي، جلستُ مع والدي في مقهىً على شارع التحلية. لم يدم جلوسنا طويلاً، حيث تركنا المكان، وذهبنا إلى بوفية العمّ محمد جوار بيتنا، طلبنا شايًا بالنعناع، مثل هذا.
قد تعتقد عزيزي القارئ أن ثمة نواقص في النص، أو أنني فشلت في ربط الحكاية، ولكن رزق قال "مثل هذا" وسكت يرتشف الشاي الذي قدّمه لنا النادل اليمني، وأخذ يتأمل شارع أتلانتك خلف الزجاج. وأنا لم أحاول استنطاقه، ولا أستطيع أن أُمنطَق حكاياته وأبررها أكثر مما هي عليه في هذا النص.
في اليوم الأخير من زيارتي لنيويورك، أخبرني أنه أنهى اجتماعاته مع بلدية المدينة، وأنه قريبًا سيذهب إلى شنغهاي، الصين، لحضور مؤتمر يعرض آلية تعمير جديدة وسريعة وقليلة التكلفة قام الصينيون بتطويرها مؤخرًا. دفعنا أجرة الفندق، وخرج هو إلى المطار عائدًا إلى سان فرانسيسكو. ولأن رحلتي إلى سياتل متأخرة، قررتُ الجلوس والقراءة على إحدى طاولات ميدان تايم سكوير، تذكرت ميدان سميراميس، واكتشفت أنني لا أعرف كيف تمكن رزق من عبوره أخيرًا، كيف تعالج من حالة الرهاب: ربما كانت فكرة والده بأن يجعل العالم بأكمله جنوبًا! لقد فاتني أن أسأل رزق. حاولت جاهدًا تجاهل التساؤلات وحاجتي بمعرفة الجواب، وأخذتُ أقرأ كتابًا لهيمنگواي حتى تعبت، ثم راقبت وجوه العابرين وتعبت، ثم لجأتُ إلى الكتابة.
بعد ساعتين، جمعت أوراقي وحقائبي مقررًا الذهاب إلى المطار، وقبل أن أنهض، ظهر إعلان في الشاشة الكبيرة، لمنظمة صحية، حيث يتم عرض صور لأشخاص قرروا ترك التدخين عن طريق المنظمة والتي بدورها تستمرّ بالتواصل معهم ومتابعتهم. ظهرت صورة رزق مبتسمًا، وكأنه عاد ليخبرني أمرًا، وأصبعاه تشكلان علامة السلام، وتحتها مكتوب بالإنجليزية:
أنا رزق، لقد أقلعت منذ يومين، وأعد العالم بأنني لن أدخن مرةً أخرى، للأبد.
February 26, 2011
لكل شخص ثلاثة كراتين: الرجاء عمل اللازم
بعد الثانوية، عملت في حقل مبيعات الخضار والفواكه لسنتين، فبدأت بسنترال في ثلاجة تستورد الفواكه، وانتهى بي الحال أبيع الخضار ما بين البسطة في عتيقة وسوق الجملة في العزيزية. وكنتُ أبحث خلال تلك الفترة عن جامعة تقبلني. كنتُ أسافر لكل كلية تفتتح أبوابها للقبول في أية منطقة، وأعود خائبًا. أما والدي الذي لم يتقن، رغبةً منه، لغة الواسطة، فكان يذهب معي في بعض محاولات التقديم داخل الرياض برجاء الأب وصور شهادتي ومستقبل مجهول. بعد سنتين، أي عام ١٤٢١، دخل معي إلى مكتب عميد القبول والتسجيل في جامعة الملك سعود، كان يوم الاثنين حيث يستقبل سيادته المواطنين ويستمع إليهم كشيخ قبيلة. قام أبي، في محاولة مبتكرة ويائسة، بعرض رسوماتي على العميد وهو يقنعه: "اقبلوه في كلية الفنّ التشكيلي، الولد رسام." حدث أمرٌ غريب وجديد حينها، حيث قام سيادة العميد بإلصاق ورقة صفراء على ملفي بعد أن وقع عليها:
"الرجاء عمل اللازم"
February 22, 2011
وطني، هل تريد أن نعود؟
لأننا لو نشعر بذلك، برغبتك الواضحة في عودتنا، لن يفكر أحدٌ، مجرّد التفكير، بالبقاء في الغربة. سنعود وليست الشهادة التي تدفعنا إلى العودة، فهي لا تتجاوز كونها ورقة لا تختلف عن مثيلاتها التي عُلقت لأجيال على جدران إدارات مؤسساتك يا وطني، تلك التي أنتهك بعض حامليها بنيتك التحتيّة ولعبوا المونوبولي ببيوتك الشعبية وغير الشعبية، ووزعوا بيادقهم على شطرنج مخططاتك، ثم تركوك عاجزًا أمام تهديد السحاب، الزائر الخفيف الذي يأتي مرةً في العام. سنعود وليس من المهم معرفة مسميات الدول التي درسنا بها، أو مواقعها على الخريطة، ولا مدى ارتباطها بالوثن أو اهتمامها بالقبلة، ففي النهاية هي دولٌ تعترفُ بحقّ الإنسان بها، الذي كرّمه الله عن بقية الخلق. سنعود إذا أردتنا أن نفعل، ولكننا لا نسمع صوتك يا وطن، هل ترغب في أن نعود؟
لقد تعلمنا الآن يا وطن، أليس هذا هو الغرض من خروجنا في بادئ الأمر؟ لقد تعلمنا أن نفصح عما نريد. العلاقة بين الناس لن تنجح إذا ما كانت الرغبات والشكاوى لا تُفصح، وإذا قيلت كُممت الأفواه وفتحت أبواب الزنازين لمساجين رأيٍ وتوجُّه. لقد تعلمنا في الغربة أن نعرف ما لنا وما علينا، حتّى حقّك علينا يا وطن عرفناه هنا، ذلك الحق الذي أشغلنا عنه صخب شكوانا. لقد عرفنا قيمتك عندما غادرناك، ولكننا نخسرك بمجرد أن نصل إلى جمارك مطاراتك.
February 13, 2011
الحبق الحافي. (17)
هي الوتر الذي يخلق فكرة أجمل في مخيلتك وأنت تقرأ، العاطفة وتر "الشرارة" لو كانت الكتابة عود، وفي هذه المعزوفة، صوت "الجواب" يحتاج إلى إعادة دوزنة.
وكأن الليل بحّار، أو هكذا أشعر، يطوي شباكه فارغة في صدري بعد يومٍ كامل من الصيد، أسمع الآن خطواته على الرصيف الخشبي يمشي بقرعِ الخائبين. يأتي النهار وأخرج إلى زحمة، الكل ينظر للأعلى وكأنهم يتوقعون سقوط شيء، ولا شيء يسقط. أقود دراجتي وأحيي ساعية البريد، تخبرني أن على الجيران الجدد كتابة أسمائهم على الصندوق، أخبرها أنني لا أكون موجودًا في النهار كي أبلغهم ذلك، أعيش النهارات بما أتظاهره من سعادة، ثم أعود وأقابل الليل عائدٌ من البحيرة، نصل سويًا، يَسقط مفتاحي فيلتقطه قبل أن يلمس الأرض، ندخل إلى الشقة، أخلع معطفي ويعلقه الليل على الشماعة. ثم تهزّ ساعية البريد كتفيها، وتقول، لقد تركت لهم ملحوظة على أية حال، وتغادر.
يختلط الزمنُ فيما أحكيه، وتفتقد الأحداث منطقيتها. ولا أحتاج إلى منطقٍ في هذا الليل، إنه يقرأ لي حكاية ما قبل النوم، ولا أتمكن من النوم، لستُ معتادًا على الاستماع إلى حكاية لأنام. والنوم لا يأتي على أية حال. سألتني الدكتورة أنبور: "هل لديك صعوبة في البقاء نائمًا، أم صعوبة في النوم؟" قلت الثانية. "ما اسم الحبوب التي تستخدمها؟" ميلاتونن. وتحوّلت الدكتورة إلى محقق، "هل لديك أقوال أخرى؟". ثم يشعل سيجارة ويمدّها إلي. أجبت: أرغب في توكيل محامٍ. فيضحك، ويقول: ابني، هذا أنا. ثم يتصاعد للأعلى ويعطى السماء صفة الليل.
وتذكرتُ أنني لا أستخدم دراجتي في الشتاء، وأن ساعية البريد لم تعد تقف لتحدثني عن الجيران، تخاف أن تنكسر رئتها وهي تضحك. السيجارة والشتاء يجعلان من فمي مدخنة وأنا أقف في الخارج، أنتفض، ويتساقط الرماد على عتبة الباب ويخبر الثلج بأنه للتوّ كان سيجارة، ولا يصدقه الثلج أو أن التفكير في ذلك يتعبه، فهو أيضًا يتوقع ذوبانه في أية لحظة.
ثم أعود إلى الداخل، ويتبعني الليل، أخبره أنه أدى دور المحقق بحرفية عالية، فيتظاهر بعدم الاهتمام وكأنه معتادٌ على الإطراء، يأخذ مني شباكه الفارغة، مطويةً كما يجيء بها. أتمنى له رحلة صيد جيدة، أسمع قرع حذائه على الرصيف الخشبي. يدخل النهار وأخرج إلى زحمة، الكل ينظر للأعلى وكأنهم يتوقعون سقوط شيء، ولا شيء يسقط.
November 24, 2010
الحبق الحافي. (16)
إلى شيكاگو.
أول حبقٍ أكتبه من الرياض يا شيكاگو، أوجهه إليكِ كيلا يشذّ عن رتم هذه السلسلة أو أُتّهم بالخيانة. من حجرتي فوق سطح البيت، حيث أطلقتُ اليوم بلبلين، كانا محجوزين في قفصٍ صغير بصالةِ المنزل قبل أن أصل، غُطي القفص بقطعةِ قماش ليظنّا أنه الليل ويكفان عن تغريدهما عالي الصوت. عندما شاهدتهما، شاهدتُ فيكِ طاولاتٍ مأهولة، وطيورٌ تأكل نثرًا يتساقط من كعك الجالسين وتعود للتحليق، ثم فكرتُ في إمكانية رسم ببغاء يقرأ جريدةً على صوفا، يرتشف الكيف من غليون، وخلفه يتعلّق قفصٌ صغير، يجلسُ داخلهُ طفلان لا يكفان عن بكائهما عالي الصوت.
ذهبتُ إلى البطحاء صباح اليوم للمرة الثالثة مذ جئت، جلستُ إلى طاولةٍ بلاستيكيةٍ بيضاء بعد أن استلمتُ ثوبي من الخياط، شربت شايًا وأزقةً ملتوية عتيقة، ساحةً كبيرةً، حمامًا كان ينقم نثرًا على أرضها، باعةً يحرِّجون على بضائع بأسعار الفرص التي لا تعوّض، تحدثتُ مع صديقي مطاعن عن اللحظات التي نعبرها ونحنُ نفكر في لحظاتٍ لم تحن بعد، نعبرها دون أن ندرك أن ثمة حمامًا ينقم نثر الحبوب في ساحة أو باعةً يلحنون بأصواتهم معزوفة "وسط المدينة"، أو لحظات حميمة لم أجدها في قائمةِ لحظاتكِ الجميلة يا شيكاگو.
أتنفسُ الرياض كما لم أفعل، يجففني هواؤها، أتحدثُ للأصدقاء القدامى ويتساقط قشر شفتي مع الكلام، فلا أفهم ما أقول ولا ما أريد. ثم تتبدّين يا شيكاگو كذاكرة الليلة الأخيرة فيك قبل أن أحلق ذقني، أغادرك، أطير لساعاتٍ ثم أصل الرياض وقد نبتت. طويلةٌ هي المسافة بينكما كطول الجدل الدائر في فكري، بقاءٌ فيكِ أجدى أم أتابع الطيور في وسطِ مدينةٍ حميميةُ لحظاتها لا تشبهك.
طار البلبلان، وأخذا يتنقلان فوق سطوح بيوت الحارة، يقف أحدهما على خزان منزل الغُمّد، ويغرد بصوتٍ لم أسمعه من قبلٍ للآخر الذي يقف على سور القحاطين، فيحلقان للأعلى ويخيطان من السماء مسافةً إلى سطح جارٍ جديدٍ لم أجد اسمه في قائمةِ الذاكرة القديمة. أبي يقول أنهما لن يتمكنا من النجاة في المدينة، لن يجدا ما يأكلان. شعرتُ بالأسف، انتظرتهما، علهما يعودان، تركتُ لهما الحبوب والماء والقفص مفتوحًا في مكانه، غابت الشمس، ولم يرجعا. انتصف الليل الآن يا شيكاگو، صمتت الرياض، وجاءت أفكارهما برفقةِ نسمة: ننفقُ في مدينة ولا نحيا في قفص.
November 14, 2010
يا حسين، صوتك وصل شيكاگو
لأنه من تلك الأصوات التي تصل، أصوات الفنانين الذين كبرنا وارتبطت ذكرياتنا وأحداثها بأغانيهم، من غاب منهم لم تغب عنّا أعمالهم، ومنهم من لا يزال يصنع الفنّ الذي يمس حياة الناس البسطاء، ويوزّع الذكريات على أسماع هذا الجيل، كما فعل مع الجيل الذي سبقه. إنها الأصوات التي تغني تفاصيل الحياة اليومية، تحكي قصص الكادحين، وتصبّ برد الاطمئنان على قلب المكبوت والمُنهك من حياته، أغانٍ تدوّن أحداث المجتمعات وتُرقّم صفحات كتبُ تاريخنا بالنوتة الموسيقيّة. تلك الأغاني التي تتجاوز ردة فعل سماعها التحرّك العاطفي لتصل إلى درجة التحرّك بفيزيائيته، كما فعلت أغنية الفنان اليمني أيوب طارش "وا مفارق" الأغنية التي نادت الغائب اليمني وهيّجت في ذاكرته صورة الأرض، الوطن، ونكأت جروحًا كان يواريها في غربته وأيوب ينادي: "الحزن بعدكم أطفأ شموع المسرّة، والندى في الحقول يبكي على كل زهرة." سمعها المغتربون اليمنيّون وعاد الكثير منهم بسببها، مئات الآلاف كما قيل. ورغم تباين أعداد المغتربين العائدين وكثرة الأقوال حولها، وعدم وجود أي معلومة موثقة، إلاّ أنَّ مجرّد فكرة أنْ تُعيد أغنيةً ما ولو عشرة أشخاص، فإن ذلك كافٍ لأن يجبرني على رفع القبّعة احترامًا لفنانين كهؤلاء، تمامًا كما رفعتُ القُبّعة للفنان "حسين الشبيلي" الذي وجدتُ نفسي أكتبُ له هذه الرسالة وأنشرها عوضًا عن إرسالها.
عرفتُ حسين الشبيلي عام 2005 حين جمعتنا العاصمة السودانية الخرطوم، خلال المهرجان الثقافي للشباب العربي العاشر، حيث ذهبت مشاركًا ككاتب قصة، وكان الشبيلي مشاركًا ضمن طاقم فرقة الفنون الشعبية السعودية. عرفتهُ راقصًا شعبيًا مذهلاً، يبتهج بخطواته على الأرضِ مطبطبًا على كتفها، راسمًا بحركاته تفاصيل ريفها وجبالها وأوديتها وصحرائها وبحرها، مؤديًا طقوس امتنانه للحياة عليها، فالأرض لا تفهم من لغة البشر سوى خطوهم، والرقصُ كما يؤمن "زوربا" لغةٌ تفهمها كل الحضارات. وكانت الوفود العربية المشاركة تجتمع مساءات المهرجان الجميلة، خارج إطار الفعاليات، في جلسات غناء، طرب أصيل لفنانين تشترك الذاكرة العربية في حفظ أغانيهم، يؤديها عازفون من دولٍ عربية مختلفة وبآلات موسيقية متنوعة، يعزفون ويغنون بصوتِ الكل، وبصوت الفرد. لم أكن المُفاجَأ الوحيد عندما التقط حسين العود وأخذ يشارك الجمع بالعزف والغنّاء، ولكن، رغم فنية أدائه وروعته، لم يخطر في بالي حينها أبدًا أنني سأتفأجأ به مرةً أخرى عندما أستمع إليه بعد خمس سنواتٍ من وراء بحور وعلى بُعد آلاف الأميال. ذلك يجعلني أفكر: الفنانون الحقيقيون هم الذين يُجيدون صُنع المفاجأة أكثر من مرّة.
خلال ليلة باردة من ليالي شيكاغو وجدتُ الدفء في أغانيه على موقع اليوتيوب عن طريق صدفةٍ أجمل من ألفين وخمسة مواعيد، حيثُ أرفقَ الصديق مصلح جميل في أحد المواقع الاجتماعية رابط أغنية له. الأغنية عُنونت بـ"كلما جاني عريس"، على لسان امرأةٍ أربعينيةٍ تشتكي استغلال والدها الذي أغلق عليها وأخواتها أبواب الزواج كي لا يشاركه أحد في رواتبهن. ثم بدأتُ أستمع إلى أغانيه الموجودة على الموقع واحدةٍ تلو الأخرى، لأٌفاجأ بهذا الفنان الذي يكتب ويلحنّ ويغني هم الإنسان الكادح كوحدة أساسية في أي مجتمع.
لقد غنى حسين التفاصيل المألوفة من حياة مجتمعه، يجاري الشارع في مدينته، يجاري الأب الذي يجلس على همومه الصدئة في دكانه ويستمع إلى مثل هذه الأغاني، والأم التي تقف على كدرها ساعاتٍ في صباحات مليئة بالطبخ والنفخ والتنظيف، غنى الشجر، الوادي، القرية وغنّى الأصحاب. حتى الحبّ غناه ببساطته، بتفاصيله الصغيرة التي نسيناها، فبكاءات المحبين أمست مستهلكةً ولم تعد مقنعة، لقد انحدرت كما انحدر الغناء مع كثرة المغنين لا الفنانين، وطغيان الفكر التجاري والربحي على الفكر الفنّي إلى أن حوّله إلى مسخ آخر في زحام ثقافي يحتاج إلى غربلة. وبعيدًا عن ذلك الزحام، هناك في الحارات الصغيرة، والقرى المترامية، بداخل السيارات التي تسير بفجاجة مسجلات كاسيت ونوافذ تٌفتحُ بالهندل، تصدح أصوات فنانين يغنون ما يحكي تلك الحياة، ويمس أولئك الأشخاص، كلامًا يألفه السامع وصوتًا يطربه، عندما يغنون عن الشتاء والطفولة وطائرات الورق، كما يفعل علي بن محمد ويغني عن المدرسة وطابور الصباح، كما فعل أيوب، وكما يفعل حسين الشبيلي.
ربّما لأنه يرغب أن يمثل لسان مجتمعهِ وثقافته، قدّم حسين الشبيلي أغلب أغانيه بلهجته التهاميّة أو لهجة الكثير من قرى ومحافظات جيزان، وبألحان من المخزون الموسيقي لمنطقته الريفية. هذه هي الأصوات التي تبقى، والكلمات التي تمسّ شيئًا في دواخلنا. فنانون، مطربون وشعراء، يعزفون ويكتبون ذاكراتنا القديمة، وانتماءاتنا البعيدة جدًا، بُعد شيكاگو عن الطرشية. فشكرًا يا حسين الشبيلي، صوتك وصل.
خالد الصامطي
27 يناير 2010
October 1, 2010
الحبق الحافي. (15)
إلى بدر السماري.
كيف هو الإدريالين في دمك يا بدر؟ بعد المقلب العاطفي الذي قام به الهلال خلال مباراة الإياب مع الغرافة!. عمومًا، أنا لم أتمكن من مشاهدة المباراة في وقتها، كل ما شاهدته هو الأهداف على اليوتيوب.
أكتب لك الآن يا بدر والبخار جوار الشاشة يتصاعد من كوب شايٍ أحمر. نثرتُ عليه قليلاً من الحبق، النادلة راقبت المشهد ولم تستغرب، لم تسألني عن هذه العشبة، ربما لم يعد الأمر غريبًا كما كنت أعتقد. ثمة حركة هيبية جديدة تدفع الكثير من أفراد المجتمع لاستخدام الأعشاب، لو سألَتني، لربما أخبرتها أن الحبق يخفف من حساسيتي ضد القطط، وقد تعتبر هي أن إجابتي هذه أكثر منطقيّة من مجرد أن الحبق يساعدني على الكتابة!.
أجلس الآن في مقهى أرغوتي، على يميني حاجز زجاجي مطل على شارع راندولف، وأمامي قفا امرأةٍ سمينة جدًا تجلس إلى الطاولة المقابلة، نجحت في حجب كل ما يدور في الأمام، إنها مثل منديل الساحر، يغطي به ما يظهر من القبعة، المنديل كبير جدًا، القبعة باب المقهى، والأرانب ملونة وكثيرة. في الجوار مدرسة فنية، لذلك ثمة الكثير من الأرانب الغريبة بشعر وردي وأخضر وملابس لافتة للانتباه. هذه الزاوية من الداون تاون تقع بين مسرحين سنمائيين، أحدهما "راندولف ثاييتور" والآخر "جين سيسكل فيلم سنتر" وما يهم هنا هو الثاني لأنه غالبًا ما يعرض أفلامًا أجنبية، هذا الشهر، أكتوبر، هو مهرجان الأفلام الإيرانية.
أشعر بالأسى على الشاب الذي يقف على بعد عشرة أمتار تقريبًا خلف الزجاج، حاملاً ملفًا كُتب عليه "Children International" معترضًا طريق المارّة، ويلقي على أسماعهم هذه الجملة بشكلٍ رتيب ومتكرر:"هل تسمح بدقيقة من وقتك لإنقاذ أطفال العالم؟" ربما لم تلتق بأحد هؤلاء الأشخاص مسبقًا يا بدر، موظفون في الشوارع، يعملون لمنظمات ذات شعارات رنانة مختلفة على جمع التبرعات. مندوبو مبيعات إن صحّت تسميتي، ولكن سِلعهم هي القضايا الإنسانية، البيئة، حقوق الحيوان أو منظمات تروّج أيديولوجيات مختلفة. يتوزعون على أرصفة الداون تاون وما جاورها بشكلٍ منظّم. تصادف الكثير منهم وأنت تسير. تشاهدهم على نهاية الرصيف جوار محطة باص، أو علامات عبور المشاة، فتحاول التملّص والانتقال إلى الرصيف المقابل، لتجد شخصًا آخر يحمل ملفًا مختلفًا بانتظارك هناك، ويلقي على مسمعك: "هل لديك دقيقة لإنقاذ الأرض؟" فتقول له: "إنني أعمل حاليًا على إنقاذ نفسي من التأخر عن المحاضرة!" وتسير على خطٍّ متقوّس حوله مبتعدًا، وكأنك تحاول ألاّ تسقط في بركة ماء. وتشعرُ بخيبته التي يواجهها ألف مرة في كل يوم، حتى يصبح وقع الخيبة على نفسه كسماع التحيّة، لا تأثير لها، ويواصل ممارسة عمله، أفكر أحيانًا كيف ستكون حياته مستقبلاً، كيف سيتمكن من صنع ردة فعل مناسبة لدى سماع خبر سيئ!. لا أستطيع أن أتخيّل نفسي في مكان أحدهم، أحترم شعاراتهم وقضاياهم، ولكني لا أتقبل فكرة ممارسة الاستجداء، لذلك أشعر بالأسى والخيبة من مجرّد متابعتي لهذا المُلَقَن الذي يقف الآن خلف الزجاجة مباشرة، حاملاً ملفًا كُتب عليه "Children International".
لنعد مجددًا إلى الهلال، لست متأكدًا إذا ما كان تشجيعي له جاء بقرار، أي أنني لم أستيقظ يومًا ما وأقرر أنني هلالي، لقد تشكل الهلال بي على مراحل. ربما، عندما بدأ أخي الأكبر سلمان بالكلام سألَ والدي عن حقيقتها فقال له أنها "هلال" ثم تبرع بتعليمي ذلك، أما الشيء الأكيد هو أنني وأخي سمينا الكرة "هلال" ونحن نركلها بين الحجرات وعلى سطوح بيتنا الشعبي، حتى تعلمنا الخروج إلى الشارع واللعب بها والالتقاء بأطفال جدد يسمونها "كورة"! ثم أذكر أول فوز شاهدته كاملاً بعد ذلك، وراقبت والدي يتفاعل معه بحماسة وعاطفة مثيرين، حين فاز الهلال ببطولة الأندية الآسيوية بمنتصف الثمانينيات، حصل الشاب العشريني يوسف الثنيان على جائزة أفضل لاعب، وبدأ الهلال بالتشكل في ذاكرتي بصورته الجديدة. وعندما تعلمتُ التعليق أثناء اللعب، كنتُ أردد عبارة "ويعدي يوسف الثنيان، من الأول، من الثاني"، ورغم أنّه لا وجود لأشخاصٍ أتعداهم!! مسألة ابتكار ثالث ورابع مسألة سهلة، إلاّ أن حوشنا في بيتنا لم يكن طويلاً لدرجة تسمح لي بأن "يعدّي يوسف الثنيان من الثالث والرابع" كما فعل كثيرًا.
إذن كان الأمر مجرد مغالطة لغوية، ومشكلة تلك المغالطات في مراحل عمرية مبكرة أنها تتركُ أثرًا بالغًا في مؤخرة الرأس أكثر مما تخلفه حجارة أولاد الجيران. تبقى كحقائق صغيرة لم يتح لها الواقع فرصة للنمو، ولكنها لا تزال هناك، وتعني الكثير. أعرف شخصًا كان يظن أن لون "الأعمال" بُني لأنه سمع حديث "إنما الأعمال بالنيات" من خطيب الجمعة، وظنّ أنّ لون الأعمال بنّي، فحرفي الألف واللام غير منطوقين، والمسكين ظنّها "الأعمال بنيّات" حتى قرأها في أحد واجبات الحديث صف الثاني متوسط!. قد تقودني الثقة إلى المقامرة على أنه، ولحد الآن، كلما سمع كلمة "أعمال" يتشكل اللون البني في مخيلته. تمامًا كما أنني أفكر في الهلال ثم سحبات أبو يعقوب، كلما شاهدت كرة.
رغم أنّ والدي قادمُ من قريةٍ فادحة الجنوب، إلاّ أنه جاءَ هلاليًا بالفطرة فلا أبواه نصّرَواه أو أهلواه، ولا تأثر بمجتمع، حيث الأهلي والنصر يسيطران على غريزة التشجيع لدى أفراده، ثم يأتي الاتفاق الذي امتلك أسهمًا أفضل من الهلال في الجنوب حينذاك. لا أعرف لماذا ارتبط الهلال، بدًا عن بقية الأندية، بالسُلطة، الأمر الذي جعل تقبله يختلف عن تقبل الفرق الأخرى التي بالتأكيد ستمثل الشعب بعمّاله وكادحيه، رغم أن النصر والأهلي أندية مُدارة من قبل شخصيات تنتمي، بشكلٍ أو بآخر، للسُلطة أيضًا. أنا لا أعرف السبب، ولكنه حتمًا سيكون سببًا من تلك التي تقوم بالتأثير الجمعي، كما حمل هؤلاء ذاكرة جمعية أيضًا، وحقيقة أن يصلهم سبب يقنعهم بأن الهلال يمثل السلطة، أمر كفيل بأن يجعل من عملية الإعجاب بهِ رضوخًا في مجتمعٍ ثائرٍ لم تكن جروحه قد برأت بعد.
رغم البعد والحياة القرويّة، هم يملكون ثقافة كرويّة هائلة، فلا زلتُ أذكر حجرة أحد أقربائي، الذي يشاهد الآن بملل بلنتيات سنوات عقده السادس، أتذكر شكلها جيدًا، فلو دخلتها الآن لقلت أنها حجرة قروي من إحدى الدول اللاتينية ربما. أذكر شكل الكؤوس –رغم أنها كؤوس بلاستيكية خفيفة مطلية بلون ذهبي يلمع بتواضع طاقية زري- والميداليات على جدران بدون دهان، ورفوف خشبية لا تزال تحكي عمر أشجارها بتلك الحلقات الظاهرة على سطوحها، وصور من مجلات للاعبين من دول لم تعبرها رحلات الشتاء والصيف، تلك الدول التي أجزم أن قريبي القروي لم يهتم بمعرفة شيء عن طقوسها عملاتها وأعداد سكانها ومدى اهتمام شعوبها باتجاه القبلة، فما يهمه هو أرقام وأسماء لاعبيها وألوان قمصانهم، وفي وسط الحجرة بوستر كبير لبيليه وإلى جواره صورة ماجد عبدالله وهو يجري رافعًا ذراعه اليمنى، وتتوزع في براويز صغيرة صورهم، هو وأفراد فريق القرية، ربما تعرف تلك الصور يا بدر، التي ظننتُ وأنا أشاهد أمثالها في مراحل مختلفة في الحياة أنها الطريقة الوحيدة المسموحة لالتقاط صورة في ملعب، وهم يترتبون في صفين بسراويلهم القصيرة جدًا وابتساماتهم المفرطة في تعبيراتها، الموجهة للرجل المحظوظ صاحب الكاميرا -فأنا أعتقد أن من يمتلك كاميرا في ذلك الوقت يعد رجلاً محظوظًا وذا حظوةٍ اجتماعيّةٍ مرموقة، إذن فهو يتفضل بالصورة عليهم، ولذلك فإن ابتسامة المتموضع أمام الكاميرا في الصور القديمة تحمل نوعًا من الامتنان إضافة إلى السعادة- يجلس صفّ في الأمام على أطراف أصابع أقدامهم، ويدٌ تتخلل الركبتين وتتكئ على الأرض والثانية على باطن كوع الأولى ما عدا الحارس، فهو يحتضن بها الكرة، صفٌ آخر يقف خلفهم، محملين أذرعتهم أكتافَ مجاوريهم، ينظرون جميعًا إلى الكاميرا بشعورهم الجعدة والطويلة كطول سلسلة أجنة أسلافهم الذين تبعثرت جدائلهم على رقابهم وفي الفضاء حول رؤوسهم وتخللتها أغصان الحبق والريحان لمئات السنوات.
ثم جاء والدي الهلالي من هناك..
وأشهرتُ هلاليتي على يده. أنا أكن لوالدي الكثير من الاحترام لأسباب كثيرة، أحدها تأثيره غير المباشر في قرار تشجيعي للهلال. ثمة أمور لا تستطيع تقريرها وأنتَ صغير، قد تخطئ، ويكون من الصعب التراجع. التشجيع أحدها. والحمدلله إني هلالي :).
أشعر بالأسى على جماهير الأهلي. لدي الكثير من الأصدقاء الأهلاويون، الحقيقة، أن رفيقي في السكن، موسى، أهلاوي حتى النخاع، ولا أعرف سببًا لتشجيعه للأهلي سوى العامل الوراثي، كما حصل معي بالإضافة إلى عاملَي لعبة اللغة وأبو يعقوب. قلت لموسى قبل يومين "أعتقد أنك لو تشجع الهلال ستحل جميع مشاكلك". الحياة في بلدنا صعبة وقاسية، بدءًا بقساوة طقسها وانتهاءً بقساوة المجتمع، السعادة عنصر غائب في كثير من مراحلنا العمرية، والأهلي لم يحقق أي بطولة خلال سنوات طفولته ومراهقته، أعني موسى، وهذا أمرٌ محزن جدًا، لذلك لن أتوانى أو أتردد في التوقف إذا ما رأيت شخصًا على الرصيف يسأل: "هل تسمح بدقيقة من وقتك لإنقاذ جماهير الأهلي؟" حينها سأقف وأبذل قدر استطاعتي، لأنني أعرف الكثير منهم ويهمني أمرهم جدًا.