نجمة واحدة قد تكفي نجمة واحدة قد تكفي discussion


1 view
الزيف كمأزق والعادية كخلاص

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by باسمة (new)

باسمة العنزي التفاصيل... هي السرّ الذي به تحقن النساء عوالمهن، سواء في الحياة اليومية أو في مجالات الإبداع. وهي أيضًا ما يُسند أي بناء من الانهيار، خاصة إذا كان البناء مصمَّمًا ليحفر جوفه، ليحطّم نفسه بنفسه، كما في المجتمعات الاستهلاكية التي تعرضها هذه المجموعة القصصية المعنونة "نجمة واحدة قد تكفي" للكاتبة باسمة العنزي.
وإن كان الحديث عن التفاصيل مهمًّا في خصوص هذه المجموعة، فلسببين: أولًا، لأن من سمات المجتمعات الاستهلاكية غياب التفاصيل الفردية، حيث لا يتمايز الأفراد داخل جسد الآلة العملاقة. وثانيًا، لأن الكاتبة من خلال التفاصيل توصل فكرة الدمار الذي أصاب المجتمع الحديث، مجتمع فقد الأصالة واستعاض عنها بالزيف.
هذه المجموعة القصصية، التي تتناول موضوعًا واحدًا هو الحياة الحديثة، يمكن قراءتها كرواية تجريبية. فعلى الرغم من تمايز قصصها، إلا إنها في المجمل تُشكّل كُلًّا واحدًا، يمكن ربطها كما لو أن "عين الكاميرا" تصوّر في كل مرة زاوية من بناء ضخم، جميع من فيه سجناء. ويمكن كذلك إعطاء اسم براق لهذا السجن الوجودي المعاصر، لا ليدل على ما يمثّله، بل على ما يفتقده: الرضى.
الرضى هنا ليس فقط حالة شعورية، بل آلية تُدار بها الحياة. هو المفردة التي تُستعمل في التسويق، والإعلانات، وتحليل تجارب العملاء ولها مقياس: أسوأ درجة فيه هي الصفر، وأفضلها خمس نجوم. لكن الرضى في عالم النجوم مفقود. لأنه ينقلب من شعور داخلي إلى رغبة بامتلاء خارجي في عالم الأرقام والنجوم والماركات والخيارات السريعة، فيختنق مع تقلّص المسافة التأملية الضرورية بين لحظة الأخذ ولحظة الاستمتاع.
نرى هذا الخواء بوضوح في قصة رضا سالم، الرجل الذي لا يعرف الرضى ولا السلام، لذا يقضي أوقاته في كتابة التقييمات عن كل شيء.
لرضا عين لا ترضى، لذا يتعامل مع العالم من منظور الساعي لجعله دائمًا غير ما هو عليه. حتى حين يغادر العالم الافتراضي ويخلع عن نفسه اسم "رضا سالم" المستعار، ويهبط إلى حياته اليومية، لا يتوقف عقله عن تدوين انطباعات ذهنية سريعة "عن سلع جديدة لا تكفيها نجمة واحدة".
رضا هذا يملك خيالًا، من دون شك، لكنه لا يستخدمه ليتنعّم بأغنية "عيناكِ" التي تُبث على الراديو في الصباح، بل ليُجري تقييمًا إضافيًا لأغنية لم تحتمل أن تُقيَّم، على عادة السلع التي اعتاد تصنيفها في عالمه الاستهلاكي المتهالك.
إن اللحظة التي تصدح فيها أغنية "عيناك" من مذياع هذا الرجل المتذمّر لحظة فارقة. لا تشير إلى اختلاف الأذواق، بل إلى قتل كامل للشعر والشِعرية والجمال فداءً للواقع الذي لا يعرف الشبع.
لا تمنح الشعرية رضا سالم لحظة تأمل أو صفاء، بل تدفعه للهرب إلى أدواته المعتادة: التقييم، القياس، والرفض. وعليه فهو يتمنى لو كان بإمكانه التعليق بأنها أغنية "لا تناسب الفترة الصباحية! أولًا لطولها، ثانيًا لجوّها الباعث على الأسى". ولكن لأن "عيناك" لا تنتمي لعصر السلع، سيكتفي رضا بإعطائها "نجمة واحدة في خياله، فليس لديهم طريقة لقياس مستوى رضى مستمعيهم، وبخاصة القدامى منهم".
تفضح الكاتبة هنا التناقض المريع: من يقيّم العالم، نادرًا ما يقيّم نفسه، ومن يسعى للسيطرة على محيطه عبر الأرقام، يفقد الاتصال بما يجري في أعماقه. إنها مفارقة الرضى: الرضى المفقود بالكامل هو الاسم المستعار لبطل قصة "نجمة واحدة قد تكفي".
ثقافة الاستهلاك لا تفرض نفسها بسبب حاجة فائضة فقط، بل قد تكون قيمة تعويضية، وسيلة تعبير ومتنفّس اجتماعي، أو قناع يحقق هوية ومكانة ما، كما في قصة "عدّاءة الغرف" أو "ستارة مثقوبة"، حيث تفقد الذات ذاتها وعمقها لصالح صورة براقة قابلة للبيع.
هذا التفسّخ الهادئ، الذي يُخفي خواءً داخليًا، يشير إلى زيف جماعي. فالزيف هو الممكن الوحيد عندما لا تكون الأصالة محمودة أو ممكنة.
يظهر هذا الزيف بقوة في الشخصيات النسائية في المجموعة القصصية. ففي قصة "عدّاءة الغرف"، لا تحلم البطلة بتغيير العالم، بل تكتفي بتجميل زاويتها الصغيرة من البيت، "تاركة المسائل الملتبسة للزمن وللآخرين". من ثم، فهي تقدّم نفسها كالأميرة ويلز الصحراوية في مواقع التواصل، وتتشبث بزيفها الخاص في مواجهة الحياة التي تُحرم فيها من بعض أساسيات الحرية كقيادة السيارة أو زيارة صديقاتها.
في النهاية، من ستهمه الحقيقة؟ تتساءل البطلة: "لن يعرفوا الحقيقة، فهي لا تناسبهم"، مطمئنة نفسها بذلك أن الخداع هو المخرج الوحيد.
لكن لا مخرج. فدائرة الزيف وفقدان الرضى تنغلق على نفسها بلا نهاية. الزيف لا يمكن أن يفضي إلى الأصالة، كما أن البحث في الخارج لا يمكن أن يؤدي إلى امتلاء داخلي.
تظهر هذه الحلقة المفرغة بوضوح في مراسلات العميل والموظفة في قصة "عزيزي العميل"، حيث أحدهما الضحية، والآخر السيد، مع تبادلٍ لانهائي للأدوار. وربما يكون الخطاب الإنساني، الذي يُطلق عليه في لغة الحياة العصرية صفة "غير مهني"، يشير إلى الانفصال الكبير بين الرغبة في أن يعتبر كل واحد منهما الآخر إنسانًا في ذات الوقت الذي ينكر فيه على الآخر ذلك. تقول الموظفة: "سواء كنت راضيًا أو ساخطًا، هل يمكنك أن تتوقف عن شراء ما نعرضه؟ لأكنْ أكثرَ دقة، لو خسرناك كعميل فما الذي سيضر الشركة؟ في المقابل لو توجّهت إلى منافسينا فتأكد أنك ستدور في نفس الدائرة، لا اختلافات كبيرة بين شركات العالم الكبرى".
هذا السخط غير موجّه في الحقيقة من أحد الطرفين ضد الآخر، بل ضد الخدمة التي بينهما، وبطريقة غير مباشرة، ضد الطرف الثالث المتحكّم بالمنظومة كلها. ترد الموظفة على شكوى العميل بالقول: "الجهاز الآلي -عند المدخل- الذي ابتاعوه من الصين كي تعتمد على نفسك بدلًا من اعتمادك على الموظفين هو سبب تسريحنا، آخر إصدارات العالم الرقمي لتنفيذ الخدمات بسرعة ودقة، قادر على إنجاز 9008 معاملات يوميًّا أكثر من معدل عمل ثلاثة عشر موظفًا".في المشهد الختامي، تتجلى هذه الحلقة بوضوح، حين تتحوّل الموظفة إلى "عميلة" في اللحظة التي تُفصل فيها من عملها: "عليها أن تنهي إجراءات تسريحها من العمل، بتسليم هوية العمل وكرت التأمين الصحي، وبعدها سيتم إلغاء بريدها الإلكتروني، ويتلاشى رقمها الوظيفي، ستنقطع علاقتها بنُظم الشركة، ولن تتعرف بواباتها الرقمية على وجهها الشاحب... فور خروجها من البوابة إلى الشارع العام، وقبل أن تتحرك سيارتها مبتعدة.. ستتحول من موظفة إلى عميلة. لتبدأ تاريخًا مُختلِفًا مع الشركة العالمية العملاقة... شركة المضمار الذهبي".
هكذا تستمر الدورة في عالم الاستهلاك: الداخل إلى المنظومة يُعاد تدويره بشكل آخر. لا خروج حقيقيًا، فقط انتقال من دور إلى دور.
وهذه الدورة قدَر، فحتى أولئك الذين يحاولون مقاومتها يقعون في النهاية في براثنها ويُطحنون في عجلتها. وهذه هي حال القصة التي تُستفتح بها المجموعة. ففي مجتمعات تُعلي من شأن الاستهلاك بلا وعي، وتجعل منه القاعدة، تأتي النساء كاستثناء ناعم وفعّال، لا بالمقاومة المباشرة، بل بإضفاء طابع إنساني على بعض نشاطاتهن الاستهلاكية.
تدور هذه القصة حول نساء في قلب السوق، مغمورات بالكامل في عالم السلع. لكنّ أيديهن الممتدة إلى الأرفف، المليئة بالهموم والانشغالات الأسرية، تشق طريقًا خفيًا يكسر صلابة هذا النظام. وبهذا تعلن كل واحدة منهن، بطريقتها، رفضها لهذا المحيط الحديدي: فواحدة تُحدّث والدة صديق ابنها، أخرى تختار "حقيبة قديمة كي لا يلوثها بخليط غير مرئي من جراثيم السوق"، وثالثة تشم رائحة الأفوكادو قبل شرائه، ورابعة لا تضع واقي الشمس رغم خوفها من سرطان الجلد، إلى أن تنتهي القصة بتفصيلة عن امرأة يوم السبت. تلك التي تنسحب من عالم الاستهلاك بالموت.
لهذا الانسحاب رمزية لافتة. إذ إن المقاومة لم تعد تنفع، ورسالة الكاتبة هي: حتى الموت لا يخرجك من دائرة الاستهلاك؛ بل يعيدك النظام إليه، لا كمستهلك فعّال، بل كـ"بيانات" في نظام لم يعد يرى الإنسان. يُعيدك النظام إليه كما يُعاد أي شيء قابل للتدوير. وفي حالة امرأة يوم السبت، فإنها تُعاد على شكل اسم صغير في صفحة الوفيات داخل السوبر ماركت:
"كانت موجودة في السوبر ماركت كاسم صغير في صفحة الوفيات على حامل الصحف المعدني عند المدخل. ستفتقدها الأرضية اللامعة، ومصابيح النيون، وكاميرات المراقبة التي تتعرف على وجوه الزبائن، وتقيس مستوى رضاهم".
هكذا، بهذه الكتابة الهادئة، المتأملة، التي ترصد الحياة من علٍ، بدون أن تنحاز أو تشتبك انفعاليًا مع موضوعها، تنجح هذه المجموعة في أن تكون شاهدًا أدبيًا سابقًا على التحليل النظري، ما يجعلها مادة جيدة للدراسات والتنظيرات التي تعنى بدراسة المجتمع انطلاقًا من أدبه. قصص هذه المجموعة لا تصرخ، بل تشير بهدوء إلى العطب الداخلي، إلى الحافلة التي يقودها أعمى، إلى المفاتيح التي لم تُدر كما ينبغي. الشخصيات في القصص لا تظهر كضحايا فحسب، بل كشركاء في القتل الرمزي. فالذين يشتكون من الزيف، هم أنفسهم من يصنعونه أو يدعمون استمراره. والعمل لا يقترح خلاصًا سريعًا، بل يعرض المشكلة ليقول: ها هي الحال، دعونا نرى ما سنفعل... مع دعوات ناعمة خلف الانتقاد الهادئ للذهاب نحو العادية، والتفكير والبطء والرضى... إن أمكن.

هيفا نبي - ضفة ثالثة


back to top