أزهر جرجيس في 'حجر السعادة' يضيء على الروايات المسرودة بعدسة الكاميرا
عمار الثويني
القسم الثاني: الكاميرا/الصورة: السارد العليم
شكلت الصورة/الصور إحدى المعالجات التي لجأ إليها عدد من الروائيين شأنها شأن المخطوطات لتضطلع بدور حيوي في سرد الحكاية أو استحضار الماضي. وخير مثال على ذلك في الأعمال العراقية الحديثة رواية "يا مريم" لسنان أنطون ورواية "القديسة بغداد" أو في قصة "الصورة" لكاتب هذه السطور. بيد أن أزهر جرجيس وظف الكاميرا/الصور في "حجر السعادة" بتقنية "ثلاثية الأبعاد" (الرمزية، والتاريخ، والحكي/السرد) لكأننا نشاهد ونرى لقطات حية بين السطور.
فعلى صعيد الرمزية، كانت تلك الكاميرا شاهدًا على أحلام جيل الأطفال الموءودة، وعلى أمنياتهم بعيدة المنال، وعلى الرغبة الجامحة التي استبدت بكمال لتوثيق طفولته، وعلى الفضول الذي أوقد في داخله، فور مشاهدته الكاميرا الشمسية المحمولة على ثلاثة مساند، شغف التصوير ليمتهنها لاحقًا بعد فراره إلى بغداد. لذا يقول في ص 23 بعد انتهاء جلسة تصوير التلاميذ بالكاميرا الشمسية "عاد التلاميذ إلى الصف سواي، فقد كنت ذاهلا كالأبله، يهرش رأسي سؤال عما يكتنزه ذاك الصندوق السحري الرابض فوق السيقان النحيلة"، ثم يكمل في الصفحة التالية، "لصقت عيني في اللوح، دون اكتراث لسخرية صاحبه. كانت الصورة مقلوبة وكأن شيطانًا يتلبسها... وعندما عدت إلى المنزل ودخلت حجرتي... عمدت إلى دفتر الرسم وقطعت منه ورقتين، ثم طويتهما على هيئة مثلثين صغيرين وحشرتهما ببعضهما لتكون النتيجة كاميرا من ورق..."، ثم يصف كيف التقط صورة لأخته جانيت كما فعل موريس مع تلاميذ صفه ذلك اليوم فقالت له، "شكرًا، حضرة المصور كمال أفندي. أطربني لقب المصور وظلت الكاميرا الورقية رفيقتي أينما ذهبت".
كانت أيضًا شاهدًا على قسوة الأب يوم أعطته أخته عشرة فلوس من التي وفرتها فمضى بها إلى المصور موريس ليتلقط له صورة ولما عاد بها وعلم أبوه بالأمر أوسعه ضربا مبرحًا. مع ذلك، لم يخبُ هذا الشغف تجاه الكاميرا والتصوير، فقد وجد فيه أملًا، حتى لو كان ضئيلًا نحو المستقبل، وهروبًا من واقعه الحياتي والأسري والمجتمعي شديد القسوة، الأمر الذي بعثه ليلتصق بموريس، مصور مدينته في الموصل، ليلتقط منه ما يجود عليه من مبادئ التصوير، ثم العم خليل في بغداد، وليتعرف من خلاله على أسرار المهنة، وعلى المشاعر التي تفيض خلال التقاط الصور وليست مجرد حركات. لذلك يقول كمال في مرحلة لاحقة من حياته، "الصورة بنت المزاج... لن تحصل على صورة جيدة مادام مزاجك سيئًا" ص 276.
وعلى صعيد التاريخ، جايلت الكاميرات/الصور كمال توما على مدى خمسة عقود، منذ الثالثة عشرة وحتى بعد عقد الستين، ومعه كانت شاهدًا حيًّا على التطورات الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالبلاد وحولتها إلى مسرح للحروب والدمار والانفلات الأمني. في تلك العقود الخمسة، تطورت الكاميرات في تقنياتها وآليتها وأهميتها في المجتمع ومرت بمراحل عمرية مثل البشر (الكاميرا الشمسية، الضوئية، الفورية، والرقمية إضافة إلى الكاميرا الورقية التي صنعها كمال في طفولته)، في وقت توارت خلاله شخصيات من مسرح الرواية، شقيقته جانيت التي رحلت في بلاد المهجر وعلم بوفاتها بالسرطان، الأخ ريمون، المصور موريس ومن ثم المصور خليل. لقد أدرك كمال أهمية الكاميرا/الصور في تدوين التاريخ، لذلك يقول "كنت محظوظًا لأني أقرأ ما سيمسي تاريخًا، وأشارك في تدوينه دون حاجة إلى سلسلة رواة" ص 290.
رافق هذا التحول تبدلًا في طبيعة عمل المصور كما شاهدنا، من المصور المتنقل (الكاميرا الشمسية) إلى الأستوديو (الكاميرا الضوئية) وبعدها العودة للتجوال (الكاميرا الفورية)، ثم الأستوديو والتجوال معًا في الكاميرا الرقمية التي قل الطلب عليها جرّاء انتشار الهواتف والأجهزة المحمولة المزودة بكاميرات، حيث يقول كمال "عاد صالح من شارع السعدون متأبطًّا ألبومه الجديد، وكان عن مخيمات النازحين، ثم جلس يربّت عليه قائلًا بأنه سيبيعه لمنظمة إنسانية. قبل هذا كان قد صنع واحدًا عن القباب الذهبية في كربلاء وباعه لرجل أعمال يدعي القرب من الله، وواحدًا عن آثار بابل، باعه لا أدري أين.. من هذه الألبومات يتحصل صاحبي على فتات رزقه بعد موت مهنة المصور الجوّال وتشييعها نحو مثواها الأخير" ص 270.
وبعد تغيير النظام، عادت الكاميرا/الصور لتتسيد المشهد وتستحوذ أهمية قصوى خاصة مع اندلاع انتفاضة الشباب 2019 يوم أضحت الصور مصدر خطر هائل على السلطات الحاكمة شأنها شأن وسائل التواصل الاجتماعي، وأمسى المصورون والمدونون أكبر تهديد للحاكم لأن الصورة شاهد حي صادق لا يعرف الكذب، شاهد يوثق الأحداث لينقلها إلى العالم ويفضح فساد المسؤولين، فيقول في ص 271 "أتذكر بأن صالح كان قد زار المخيمات من قبل مع وفد لإحدى المنظمات المعنية بشؤون اللاجئين وتحصل على صورة فريدة تناقلتها المواقع العالمية، صورة فتاة صغيرة، ضفائرها صفراء وفي عينيها الجميلتين ابتسامة غارقة بالدمع. كانت لقطة يصعب تفسيرها إلى حد أن بعضهم وصفها بموناليزا العراق. ما يثير الاستغراب أن الصورة حين انتشرت على الإنترنت، وتلقفتها الصحف المحلية والعالمية، اتصل به مسؤول كبير في الدولة واشتراها منه بثلاثمائة دولار! في الوهلة الأولى شككت في الأمر ورحت أتساءل ماذا يفعل مسؤول حكومي بصورة كهذه! غير أن صالح أقسم لي على ذلك وأردف معللّا تصرف المسؤول: ’من يدري؟ ربما اقتناها لتذكره بفشله‘"؟!
من جانب آخر، أعادت الكاميرا سيرة الحب الذي لم يكتب له التوفيق في البداية ما بين كمال ونادية، فانتقلت نادية للسكن معه هربًا من "الحنش" الذي استولى بسطوته على متحف أبيها المعدوم على يد النظام السابق، "متحف السلام"، وأصرت على البقاء والعمل على إثارة الرأي العام. أخذت تكتب وتنشر المقالات الساخرة على الإنترنت المزودة بالصور باسم مستعار "باسم أمين" وترفق معها الصور التي يلتقطها كمال بكاميراته خلال وجوده وسط المحتجين.
أما على صعيد السرد، فكانت الكاميرا/الصور الراوي العليم الذي يكمل سرد الشخص الأول، كمال توما، بحيث نشعر أنها، أي الكاميرا، تحكي ما أغفله السارد الأول أو ما تركه لها. كانت تسرد الأحداث، وتدون الحياة، وتوثق المشاعر بكل تفاصيلها تمامًا كما يقول العم خليل وهو يتحدث إلى كيمو ص 144، هل تعرف ما هو المصور يا كيمو؟ أجبته بلا تردد: ’كائن حي يحمل كاميرا.‘ ضحك لضحاتي وقال: ’المصور شاهد عيان على حياة المدينة وخازن أمين لذكريات أهلها‘". أو كما يقول في موضع آخر، "كان العم خليل يقول كلما لمّ الصور من حبل الغسيل وأرخها على القفا باليوم والشهر والسنة بأننا لا نلتقط الصور، بل ندّون التاريخ"، ص 226.
لقد برع الروائي في تجسيد الكاميرا/الصورة بحيث كنا نشاهد الصور من خلال الوصف والسرد، وأنسنها فكانت كتلة من المشاعر والأحاسيس، تعيش وتحيا، وتفرح وتغضب، كما يصفها ص 124 "أما أنا، فبقيت وحيدًا أحدق في تلك الوجوه المطلة من الحائط ذي الطلاء الأصفر الباهت. كانت صورًا طاعنة في السن إلا أن ما فيها بدا وكأنه قصة حياة معلقة على جدار، وحضور رمزي لمن غاب أو رحل. لقد داخلني شعور وأنا أنظر إلى الصور بأن أرواحًا تطوف حول المكان وتستقر بين تلك البراويز المعلقة، فتساءلت في نفسي: هل تعلق الأرواح بصور أصاحبها؟ أم أنها تأتي وقت الاشتياق لتذرف الدموع وترحل؟" أو كما يضرب لنا مثلًا عن الصورة التي أرخت فترة الحرب العبثية مع إيران، حيث يذكر ص 191 "بعدها جاء رجل متعب على جبينه خرائط من الحزن. كان يحمل صورة بالأسود والأبيض لضابط بنجمتين. طلب مني تلوينها وإضافة سطر تحتها ’الشهيد الملازم ثامر النجار. تاريخ الاستشهاد 13/11/1981‘. تناولت الصورة من يده وقطعت له موعدًا بعد يومين، وحالما ذهب باشرت بمنح الموت لون حياة زائف".
لقد أحاط ذلك السارد، الكاميرا، بكل شيء ونقل ما عجز الراوي، كمال عن سرده، أو تردد في نقله لأنها مشاهد تبعث على الأسى، لذلك يقول ص 226 "بأي عدسة وقحة أصور ما يجري على أبواب المتاحف والمدارس والدوائر الحكومية؟ هل أكتب خلف صورة مراهق فرح بتهشيم مقعد دراسي: ثائر؟ أو على ذلك الرجل الناهب لمكيف هواء من إحدى المشافي: مواطن يسترد حقه؟ ماذا أفعل بصور الحارقين للسجل المدني؟ وأولئك المتحلقين حول جندي المارينز من أجل مجلة خلاعية؟...".
لم يكن المشهد المحزن برحيل العم خليل مجرد حادث عابر في حياة كمال مع أنه فقد أقرب الناس إليه، أخته جانيت وأخاه ريمون، بل شعرنا أن تاريخًا بأكمله قد أسدل الستار عليه، وأجيالًا عديدة قد هاجرت معه إلى العالم الآخر، وأننا قد شيعنا بغداد بتاريخها وتراثها وشوارعها وأزقتها ودرابينها، حيث يقول كمال وهو يؤبن العم خليل ص 200 في تصوير بالغ الحزن والألم "ها أنا ذا أدس العم خليل رفقة كاميرته في التراب، وها هو ذا ينسل بهدوء نحو مثواه الأخير مشرعًا خلفه باب الوحدة من جديد. قضيت المساء وحيدًا في الأستوديو أقلب في إرثه الصوري الكبير والذي كان عليّ طباعة نسخة منه حسب الوصية. مئات من الصور بالأسود والأبيض وثقت بعين فنان ماهر. شعرت وأنا أقلب فيها بأن بغداد بأسرها تنام بين يديّ. العمائر، المنائر، الجسور، القباب، المدارس، الأسواق، الشوارع، الأزقة، المشربيات، والوجوه الحائزة على ثلث تلقائية الكون. لا أدري أنى لهؤلاء الكسبة والحرفيين والعتالين والسابلة والأفندية ورواد المقاهي، بكل هذه التلقائية أمام العدسة! كما لا أدري أي سحر وضعه الله في عباءات النسوة المارات في أسواق القماش ولدى محال العطارة! ألهذا الحد كنتَ بارعًا في التقاط الصور؟! أم هي بغداد التي ما خلق الله الكاميرات إلا لأجلها"؟!
عمار الثويني
القسم الثاني: الكاميرا/الصورة: السارد العليم
شكلت الصورة/الصور إحدى المعالجات التي لجأ إليها عدد من الروائيين شأنها شأن المخطوطات لتضطلع بدور حيوي في سرد الحكاية أو استحضار الماضي. وخير مثال على ذلك في الأعمال العراقية الحديثة رواية "يا مريم" لسنان أنطون ورواية "القديسة بغداد" أو في قصة "الصورة" لكاتب هذه السطور. بيد أن أزهر جرجيس وظف الكاميرا/الصور في "حجر السعادة" بتقنية "ثلاثية الأبعاد" (الرمزية، والتاريخ، والحكي/السرد) لكأننا نشاهد ونرى لقطات حية بين السطور.
فعلى صعيد الرمزية، كانت تلك الكاميرا شاهدًا على أحلام جيل الأطفال الموءودة، وعلى أمنياتهم بعيدة المنال، وعلى الرغبة الجامحة التي استبدت بكمال لتوثيق طفولته، وعلى الفضول الذي أوقد في داخله، فور مشاهدته الكاميرا الشمسية المحمولة على ثلاثة مساند، شغف التصوير ليمتهنها لاحقًا بعد فراره إلى بغداد. لذا يقول في ص 23 بعد انتهاء جلسة تصوير التلاميذ بالكاميرا الشمسية "عاد التلاميذ إلى الصف سواي، فقد كنت ذاهلا كالأبله، يهرش رأسي سؤال عما يكتنزه ذاك الصندوق السحري الرابض فوق السيقان النحيلة"، ثم يكمل في الصفحة التالية، "لصقت عيني في اللوح، دون اكتراث لسخرية صاحبه. كانت الصورة مقلوبة وكأن شيطانًا يتلبسها... وعندما عدت إلى المنزل ودخلت حجرتي... عمدت إلى دفتر الرسم وقطعت منه ورقتين، ثم طويتهما على هيئة مثلثين صغيرين وحشرتهما ببعضهما لتكون النتيجة كاميرا من ورق..."، ثم يصف كيف التقط صورة لأخته جانيت كما فعل موريس مع تلاميذ صفه ذلك اليوم فقالت له، "شكرًا، حضرة المصور كمال أفندي. أطربني لقب المصور وظلت الكاميرا الورقية رفيقتي أينما ذهبت".
كانت أيضًا شاهدًا على قسوة الأب يوم أعطته أخته عشرة فلوس من التي وفرتها فمضى بها إلى المصور موريس ليتلقط له صورة ولما عاد بها وعلم أبوه بالأمر أوسعه ضربا مبرحًا. مع ذلك، لم يخبُ هذا الشغف تجاه الكاميرا والتصوير، فقد وجد فيه أملًا، حتى لو كان ضئيلًا نحو المستقبل، وهروبًا من واقعه الحياتي والأسري والمجتمعي شديد القسوة، الأمر الذي بعثه ليلتصق بموريس، مصور مدينته في الموصل، ليلتقط منه ما يجود عليه من مبادئ التصوير، ثم العم خليل في بغداد، وليتعرف من خلاله على أسرار المهنة، وعلى المشاعر التي تفيض خلال التقاط الصور وليست مجرد حركات. لذلك يقول كمال في مرحلة لاحقة من حياته، "الصورة بنت المزاج... لن تحصل على صورة جيدة مادام مزاجك سيئًا" ص 276.
وعلى صعيد التاريخ، جايلت الكاميرات/الصور كمال توما على مدى خمسة عقود، منذ الثالثة عشرة وحتى بعد عقد الستين، ومعه كانت شاهدًا حيًّا على التطورات الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالبلاد وحولتها إلى مسرح للحروب والدمار والانفلات الأمني. في تلك العقود الخمسة، تطورت الكاميرات في تقنياتها وآليتها وأهميتها في المجتمع ومرت بمراحل عمرية مثل البشر (الكاميرا الشمسية، الضوئية، الفورية، والرقمية إضافة إلى الكاميرا الورقية التي صنعها كمال في طفولته)، في وقت توارت خلاله شخصيات من مسرح الرواية، شقيقته جانيت التي رحلت في بلاد المهجر وعلم بوفاتها بالسرطان، الأخ ريمون، المصور موريس ومن ثم المصور خليل. لقد أدرك كمال أهمية الكاميرا/الصور في تدوين التاريخ، لذلك يقول "كنت محظوظًا لأني أقرأ ما سيمسي تاريخًا، وأشارك في تدوينه دون حاجة إلى سلسلة رواة" ص 290.
رافق هذا التحول تبدلًا في طبيعة عمل المصور كما شاهدنا، من المصور المتنقل (الكاميرا الشمسية) إلى الأستوديو (الكاميرا الضوئية) وبعدها العودة للتجوال (الكاميرا الفورية)، ثم الأستوديو والتجوال معًا في الكاميرا الرقمية التي قل الطلب عليها جرّاء انتشار الهواتف والأجهزة المحمولة المزودة بكاميرات، حيث يقول كمال "عاد صالح من شارع السعدون متأبطًّا ألبومه الجديد، وكان عن مخيمات النازحين، ثم جلس يربّت عليه قائلًا بأنه سيبيعه لمنظمة إنسانية. قبل هذا كان قد صنع واحدًا عن القباب الذهبية في كربلاء وباعه لرجل أعمال يدعي القرب من الله، وواحدًا عن آثار بابل، باعه لا أدري أين.. من هذه الألبومات يتحصل صاحبي على فتات رزقه بعد موت مهنة المصور الجوّال وتشييعها نحو مثواها الأخير" ص 270.
وبعد تغيير النظام، عادت الكاميرا/الصور لتتسيد المشهد وتستحوذ أهمية قصوى خاصة مع اندلاع انتفاضة الشباب 2019 يوم أضحت الصور مصدر خطر هائل على السلطات الحاكمة شأنها شأن وسائل التواصل الاجتماعي، وأمسى المصورون والمدونون أكبر تهديد للحاكم لأن الصورة شاهد حي صادق لا يعرف الكذب، شاهد يوثق الأحداث لينقلها إلى العالم ويفضح فساد المسؤولين، فيقول في ص 271 "أتذكر بأن صالح كان قد زار المخيمات من قبل مع وفد لإحدى المنظمات المعنية بشؤون اللاجئين وتحصل على صورة فريدة تناقلتها المواقع العالمية، صورة فتاة صغيرة، ضفائرها صفراء وفي عينيها الجميلتين ابتسامة غارقة بالدمع. كانت لقطة يصعب تفسيرها إلى حد أن بعضهم وصفها بموناليزا العراق. ما يثير الاستغراب أن الصورة حين انتشرت على الإنترنت، وتلقفتها الصحف المحلية والعالمية، اتصل به مسؤول كبير في الدولة واشتراها منه بثلاثمائة دولار! في الوهلة الأولى شككت في الأمر ورحت أتساءل ماذا يفعل مسؤول حكومي بصورة كهذه! غير أن صالح أقسم لي على ذلك وأردف معللّا تصرف المسؤول: ’من يدري؟ ربما اقتناها لتذكره بفشله‘"؟!
من جانب آخر، أعادت الكاميرا سيرة الحب الذي لم يكتب له التوفيق في البداية ما بين كمال ونادية، فانتقلت نادية للسكن معه هربًا من "الحنش" الذي استولى بسطوته على متحف أبيها المعدوم على يد النظام السابق، "متحف السلام"، وأصرت على البقاء والعمل على إثارة الرأي العام. أخذت تكتب وتنشر المقالات الساخرة على الإنترنت المزودة بالصور باسم مستعار "باسم أمين" وترفق معها الصور التي يلتقطها كمال بكاميراته خلال وجوده وسط المحتجين.
أما على صعيد السرد، فكانت الكاميرا/الصور الراوي العليم الذي يكمل سرد الشخص الأول، كمال توما، بحيث نشعر أنها، أي الكاميرا، تحكي ما أغفله السارد الأول أو ما تركه لها. كانت تسرد الأحداث، وتدون الحياة، وتوثق المشاعر بكل تفاصيلها تمامًا كما يقول العم خليل وهو يتحدث إلى كيمو ص 144، هل تعرف ما هو المصور يا كيمو؟ أجبته بلا تردد: ’كائن حي يحمل كاميرا.‘ ضحك لضحاتي وقال: ’المصور شاهد عيان على حياة المدينة وخازن أمين لذكريات أهلها‘". أو كما يقول في موضع آخر، "كان العم خليل يقول كلما لمّ الصور من حبل الغسيل وأرخها على القفا باليوم والشهر والسنة بأننا لا نلتقط الصور، بل ندّون التاريخ"، ص 226.
لقد برع الروائي في تجسيد الكاميرا/الصورة بحيث كنا نشاهد الصور من خلال الوصف والسرد، وأنسنها فكانت كتلة من المشاعر والأحاسيس، تعيش وتحيا، وتفرح وتغضب، كما يصفها ص 124 "أما أنا، فبقيت وحيدًا أحدق في تلك الوجوه المطلة من الحائط ذي الطلاء الأصفر الباهت. كانت صورًا طاعنة في السن إلا أن ما فيها بدا وكأنه قصة حياة معلقة على جدار، وحضور رمزي لمن غاب أو رحل. لقد داخلني شعور وأنا أنظر إلى الصور بأن أرواحًا تطوف حول المكان وتستقر بين تلك البراويز المعلقة، فتساءلت في نفسي: هل تعلق الأرواح بصور أصاحبها؟ أم أنها تأتي وقت الاشتياق لتذرف الدموع وترحل؟" أو كما يضرب لنا مثلًا عن الصورة التي أرخت فترة الحرب العبثية مع إيران، حيث يذكر ص 191 "بعدها جاء رجل متعب على جبينه خرائط من الحزن. كان يحمل صورة بالأسود والأبيض لضابط بنجمتين. طلب مني تلوينها وإضافة سطر تحتها ’الشهيد الملازم ثامر النجار. تاريخ الاستشهاد 13/11/1981‘. تناولت الصورة من يده وقطعت له موعدًا بعد يومين، وحالما ذهب باشرت بمنح الموت لون حياة زائف".
لقد أحاط ذلك السارد، الكاميرا، بكل شيء ونقل ما عجز الراوي، كمال عن سرده، أو تردد في نقله لأنها مشاهد تبعث على الأسى، لذلك يقول ص 226 "بأي عدسة وقحة أصور ما يجري على أبواب المتاحف والمدارس والدوائر الحكومية؟ هل أكتب خلف صورة مراهق فرح بتهشيم مقعد دراسي: ثائر؟ أو على ذلك الرجل الناهب لمكيف هواء من إحدى المشافي: مواطن يسترد حقه؟ ماذا أفعل بصور الحارقين للسجل المدني؟ وأولئك المتحلقين حول جندي المارينز من أجل مجلة خلاعية؟...".
لم يكن المشهد المحزن برحيل العم خليل مجرد حادث عابر في حياة كمال مع أنه فقد أقرب الناس إليه، أخته جانيت وأخاه ريمون، بل شعرنا أن تاريخًا بأكمله قد أسدل الستار عليه، وأجيالًا عديدة قد هاجرت معه إلى العالم الآخر، وأننا قد شيعنا بغداد بتاريخها وتراثها وشوارعها وأزقتها ودرابينها، حيث يقول كمال وهو يؤبن العم خليل ص 200 في تصوير بالغ الحزن والألم "ها أنا ذا أدس العم خليل رفقة كاميرته في التراب، وها هو ذا ينسل بهدوء نحو مثواه الأخير مشرعًا خلفه باب الوحدة من جديد. قضيت المساء وحيدًا في الأستوديو أقلب في إرثه الصوري الكبير والذي كان عليّ طباعة نسخة منه حسب الوصية. مئات من الصور بالأسود والأبيض وثقت بعين فنان ماهر. شعرت وأنا أقلب فيها بأن بغداد بأسرها تنام بين يديّ. العمائر، المنائر، الجسور، القباب، المدارس، الأسواق، الشوارع، الأزقة، المشربيات، والوجوه الحائزة على ثلث تلقائية الكون. لا أدري أنى لهؤلاء الكسبة والحرفيين والعتالين والسابلة والأفندية ورواد المقاهي، بكل هذه التلقائية أمام العدسة! كما لا أدري أي سحر وضعه الله في عباءات النسوة المارات في أسواق القماش ولدى محال العطارة! ألهذا الحد كنتَ بارعًا في التقاط الصور؟! أم هي بغداد التي ما خلق الله الكاميرات إلا لأجلها"؟!
موقع ميديل إيست أونلاين/ ٢٠٢٣/٦/١٦