حجر السعادة حجر السعادة discussion


1 view
عمار الثويني / ميديل إيست / القسم الأول

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Azher (new)

Azher Jirjees أزهر جرجيس في 'حجر السعادة' يضيء على الروايات المسرودة بعدسة الكاميرا

عمار الثويني

عمار الثويني - بغداد - القسم الأول: تحليل الرواية

ليس من اليسير دائمًا على الأديب الذي يستهل مشروعه السردي قاصًّا أن يجيد كتابة الرواية مع أنهما يشتركان من حيث المبدأ في الحكاية وما يرافقها من رويّ لإمتاع القارئ ودهشته، فالرواية سرد بنفس طويل وتقتضي توظيف العديد من التقنيات والأحداث والأماكن والشخصيات، إضافة إلى المقاربة التي ينطلق منها السارد، آخذًا في الاعتبار أنه مهيأ ليكون عدّاء ماراثونات وليس سباقات العدو القصيرة.

لعل الروائي والقاص أزهر جرجيس أحد الكتاب الذين أجادوا في هذين اللونين السرديين، فلقد طالعت مجموعاته القصصية وروايته الأولى "النوم في حقل الكرز" وروايته الأخيرة "حجر السعادة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" هذا العام ووجدت فيه أعمالًا متكاملة سردًا وبناء وذات ودلالات وانزياحات تنفتح على أكثر من قراءة وتأويل، ومنسلخة عن التفاصيل المرهلة للنص، وممهورة بلغة أدبية متماسكة ورمزية وليست تقريرية مباشرة. هو كما يتضح لي من تحليل أعماله السردية والوقوف على البناء الفني لها سارد متمكن وقادر على ضبط إيقاع أوركسترا العمل بنحو متزن ومتقن.

تنتمي رواية "حجر السعادة" التي صدرت عام 2022 عن دار الرافدين إلى تيار الروايات العالمية الحديث الذي يتسم عادة بتقنية سرد الشخص الأول (الراوي غير العليم) وعلى الدهشة/المتعة إضافة إلى السخرية/الكوميديا المولودة من رحم المعاناة (الذي أفضله على مسمى "الكوميديا السوداء" الشائع) وكذلك عمق الطرح والأفكار التي تتناغم مع طبيعة الحدث والشخصيات، بحيث يشعر القارئ وهو يتمعن في بعض الجمل والعبارات أنها أتت في سياقها الصحيح تمامًا دون تكلف أو إقحام، فعلى سبيل المثال، يقول كمال - الشخصية الرئيسة في العمل والسارد - وهو يحاور صديقه صالح، ص 190 "عزيزي صالح، مادامت الحياة قد أهدتك ولدًا فأقبل مني هاتين النصيحتين: الأولى، مهما حصل لا تقل له يا فاشل. الثانية: لا تنس النصيحة الأولى".

"حجر السعادة" تقبض على القارئ، بداية في عنوانها وتصميم الغلاف الذي يوحي أنه عمل ينتمي إلى الفنتازيا، ثم في السطر الأول تمامًا الذي تدشن فيه الشخصية الرئيسة، كمال توما وقد تخطى الستين، سرد حكايتها: "هكذا بعد عمر قضيته مسالمًا كالدجاج، وجدت نفسي وجهًا لوجه مع قاتل مأجور" ص7. تذكرني هذه الجملة بأول سطر من ملحمة جابرييل جارسيا ماركيز "مئة عام من العزلة"، "بعد سنوات طويلة وأمام فصيل الإعدام تذكر الكولونيل أورليانيو بويدينيو عصر ذلك اليوم الذي صحبه أبوه ليتعرف على الجليد"، أوجبت هذه العبارة الايقاظية و"الاستفزازية" (الاستفزاز الإيجابي التأملي) تحديًّا على الكاتب لمواصلة السرد بوتيرة عالية لاجتذاب القارئ والتفاعل مع الأحداث والشخصيات والتقاط الرسائل "المشفرة" بين السطور.

كان مفتاح الحل أولًّا في اعتماد تقنية الاسترجاع "فلاش باك" التي وظفها الكاتب بنحو موفق لسرد حكايته على لسان كمال توما أو كيمو- منذ كان فتى في الموصل ومعاناته الشديدة من قسوة والده السكير وزوجة أبيه مقابل حنان شقيقته جانيت، فاضطر إلى الفرار إلى بغداد وهو في عمر الثالثة عشرة خوفًا من انتقام والده الذي اتهمه بإغراق أخيه الأصغر ريمون، ثم يتواصل السرد بوصول كمال إلى بغداد وهو في حال مزر ويكاد الجوع يفتكه ليمارس أية مهنة تؤمن له وجبة طعام، بينها حمال وملمع أحذية وعضو في عصابة "مولانا" لسرقة المنازل ريثما يمتهن التصوير في أحد الاستوديوهات في شارع الرشيد الذي يملكه العم خليل الذي يرعاه ويحبه لأنه يذكره بابنه الوحيد الغريق. لقد كان الروائي على قدر التحدي الذي قرع جرسه في السطر الأول بجملته الايقاظية/الاستفزازية فلم يعتور السرد على مدى 316 صفحة أية إخلال أو فتور أو حشو أو تكرار أو فقرات تقريرية، وهو أمر مرده إلى عدة مرتكزات من بينها:

أولًا: اختار الروائي زمنًا غير الذي عاشه، فهو ولد في العام 1973 في حين يظهر كمال توما أنه مولود في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، أي ثمة ثغرة بقدر جيل ما بين العمرين. ولعل هذا الفارق الزمني في الرواية المسرودة بتقنية الشخص الأول لم يأت اعتباطًا، بل أراد الكاتب على الأرجح أن ينسلخ تمامًا عن شخصيته وعن الأحداث التي جايلها لتقديم نص متخيل بالكامل وشخصية من رحم الورق ترزح في حال من البؤس وقسوة الأب وزوجته إضافة إلى التنمر من قبل الكبار، المرض الاجتماعي المتأصل، بحيث يقول "أعجز عن فهم شعورهم [الكبار] بالمتعة حين يلبسون الصغار ألقابًا تحط من كرامتهم... بالضفدع أو الحمار أو الأرنب" ص 80.

ثانيًا: منح الروائي الشخصية الرئيسة، كمال توما، مطلق الحرية في التصرف والتفكير، فلم يكن جسرًا لإيصال أفكار المؤلف أو أدلجته، بل كان الأخير منصهرًا في تلك الشخصية الورقية، عائشًا كل الأدوار التي اختطها لها بحرفية عالية. لقد رسم سمات هذه الشخصية التي نشأت وترعرعت على الخوف والتنمر بدقة وعاشت مهزوزة على مدى أكثر من ستين عامًا. لذا نراه يقول في تجسيد المعاناة من قسوة أبيه "خزانة أبي من الشتائم لا تفرغ ولا تشتكي العوز" ص 38، ثم يخاطبه الأب "ما كان يضر الله لو أعطاني فتاة ثانية بدلًا منك"، ص 40، فيبعث ذلك شعورا يقينيّا لديه بأن الرب قد تخلى عنه منذ اللحظة التي غادر فيها رحم أمه ص 54. كان كمال توما نموذجًا ورمزًا للشخصية العراقية التي تتعرض لكل أنواع الاستغلال وسوء المعاملة والتنمر، صورة نمطية لجيل تربى على القسوة والحروب والدكتاتورية دون أن تفقد هذه الشخصية روح الدعابة لها. وهذا الخوف لازمه طيلة حياته فيصف حاله بشكل دقيق خلال انتفاضة الشباب عام 2019 عندما أدرك وقد تجاوز الستين مدى الفارق في الشجاعة بينه والجيل الجديد، "أخاف إن شاركنا هؤلاء الشباب احتجاجاتهم، سنطفئ حماسهم بأراجيفنا. هم يسيرون بصدور مكشوفة، ونحن نلوذ بالحيطان ونقول يا ساتر!" ص 279.

ثالثًا: كانت الأحداث السياسية التي عصفت بالعراق: الحرب مع إيران، وغزو الكويت والحصار وسقوط النظام ثم انتفاضة الشباب عام 2019 حاضرة دون أن تجتر سوى بضع فقرات من صفحات الرواية، فلا يمكن تجاهلها لأنها مست جوهر الحياة الاجتماعية العراقية، وشاء الروائي ألا يسرف في سردها خشية أن تتحول إلى التقريرية أو تشتت الثيمة الأساسية، فتركها، مع ما لها من أهمية في رسم مسار التاريخ السياسي والاجتماعي والنفسي للشخصية العراقية، لتكون الحديقة الخلفية للسرد، ففي بداية الفصل الثاني والعشرين ص 211 يصف في فقرة واحدة بليغة توالي الحروب التي يشعلها الدكتاتور، والشعب المقهور المغلوب على أمره، والمسالم بطبيعته "حروبنا كالسجائر، تشتعل من أعقاب بعضها! خمدت حرب واشتعلت أخرى بلا فواصل، ولا أحد يدري كيف ولماذا! مازلت أجهل سر توقنا للحرب وحرصنا على اقتناء السلاح وحفظه تحت الأسّرة في خزائن الثياب. لسنا منحدرين من سلالة الفايكنج، كما لا نسب يربطنا بهولاكو... نحن شعب مسالم، آلهتنا من طين يذوب رقة للمطر وجدنا العظيم [جلجامش] يبكي كالطفل لفقد صديق ثم يهيم مجنونًا في الفلوات بحثًا عن عشبة للخلود. كان ديننا المحبة وصلاتنا الحراثة، نقدس النخلة ونربي الحمام فوق الأسطح... من أين جاءنا حب الحروب والشوق لسماع الطبول؟".

رابعًا: الرمزية: امتازت الرواية بتوظيف عال للرمزية بدءًا من عنوانها حجر السعادة الذي عثر عليه كمال في طفولته في بستان يضج بالأشباح حتى قرر التخلص منه في خاتمة المطاف لأنه كما يقول جعل منه كائنًا هشًّا لا يجيد استرداد حقه ص 311، ثم بالأماكن مثل "خان الرحمة" الذي كان مكانًا للتعذيب ويضج بالأشباح والممارسات الشاذة. أما رمزية الشخصيات فتتمثل بقطبين: الضحايا "الدجاجة والأرنب" والانتهازيين "الأفعى" صاحب مكتبة الأضواء الساطعة و"فرسان بغداد" (في إشارة إلى المليشيات دون تحديدها) ومولانا والحنش. ولعل رمزية الحنش تشير إلى عدة شخصيات ومناصب دون أن تخصص أي واحد منهم، فهو ربما أحد الفقراء البائسين الذي اغتنوا وتسيدوا المشهد والمناصب فور سقوط النظام خلال غزوات الفرهود، أو أحد قادة الأحزاب أو حتى أعلى منصب في الدولة، بل قد يشير أيضًا إلى الأحزاب وإلى الوضع الحالي برمته. لذلك يقول عنه "وهكذا غدت المتاجر والمحال تتساقط في يد الحنش واحدًا تلو الآخر. لكن المثير للاستغراب أنه لم يكن بحاجة لتلك المتاجر، لم يشغلها بالبضائع ولم يعرضها للإيجار... كان حين ينتقل المتجر إلى ملكه، يسدله بقفل كبير... كان كمن يصطاد السمك لعداوة مع النهر، لا لحاجة في السمك!" ص 237. وتجسد شخصية "مولانا" واقع حال الكثير من المنافقين الذين يمارسون شعائر الدين علنًا ويجترحون كل أنواع الموبقات سرًّا ومعهم صارت الناس تنقاد إلى أوامرهم دون تفكير كما يظهر في الحوار الجميل بين كمال وهوبي عندما امتهن مجبرًا سرقة البيوت "مضغت اللقمة وقلت: ’لماذا يشتمك مولانا؟‘ أجاب، ’لأنه مولانا‘، ثم أردف: ’مولانا يفعل بنا ما يريد، لأنه مولانا‘" ص 88.

خامسًا: اللغة، كانت اللغة أدبية عالية ومتماسكة على مدار الرواية وقد وظفها الروائي بنحو متقن لإيصال الأفكار، كما يفعل، فمثلًا عند وصف كمال مهنة تلميع الأحذية فيقول ص 104 "عليّ الاعتراف بأن تلميع الأحذية لم يكن عملًا شاقًّا، فلا عربات ولا أحمال تئن لها الأكتاف الهزيلة. كان عملًا سهلًا ويسيرًا يوفر ثمن الخبز والشاي معًا دون الحاجة إلى صدقة، لكن فيه من الذل والمهانة ما يفوق العتالة بعشرة أضعاف". ولعل الجانب الأميز فيها أن الحوارات كانت بالفصحى وليست العامية من أجل أن تكون مفهومة، خاصة بالنسبة للقراء العرب، مع إدخال عدة هوامش وشروحات لبعض المفردات المختصة بالمجتمع العراقي.
يتبع


back to top