حجر السعادة حجر السعادة discussion


1 view
د. حمزة عليوي / مجلة الأقلام / بغداد

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Azher (new)

Azher Jirjees حجر السعادة... سرد الغفران أم سرد النسيان؟
د. حمزة عليوي
هل يساوي الغفران النسيان؛ هل ننسى لأننا نريد أن نغفر، أم أننا نغفر لأننا "نُجبر" غالبا على نسيان ما يُسهم في تدمير حياتنا؟ وهل "سردية" الغفران هي الوجه الآخر لـ"سردية" النسيان، هل هما، حقا، وجهان لعملة واحدة؟ لا تقول لنا رواية أزهر جرجيس الثانية "حجر السعادة: الرافدين: بغداد/ 2022" ما يُفيد أنها بصدد الإجابة عن هذه الأسئلة؛ إنها فقط تتعثر بالأسئلة، شأن تعثُّر بطلها كمال، مصور المدينة، بحادثة غرق شقيقه ريمون في النهر، فيضطر للهرب نجاةً بحياته من مصير تعيس على أيدي أبيه وزوجته. لكن كمال يتعثَّر، أيضا، قبل هروبه من الموصل صوب بغداد بأمر آخر سيكون له شأن كبير في حياته اللاحقة. نتحدث عن أثر موريس أفندي المصور في نفس "كيمو"؛ وقد غرس فيه حب التصوير، بأن صنع له "أجمل بورتريه في تاريخ التصوير الفوتغرافي ص 31".
قصة ضحية أم قصة منتقم؟
لكن "حجر السعادة" هي، بالأصل، رواية قاتل مأجور، مثلما هي رواية ضحية ومنتقم. أفكِّر بالصورة الأولى التي تفتتح بها الراوية عالمها. ثمة حكاية أولى تختلط فيها قصة الراوي المتكلم دائما بقصة من يريد قتله. وقد يبدو لنا أمرا مبالغا به كثيرا أن نتحدث عن قصة أخرى غير قصة الراوي المتكلم المحتكر للقصص كلها. إنها القصة ذاتها التي تبدأ بها "روايات" ما بعد الحداثة سوى أن رواية حجر السعادة لا تقول لقارئها إنها تنتمي لما بعد الحداثة؛ إنها مشغولة بتقديم الرواية بصفتها "مخطوطة" لم يكتبها أحد ويتولى الراوي، من ثمّ، كتابتها. لندع القصة الجديرة بالسرد، ولنفكِّر بإحالات "التأطير" السردي في مفتتح الراوية وصلتها بخاتمة الرواية. تبدأ الرواية كما تنتهي. وليس القصد، هنا، أن البداية تشبه الخاتمة، أو أن الخاتمة تستكمل ما أنبأت به البداية، برغم أن زمن السرد لا يموضع البداية بصفتها مفتتحا لزمن القصة؛ كما أن زمن الخاتمة السردي لا يستكمل غير زمنه ذاته. لنقل إن زمنية السرد "المضطربة" هي محاولة أولى لإقناعنا بسيرة كمال توما الذاتية المضطربة أيضا. في الأقل، نحن نتحدث عن "سيرة" تستكمل نواقصها بمقدار ما يتعثر صاحبها بحظه التعيس؛ فهو ابن عائلة فقيرة، يتيم الأم، ولا ناصر له سوى شقيقته الكبيرة التي تتعرض للاضطهاد ذاته، وسيكون "مذنبا" بمنطق أبيه وزوجته المتسلطة إزاء غرق شقيقه "ريمون"، وهو، أيضا، المسيحي المنحدر صوب عاصمة البلاد المضطربة. هل تكفي هذه العثرات لتصنع لنا قصة مضطربة عن "خاسر" تعيس لا يعرف غير طعم الخسارات المرَّة كما هو حال السيد "كمال توما"؟
قاتل مأجور.. الانقلاب الحكائي الأخير
أفكر بخاتمة الرواية، كما أفكر ببدايتها، ثمة قاتل يتربص بالراوي وليس لدى الأخير سوى رغبته بالصفح والنسيان. لكن الخاتمة، هنا، تعيد تخيل الحكاية على أساس منطق القاتل المقابل لرغبة الانتقام لدى الضحية. هذا الافتراض يفارق منطق أو سردية "السعادة"؛ فأثر الحجر يكمن في قدرته على مغالبة رغبة الانتقام، بينما محاولة "القتل" تنتهي بالتخلص من حجر "الصفح"، عفوا السعادة. وكأننا، هنا، إزاء تصحيح لمسار الحكاية؛ إذ يتكفل دجلة بابتلاع حجر السعادة فيصبح "كيمو/ كمال" في مواجهة لحظة الانتقام من قاتله المفترض. هل نحن إزاء انقلاب "حكائي" يجتاح منطق الحكاية برمتها؟ كمال، أو "كيمو"، الفتى البائس الذي استكان، منذ البداية، لمنطق ودور "الأرنب" المغلوب على أمره، هو الذي نهض بعبء حكاية الضحية الذي يعثر، ليلة غرق شقيقه "ريمون" على حجر فيصبح طوق النجاة له؛ ونراه يكتفي بوضع الحجر العجيب في فمه ويحركه هناك حتى يفعل فعله العجيب، فيهدأ غضب "كيمو" ويستكين. لكن "كيمو" ضحية مختلفة؛ فهو عاجز كليا عن رد الأذى عن نفسه، وعن من يحب. لا فعل، لا ردّ، لا انتقام. يختار "كيمو" الهرب من أية مواجهة مع أي خصم. مرتان اختار "كيمو" المواجهة فكنا إزاء فضيحة يمثلها كائن هش. تنتهي الأولى بموت "ريمون" وهرب "كيمو" من الموصل وتشرده لاحقا في بغداد. وفي الثانية يتحقق "وعيد" كمال بحرق الخان، لكنه فعل العاجز الهارب الذي تحدث الوقائع أمامه بالصدفة المحضة. لا فعل سوى وضع الحجر العجيب في الفم وامتصاص الخذلان منه وقلة الحيلة. لا قصة، ولا سردية سوى صيغة المذعور الفائض عن أي حاجة، إنها سردية السيد "كيمو" خازن حكايات المصورين، رواة المدن المقهورة، هناك في البعيد العالي، حيث تراث الموصل الفريد، أو في بغداد؛ حيث شارع الرشيد وأستديو خليل وصوره ثم في متحف السلام. حتى، هنا، فأن قصة "كيمو" لا تزيد عن صيغة الوراثة أو التركة التي تصل، بالصدفة، إليه، ويكون عليه أن يحافظ عليه. وفي كل مرة تكون الهزيمة الشنيعة ثمن المحافظة على التركة الرمزية. فلماذا تنقلب الرواية على قصة الخاسر المخذول وتستعيض عنها بقصة المنتقم الذي يرمي حجر سعادته بدجلة في ختام الرواية ويمضي نحو انتقامه؟
في المحاولة الثالثة للانتقام يتجرأ "كيمو" ويتخلى عن عدميته، ونراه يوثق فعل اختطاف المتظاهرة "حنين جودي"، فيغدو هدفا سهلا لانتقام الخاطفين من مليشيا طاهر الحنش. هذا التحول في سردية العاجز ينسجم، ربما، من تحول آخر طال، هذه المرة، قصة القاتل الذي يخفق في عمله أيضا. لكن "كيمو" يخفق كذلك في تنفيذ انتقامه؛ إذ يهرب "القاتل" فيما المنتقم يكتفي بـ"الجنس" والنوم في حضن الحبيبة "نادية فوزي". فهل نحن بصدد تحول آخر في معنى حجر السعادة ذاته؟ أظن أن الأمر هكذا؛ فخاتمة الرواية تشهد ثلاثة تحولات، آخرها أن السعادة لا تحتاج لـ"حجر" إنما لفعل يجلب أو يحقق فعل "نسيان" الأذى.
حجر "كيمو" أية سعادة... أي شقاء؟
هل يجلب السعادة حجر متروك في حديقة أو بستان مهمل؟ كيف يمكن لحجر لا قيمة له أن يُوصف بالسعادة؟ لكن هل هناك "سعادة" توازي أن "تنسى" الاساءة والأذى وتغفر لمن حوّل حياتك إلى جحيم دائم؟ في المرات التي اضطر فيها "كيمو" لاستخدام "حجر السعادة"، وهي لا تزيد عن أربع، فضلا عن أخريات ظهرت فيها أعراض دالة على حالة السيد "كيمو" التعيسة، ولم يصل الأمر به لاستخدام الحجر، في كل حالات الاستخدام الحقيقة أو سواها، فإن تسهم، كلها، بتحديد معنى ودلالة هذا الحجر؛ فهو مانع أو مزيل "التأتأة" الملازمة لـ"كيمو" والمتولِّدة عن خوف متجذر جراء اضطهاد الأب وزوجته له. لكن هذا الخوف يتحول، تدريجيا أو بالتراكم، إلى رهاب لا يفارق "كيمو" أبدا، وإن حدث وحاول مغالبة التأتأة، الخرس لاحقا، فإن كارثة لابد أن تقع، كما حصل في حادثة غرق "ريمون"، ومثلها عندما لفق "كيمو" حكاية مختلفة أمام معلمه، فكان جزاؤه التوبيخ والسخرية من زملائه. تاريخ طويل من التأتأة وفقدان القدرة على التعبير عن الذات المقموعة حوَّل "حجرا" تافها، بلا قيمة، إلى سبيل لمقاومة الخوف والخرس، ثم لتخيل الدفء في شتاء بغداد القارس، ثم لمواجهة الذات المأزومة، فكان التصوير تعويضا عن "الكلام" و"التعبير" عن ذات خائفة حتى من ظلها.
من أستوديو "موريس أفندي" إلى أستوديو "خليل المصور": ها زمن الصور!
رغبة التصوير تنمو، مبكرا، في نفس "كيمو"؛ حتى أنه يتلقى حفلة تعذيب من أبيه عقابا لأول صورة خاصة به يحصل عليها من المصور الموصلاوي "موريس أفندي". لكن التصوير ينمو يكبر في مقابل نمو الاخفاق والفشل بالتعبير عن الذات. فهل كان "التصوير" بديلا عن الكلام؛ وهل صارت "الصورة" هي السبيل الوحيد المتاح أمام الذات المقموعة لإنجاز نصوصها الخاصة؟ ولماذا الصورة بالتحديد؟ تقدم لنا الصورة نفسها بوصفها سردا مختلفا عما حصل. إنه سرد مختار بعناية بالغة في لحظة خاصة ترقى إلى مستوى التفرد. وقد يكون للحياد الفاعل في منطق السرد الصوري أثر فاعل في ديمومة الصورة وتعبيرها الثابت عن المشهد. "كيمو" نفسه تدهشه صورة العم "خليل" التي ألتقطها في أزقة ودرابين بغداد القديمة للنساء الذاهبات للسوق أو لقضاء حاجة أو زيارة جارة أو مريضة أو العائدات، من ثمّ، إلى بيوتهن. ثمة إعجاب لا يخفيه المصور، الذي سيرث الأستوديو بعد وفاة صاحبه، ببراعة إيقافه المتعمد للزمن، بكيفية "تحويل" ثنية العباءة، أو استدارة الوجه، أو الابتسامة الخجولة، خلف العباءة، لمرأة تدخل مسرعة بيتها إلى "سردية" فائقة. إنه التاريخ الآخر للمدينة. تاريخ تعرضه وتختص به صور لا تكذب، ولا تزييف مكانها وزمانها؛ ربما لأنها "تدوين ذاكرة الناس والمدينة.. ص 205". وهي ذاتها التي ستشغل جدارا كاملا في متحف السلام بشارع الرشيد. هل لأجل هذا سيتحول المتحف وموجوداته، بل الشارع كله، لحلبة صراع وحرب يمتلك المنتصر فيها تاريخ وحاضر المدينة والبلاد برمتها؟
نعتقد أن الأمر كذلك؛ فالمتحف افتتح في عهد صدام، بالضبط عام 1984، كانت البلاد تطحنها، آنذاك، الحرب والديكتاتورية. وفي الإشارة إلى هذا التاريخ دلالة رئيسة تنفتح على مستويات مختلفة من التأويل، في الطليعة منها، إنها تقدم لنا صيغة مبكرة من "المقاومة" الرمزية للديكتاتورية والحرب؛ في الأقل، إنها تبدأ من وسط بغداد التاريخية، حيث شارع الرشيد بحمولاته الرمزية الكبرى؛ إذ تكمن فيه ذاكرة المدينة وسرديتها الكبرى. ولأن هناك "ماكنة عملاقة تعمل على محو الذاكرة، والمدن تموت حين تُمحق ذاكرتها.. ص 206"، فإن متحف السلام قد نهض للدفاع عن الذاكرة وسردها المقموع، فكانت صور افتتاح المتحف تتضمن مشاهد تُذكِّر بإرث بغداد بصفتها التأسيسية الأولى في العشرينيات وما بعدها. كما أن اسم المتحف وتأكيده على موضوعة السلام في مقابل الحرب المشتعلة على طول حدود البلاد الشرقية ينطوي على مقاومة ورفض مسبق لتخريب الشارع والمدينة. هكذا سيتحول مبنى المتحف ونشاطاته، بما فيها موجودات المتحف من صور ولوحات ومقتنيات أخرى، إلى برهان أخير يحيل إلى صفة المسيطر على المدينة والبلاد كلها بمجرد السيطرة على المتحف؛ وسيدشن الحاج "فوزي المطبعجي" المصائر التعيسة المشكِّلة لمصير المتحف ذاته، فبعد سنة ونصف من افتتاح المتحف سيشهد الشارع كيف يضع شرطيان الشمع الأحمر على باب المتحف ويدشنان البداية التعيسة لمصير المتحف، تماما مثل مصير صاحبه، فوزي المطبعجي، الذي تحكم عليه السلطة بالإعدام، بعد أن اتهمته بـ"التخابر" مع "الخارج" المعادي دائما. تنجح الرواية في تحويل الاهتمام صوب "سردية" المتحف المفتحة، بل والممثِّلة لسردية المدينة والبلاد، ويجري اعتماد "الصورة" للتعبير عن وقائع المتحف؛ فهي الأجدر على الثبات واختيار المنظور الأفضل. وهي كذلك المعبر عن مصير المتحف المتحول، شأن البلاد برمتها، من قبضة الديكتاتور إلى سطوة المليشاوي، "طاهر الحنش"، ولا فرق؛ سوى أن نهاية الرواية تستشرف "مقاومة" جديدة تشهدها المدينة، ليس بعيدا عن أستوديو خليل، تحت نصب التحرير، حيث "سردية" النصب وهتافات الشباب المنددة بالقمع، تستعيد "الصورة" قصة المدينة ومتحفها؛ إذ سيتحول الجميع، المحتجون وغيرهم، إلى "مصورين" لوقائع الاحتجاج بأجهزة "الموبايل" الحديثة أو القديمة. هنا، ثمة تلازم بين فعل الاحتجاج بصخبه ولحظته الفارقة والصور السريعة الملتقطة بخبرة ناقصة وبأجهزة لا تلبي شرط التصوير السردي للوقائع. برغم ذلك، نحن أمام ملايين الصور، بما فيها الصورة/ الوثيقة الملتقطة بكاميرا "كيمو" لفتاة الجسر المشاركة بلحظة الاحتجاج الأولى. تنتهي الرواية، نصيا، بنسيان "كيمو" لانتقامه ممن حاول إنهاء حياته، وتنتهي، كذلك، باستعادة مبنى المتحف؛ إذ سيتحول إليه كيمو ونادية فوزي، لكن "كيمو" يفقد "كاميرته" والصورة الموثقة لمشهد اختطاف رجال الحنش لفتاة الجسر.
أهذا كلّ شيء؟ كلا حتما؛ إنها البداية لسردية جديدة، ربما تمثلها صور الاحتجاج الخاطفة والسريعة، وقد يكون على السيد "كيمو" أن ينظم معرضا جديدا لمتحف المدينة/ متحف السلام، وقد يخصص حائطا آخر، المقابل، ربما، لحائط صور العم خليل المصور، وسيضع عليه صور الشباب المحتجين. ربما عليه أن يفعل ذلك؛ فهذه الصور ذاكرة أخرى لمدينة منتهكة.
مجلة الأقلام/ آذار ٢٠٢٣/ السنة الثامنة والخمسون


back to top