حجر السعادة حجر السعادة discussion


1 view
بديعة زيدان / جريدة الأيام / فلسطين

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Azher (new)

Azher Jirjees أزهر جرجيس يُلقي بحجر السعادة في جرح عِراقِه النازف

بديعة زيدان

يصدمنا الروائي العراقي أزهر جرجيس منذ البداية التي تشكل نهاية سرابيّة لروايته الأحدث "حجر السعادة"، ففي الفصل الأول المعنون بـ"قاتل مأجور.. شتاء 2018"، وهو عبارة عن صفحتين فحسب، يخبرنا السارد كيف انتهى أمره مقتولاً، هو الذي كان يتوقع على الدوام أن يموت ميتة هادئة على سريره، ودون أن يعلم أحد، إلا أن قاتلاً مأجوراً يتربص به، وينهي حياته!
و"حجر السعادة"، الصادرة حديثاً عن دار الرافدين، تنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2023، بوصولها إلى القائمة القصيرة من بين روايات ست.
ومن ثم يعود بنا السارد، الذي يتضح أنه اسمه "كمال"، وهو شخصية الرواية المحورية، إلى العام 1962، في الفصل الثاني "بستان الجن"، حيث كان طفلاً، ليتحدث عن كيف حرمته زوجة أبيه من قطعة "زلابية" وهو نوع شعبي عراقي من الحلوى، ما اضطره إلى سرقتها من البائع، فكان عقابه شديداً من والده بعد وشاية زوجة الأب.. لم يكن ذلك مستهجناً فكثيراً ما كان يتعرض "كمال" للضرب من والده بسبب وشايات الزوجة، كما كان كثيراً ما يتعرض للتنمر في المدرسة بسبب "التأتأة" والتلعثم اللذين كانا يرافقانه في أحاديثه، والناتجين عن ضرب والده له.
واللافت أن السرد المتقن والشفاف كان كفيلاً بإقحام القارئ ما بين "كمال" ووالده، ليشعر بلسع الخيزرانة التي ضرب بها الأب ابنه، أو في حالة أخرى رافقته ما بعد حادث السرقة، لتجعلك تتذوق معه طعم "الزلابية" المتسخة المنصهرة، وهو ما كان في الفصل الثالث أيضاً "كاميرا من ورق".
وشكلت تلك الحادثة نقطة تحوّل في الرواية، كما في حكاية "كمال"، وأعني حين مجموعة من الأولاد يحاولون الاعتداء عليه، وبينما حاول أخوه من والده "ريمون" الدفاع عنه، سقط الأخير في النهر، ومات غرقاً، فما كان من زوجة الأب إلا أن اتهمته بإغراق ابنها، فهرب خوفاً، ولم يعد إلى الموصل بعد ذلك، بحيث حطّت به الرحال في بغداد، التي هام بها على وجهه في الشوارع والأزقة.
كان يتضوّر جوعاً إلى أن وصل إلى باب كتب عليه "هذا من فضل ربي"، وكان في الداخل شيخ يقرأ القرآن، وبرفقته عدد من الفتيان مهمّتهم جمع شيء من أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء، أو هكذا شرح له الشيخ.
بداية، طلب منه الشيخ تعلّم الصلاة بعد أن علم أنه لا يتقنها، ومن ثم بدأت رحلة من الذل والمهانة والجوع الذي كان حافزا له كي يدخل عالم الشيخ للقضاء عليه، فعاد ليرافقه كثيراً، وذلك كله بعد أن فشل في مهمات السرقة التي أرسله فيها الشيخ، إلا أن أتى اليوم الذي شاهد فيها الشيخ يغتصب خادمه الفتى، وحين أحسّ صاحب المكان بوجوده فرّ "كمال" من الخان، "خان الرحمة".
وكان كلما وقع "كمال" في مأزق، يضع الحجر الذي عثر عليه في "بستان الجن"، وتحديداً في "محلة المياسة" بالموصل حيث كان يسكن وعائلته.. عثر على هذا الحجر بينما يختبئ من والده في البستان بعد أن غرق أخوه "ريمون" في النهر، فاحتفظ به في جيبه أملاً في أن يكون من الحجارة الكريمة باهظة الثمن.
وبقي الحجر ذو القدرة الخرافية، وسيلته المفترضة للنجاة، والذي حملت الرواية وصفه "حجر السعادة"، بحيث ما أن يضعه في فمه حتى يخلّصه من خوف، أو جوع، أو برد.
"يحرجني أن أخبركم بأنني بكيت كالفتيات في ذلك النهار، وأن التأتأة اجتاحت لساني، فما كان منّي إلا أن انزحت جانباً، وأخرجت الحجر ودسسته في فمي.. قلّبته، وأنا أكفكف دموع الذل، حتى هدأ غضبي، واستعدتُ القدرة على النطق المُعافى".
ومع تقليب الصفحات، وبعد سنوات من التشرد والجوع، وتعرضه لأخطار عدة مرات كثيرة، أصبح لديه مكان ينام فيه.. غرفة في استوديو المصوّر "خليل"، الذي أطلق على "كمال" لقب "مصوّر الورق"، بعد أن علم منه أنه كان يمتلك كاميرا من ورق صنعها بنفسه، ليراقب العالم من خلالها.
"كانت بغداد يومذاك صاخبة، تتزاحم فيها الأسواق والحانات ودور العرض وخشبات المسارح، ويقصدها السيّاح والمصطافون وطالبو العلم.. وكان الدخول إلى استوديوهات التصوير والجلوس أمام الكاميرا بأناقة ووقار لا يقل شأناً عن دخول صالات السينما.. كان الزبائن يقدّرون ذلك الإمضاء الصغير الذي يضعه المصوّر أسفل صورهم، كما يمنحون الصور العائلية اهتماماً خاصاً.. كم مرّة امتلأت الصالة بعطر الحبيبات! وكم مرّة أرسلني العم خليل بتلك الصور إلى سوق البحّارين من أجل تأطيرها ببراويز تُبرز جمالها".
بقي كمال عند "العم خليل" مُصوّراً في الاستوديو، يخدمه ويخدم صاحبه طوال سنيّ سبعينيّات القرن الماضي، وحتى رحيل "خليل" مطلع الثمانينيّات.. "ها أنا أدس العم خليل برفقة كاميرته في التراب، وها هو ينسل بهدوء نحو مثواه الأخيرة، مشرعاً خلفه باب الوحدة من جديد.. قضيت المساء وحيداً في الاستوديو أقّلب في إرثه الصوريّ الكبير، والذي كان عليّ طباعة نسخة منه حسب الوصية.. مئات من الصور بالأسود والأبيض وُثقت بعين فنان ماهر، شعرت وأنا أقلب فيها بأن بغداد بأسرها تنام بين يديّ".
وكان "خليل" قبل رحيله اتفق مع صديقه "فوزي المطبعجي" إلى تحويل مطبعته لمتحف، اتفقا على تسميته "متحف السلام"، وذلك بعد نقل ملكية الاستوديو لكمال بناء على ما ورد في الوصيّة أيضاً.. واستمر المتحف باستقبال زواره لعام ونصف العام، حتى أن "ثعلباً تمّ توزيره" أمر بإغلاق المتحف ومقاضاة "فوزي" بتهمة التخابر.
ولعلّ "متحف السلام" هو مرآة ليس فقط لبغداد بل للعراق كلّها، فمع تحوّل الثمانينيّات لم تعد البلاد كما كانت، أو كما كان أهلها الطيّبون يريدونها، كما هو حال "العم خليل" مُصوّرها الأثير، الذي خلّد بعدسته قبل أن تدفن معه العمائر، والجسور، والقباب، والمدارس، والأسواق، والشوارع، والأزقة، والمشربيّات، والوجوه الحائرة، وغيرها، هو وغيره من "الكسبة، والحرفيّين، والعتّالين، والسابلة، والأفندية، وروّاد المقاهي"، من أصحاب التلقائية أمام عدسته.
"لقد هُتِك ستر متحف السلام، وتناوب عليه أوغاد كثيرون.. تحوّل، بادئ الأمر إلى ملتقى للردّاحين ممن يجيدون مديح المعركة وتجميل قبحها.. ولأن السفلة مسنّدون على حائط السلطة، مُنحوا بدل الأقلام مخالب.. كانوا لا ينظمون الردح فحسب، بل يثقبون صحائف الحماسة تمجيداً بالحرب وصاحبها، وما عليك أيها القارئ سوى الإصغاء من سكوت.. لم يكن حينها الكلام متاحاً، فمخالب الأوغاد جارحة، ومع القصائد تُغزل تقارير الهلاك".
ومثلما طال التحوّل السياسي "متحف السلام"، طال كما التحوّلات الأخرى استوديو "العم خليل" الذي بات استوديو "كمال" نفسه، بحيث "مرضتْ مهنة التصوير، وامتلأت الأسواق بكاميرات الفيلم الرخيصة"، في حين بات هو يتجوّل في الحدائق بحثاً عن دخل إضافيّ.
وما بعد النصف الأول من "حجر السعادة" الرواية التي كانت تحكي حكاية يافع فرّ من الموصل إلى بغداد، والتحوّلات التي عصفت به، انتقل للحديث عن تداعيات تلك المحورّيات في تاريخ البلاد وأهلها كالحرب العراقية الإيرانية وتبعاتها وتأثيراتها على المجتمع والاقتصاد، والخروج منها إلى حرب أخرى، وكأن ساسة هذه البلاد يؤثرون خوض الحروب ولو كان الشعب هو من يدفع الثمن، وهو ما انعكس سرداً في التحوّلات التي طالت "متحف السلام" برمزياته ودلالاته، بعد اعتقال صاحبه، وصولاً إلى ما بعد الاحتلال الأميركي لبغداد وسقوط نظام صدام حسين، حيث انتشرت المليشيات المسلحة والانفجارات التي أصبحت عادة يومية في بغداد، التي بات كل من يود اغتصابها يدّعي حمايتها، دون أن يتجاهل العام 2003، بصفته بوابة كبيرة نحو عراق جديد.
"كان العم خليل يقول، كلّما لمّ الصور من حبل الغسيل وأرّخها على القفا باليوم والشهر والسنة، إننا لا نلتقط الصور بل ندوّن التاريخ.. لكن، ماذا أدوّن لو خرجت الآن يا عم؟ وبأي عدسة وقحة أصوّر ما يجري على أبواب المتاحف والمدارس والدوائر الحكومية؟ هل أكتب خلف صورة مراهق فرحٍ بتهشيم مقعد دراسي: ثائر؟ أم على ذلك الرجل الناهب لمكيّف من أحد المشافي: مواطن يسترد حقّه؟ ماذا أفعل بصور الحارقين للسجل المدني؟ وأولئك المتحلقين حول جندي المارينز من أجل مجلة خلاعيّة؟ والمنتشين بتهشيم حجارة صمّاء؟ هب أني تجرّأت على تصوير كل هذا القرف، أنّى لي بكاميرا تطيق عار صمت الأرض أمام مجندة غازية تبول عليها وقوفاً، وتأمر أهلها بلغة غريبة: (كَو.. كَو.. كَو)".
ويتواصل سرد "القرف" وصولاً إلى ذلك البلطجي والقاتل والسارق "طاهر الحنش"، قائد واحدة من المليشيات المسلحة التي تعيث في المدينة خراباً، وإلى سقوط "الموصل"، ووشم حجارة عددٍ من منازلها بحرف "النون" للتدليل على كونهم "نصارى" كما يلقّبونهم حكّام المدينة الجدد، ومن ثم الثورة المضادة لذلك "الحنش" وعصابته، ما دفع بكمال لتوثيق إطلاق المليشيات المسلحة النار عليهم وتفريقهم بقنابل الغاز، بل واختطاف الفتيات منهم، وهي الصور التي كانت كفيلة، إثر وشاية، أن يُصاب بثلاث رصاصات أرادها المسلحون قاتلة، بعد أن اختطفوا كاميرته.
في بلاد العجائب، عِراقُهُ التي عاشها، وبسردية تأرجحت ما بين التوثيق بلغة آسرة، والسخرية حد البكاء، والكوميديا الموجعة، يصرّ "كمال" كما أزهر جرجيس، على أن "طعم الأرنب مرّ"، وعلى ضرورة التخلص من "حجر السعادة" المُفترض، ليتخلص من هشاشته كما البلاد، فقد "حان وقت الحساب"!

صحيفة الأيام/ فلسطين/ العدد٢٠٢٣/٣/١٤


back to top