حجر السعادة حجر السعادة discussion


1 view
حسن النواب / صحيفة الزمان / لندن

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Azher (new)

Azher Jirjees حجر السعادة

حسن النواب

أوَّل‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬أزهر‭ ‬جريس‭ ‬هو‭ ‬اختياره‭ ‬الذكي‭ ‬لعنوان‭ ‬روايته؛‭ ‬إذْ‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ “‬حجر‭ ‬السعادة‭”‬؛‭ ‬لقد‭ ‬استعان‭ ‬بالموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬العراقي‭ ‬ليضعهُ‭ ‬عتبة‭ ‬دخول‭ ‬إلى‭ ‬الرواية،‭ ‬وحجر‭ ‬السعادة‭ ‬للذي‭ ‬يجهله‭ ‬هو‭ ‬تعويذة‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬العراقيين‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬أثرياء‭ ‬أو‭ ‬فقراء،‭ ‬مؤمنين‭ ‬أو‭ ‬ملحدين؛‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬منزل‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬فيه‭ ‬تلك‭ “‬التعويذة‭” ‬إلاَّ‭ ‬ما‭ ‬ندر،‭ ‬بعضهم‭ ‬يطلقُ‭ ‬عليها‭ “‬أم‭ ‬سبع‭ ‬عيون‭”‬،‭ ‬وهي‭ ‬حجر‭ ‬أزرق‭ ‬طالما‭ ‬نراها‭ ‬معلَّقة‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬البيوت‭ ‬وجدران‭ ‬حجرات‭ ‬الضيوف،‭ ‬أو‭ ‬تتدلَّى‭ ‬من‭ ‬جِيد‭ ‬وحجاب‭ ‬امرأة؛‭ ‬وملتصقة‭ ‬بلبانٍ‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬طفل،‭ ‬لدرء‭ ‬الحسد‭ ‬والشر‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬الناس‭. ‬كأنَّ‭ ‬أزهر‭ ‬جرجيس‭ ‬سعى‭ ‬بهذا‭ ‬العنوان‭ ‬الأنيق‭ ‬لطرد‭ ‬عيون‭ ‬الحاقدين‭ ‬والفاشلين‭ ‬أدبياً‭ ‬عن‭ ‬روايته‭ ‬الرصينة؛‭ ‬ونجيزُ‭ ‬له‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار؛‭ ‬ذلك‭ ‬أنَّ‭ ‬القارئ‭ ‬الفطين‭ ‬يجد‭ ‬نفسهُ‭ ‬منصاعاً‭ ‬كالمسحور‭ ‬لمواصلة‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬أحداثها‭ ‬المثيرة‭ ‬والموجعة‭ ‬التي‭ ‬تدع‭ ‬الدمع‭ ‬يتلألأ‭ ‬في‭ ‬العيون،‭ ‬ولذا‭ ‬ليس‭ ‬عجبًا‭ ‬من‭ ‬وصولها‭ ‬إلى‭ ‬القائمة‭ ‬الطويلة‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬اختيارها‭ ‬عن‭ ‬جدارةٍ‭ ‬في‭ ‬القائمة‭ ‬القصيرة‭. ‬ثمَّة‭ ‬من‭ ‬يتساءل‭ ‬الآن‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬التعويذة‭ ‬الزرقاء‭ ‬والتي‭ ‬جعلها‭ ‬عنوان‭ ‬روايته‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬منحتْ‭ ‬الرواية‭ ‬هذا‭ ‬التألق‭ ‬والانتشار،‭ ‬سيكون‭ ‬الجواب‭ ‬ساذجًا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬بالإيجاب؛‭ ‬لولا‭ ‬شفافية‭ ‬السرد‭ ‬وبراعة‭ ‬التهكم‭ ‬والتشبيه‭ ‬الذي‭ ‬حفلت‭ ‬به‭ ‬صفحات‭ ‬الرواية،‭ ‬فهو‭ ‬يفاجئ‭ ‬القارئ‭ ‬بتوصيفات‭ ‬لا‭ ‬تخطر‭ ‬على‭ ‬بال،‭ ‬تشبيهات‭ ‬تبرهن‭ ‬على‭ ‬سعة‭ ‬خياله‭ ‬السردي‭ ‬وطرافته‭ ‬المبطَّنة‭ ‬بالأسى،‭ ‬وهناك‭ ‬أمثلة‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬تعد‭ ‬ولا‭ ‬تُحصى‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التفرَّد‭ ‬الذي‭ ‬يمتاز‭ ‬به‭ ‬الروائي‭ ‬أزهر‭ ‬جرجيس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬اخترتُ‭ ‬منها‭ ‬ثلاثة‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬التعيين،‭ ‬فهو‭ ‬يكتب‭: ‬كنتُ‭ ‬أظن‭ ‬بأني‭ ‬سأحظى‭ ‬بموتٍ‭ ‬هادئ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تموء‭ ‬لأجلي‭ ‬قطة؛‭ ‬أو‭ ‬كلماته‭ ‬القاسية‭ ‬هذه‭: ‬حياتي‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬ظننتها‭ ‬أتفه‭ ‬من‭ ‬رماد‭ ‬السجائر،‭ ‬وهذا‭ ‬التشبيه‭ ‬الباهر‭: ‬ولأني‭ ‬أحوز‭ ‬من‭ ‬النحس‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لإحراق‭ ‬قشة‭ ‬تطفو‭ ‬فوق‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ماطر‭. ‬أزهر‭ ‬جرجيس‭ ‬يمتلك‭ ‬قدرة‭ ‬هائلة‭ ‬على‭ ‬وخز‭ ‬حبَّة‭ ‬قلب‭ ‬القارئ‭ ‬واستدراجه‭ ‬إلى‭ ‬مملكته‭ ‬السردية‭ ‬بكلمات‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬وقليلة؛‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية‭ ‬الذي‭ ‬منحها‭ ‬زخمًا‭ ‬شعبيًا‭ ‬وطُعماً‭ ‬مغرياً‭ ‬يجذب‭ ‬القارئ‭ ‬لاقتنائها‭. ‬وخشية‭ ‬من‭ ‬تلاشي‭ ‬العنوان‭ ‬من‭ ‬ذهن‭ ‬القارئ،‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬استرجاعه‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬السرد‭ ‬وفق‭ ‬ظروف‭ ‬حرجة‭ ‬اجتمع‭ ‬فيها‭ ‬الهلع‭ ‬والأسى‭ ‬والحرمان‭ ‬والجوع‭ ‬والخوف‭ ‬والتشرّد،‭ ‬كانت‭ ‬تواجه‭ ‬الطفل‭ ‬كمال،‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬العصيبة‭ ‬التي‭ ‬أرغمت‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬التعاطف‭ ‬معه‭ ‬وهو‭ ‬بعمر‭ ‬الطفولة‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬كهلاً‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬المزمنة‭. ‬ثاني‭ ‬مواصفات‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬الممتعة‭ ‬هو‭ ‬نمط‭ ‬السرد‭ ‬التلقائي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬متوائماً‭ ‬مع‭ ‬ذهنية‭ ‬وبراءة‭ ‬بطل‭ ‬الرواية،‭ ‬فمنح‭ ‬القارئ‭ ‬فسحة‭ ‬تأمل‭ ‬واسعة‭ ‬واسترخاءً‭ ‬لذيذاً‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬السطور‭ ‬برغم‭ ‬نكبات‭ ‬الطفل‭ ‬كمال‭ ‬وحياته‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬من‭ ‬أبيه‭ ‬وزوجته‭ ‬اللئيمة‭. ‬تشعر‭ ‬كأنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬هو‭ ‬أنت،‭ ‬سواء‭ ‬عشت‭ ‬طفولة‭ ‬رغيدة‭ ‬أو‭ ‬عنيفة‭. ‬وتلك‭ ‬مقدرة‭ ‬استثنائية‭ ‬واستقراء‭ ‬حساس‭ ‬وعميق‭ ‬لسبر‭ ‬أغوار‭ ‬الطفولة‭ ‬لا‭ ‬تتوفَّر‭ ‬إلاَّ‭ ‬عند‭ ‬الساردين‭ ‬النادرين‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنَّ‭ ‬الرواية‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬300‭ ‬صفحة؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬القارئ‭ ‬لا‭ ‬يداهمهُ‭ ‬السأم‭ ‬مطلقاً،‭ ‬نتيجة‭ ‬توفر‭ ‬عناصر‭ ‬التشويق‭ ‬وصفاء‭ ‬وشفافية‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬الأحداث،‭ ‬لقد‭ ‬انزلقت‭ ‬دمعة‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬مضغ‭ ‬الطفل‭ ‬إلى‭ ‬التبن‭ ‬في‭ ‬خان‭ ‬الرحمة‭ ‬بسبب‭ ‬الجوع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحاصره‭ ‬في‭ ‬تشرَّده‭ ‬غريباً‭ ‬في‭ ‬أزقة‭ ‬العاصمة‭ ‬الموبوءة‭ ‬بالمخاطر‭. ‬ناهيك‭ ‬على‭ ‬مقدرة‭ ‬الروائي‭ ‬بصناعة‭ ‬وشائج‭ ‬مقنعة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬وقائع‭ ‬الرواية؛‭ ‬برغم‭ ‬عمرها‭ ‬الزمني‭ ‬الذي‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬عاماً،‭ ‬لم‭ ‬تشعر‭ ‬بذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الطويل‭ ‬نتيجة‭ ‬لهاثك‭ ‬المتواصل‭ ‬خلف‭ ‬نكبات‭ ‬الطفل‭ ‬كمال‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تطارده‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬خطوة‭ ‬وكل‭ ‬شهقة‭ ‬يطلقها‭. ‬حجر‭ ‬السعادة‭ ‬رواية‭ ‬تستحق‭ ‬الثناء،‭ ‬فهي‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الهفوات‭ ‬ومتماسكة‭ ‬بسردها‭ ‬المدروس‭ ‬من‭ ‬صفحتها‭ ‬الأولى‭ ‬حتى‭ ‬الأخيرة؛‭ ‬رواية‭ ‬تشعُّ‭ ‬بريقاً‭ ‬يخطفُ‭ ‬الأبصار‭ ‬مثل‭ ‬سبيكة‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬بئر‭ ‬مظلم‭ ‬اسمه‭ ‬الوطن‭.‬

صحيفة الزمان/ العدد٢٠٢٣/٤/٣٠


back to top