مُراجعة طويلة جدًا ، لرواية بديعة جدًا __ الكيتش ببساطة هو كلمة ألمانية تعني المُحاكاة الهابطة لشيء أصيل، كل شيء حقيقي يصنع مُحاولات لا تٌحصى لتقليده، أول مرة قرأت المصطلح كان في كتاب «المٌبتسرون» الذي تروي فيه «أروى صالح» تجربتها التراجيدية كناشطة يسارية في السبعينيات، تُحذرك أروى أن التقليد لكل ماهو أصيل شيء طبيعي لكن المأساة تأتي عندما لا تعرف الفرق ، عندما يظن المرء أنه يُمارس أصالة ما بينما هو الكيتش والزيف بعينه، المأساة هي الوفاق التام مع الذات الذي يجعل المرء يُقامر بوجوده في لحظة وهو يظن أنه ينتمي لحق وحقيقة بينما هو يُطارد النسخة المُقلدة. هذا ما يحول الكيتش لفكرة مُرعبة ، وهذا مُبتدأ رواية «بار ليالينا» «فهناك سؤال لم تحسم البشرية إجابته، بشأن تلك الحكاية عن الرجل الوقور المُهاب الذي كان سائرًا في طريقه، ثم إنزلقت قدماه بسبب قشرة موز، فاختل توازنه وسقط في بركة من وحل أمام جمع غفير، أتُعد تلك الحكاية ملهاة أم مأساة؟»(بار ليالينا) يلتقط الفخراني ذلك التشابه المُرعب بين مسيرة الناجح ومسيرة المُهرج ، فالشخص الأصيل في بحثه عن حقيقته لابد له من التعثُر ألف مرة قبل أن يصل لمُراده، وبوصوله يصير كل تعثر سابق وسام شرف يجعل الحكاية أكثر ملحمية عندما يعيد سردها من البداية، بتعديل طفيف لو لم يصل المرء لمُراده ولم يجد حقيقته التي يبحث عنها ،تصير مفردات الحكاية ذاتها مهزلة مُهرج لم يكف عن التعثر قبل أن يصل لسقوطه التام . الرُعب أن المصير النهائي مخفي، عليك خوض الرحلة وفي قلبك قلق أن تنظر في مرآة النهاية لتجد نفسك البطل الأصيل أو الكيتش الهزلي. ذات مرة جلست لمشاهدة فيلم رعب أمريكي، توحدت مع مخاوف البطلة رغم وجود بعض الإبتذال في الأداء وبعد نصف ساعة أدركت أنني أُشاهد بارودي أو فيلم كوميدي يسخر من تيمات أفلام الرعب، ضحكت للمُفارقة وإحمررت خجلًا أنني لبُرهة من الزمن إنخدعت وتواصلت بصدق مع ملهاة عابثة ترتدي وجه مأساة مُخيفة . تدور تلك الرواية حول نوح الرحيمي الكومبارس الذي يأمل أن يصير بطلًا، الذي يملك قدرة هائلة على الإيمان واليقين دون حقيقة واحدة تؤيد إيمانه في الواقع، نبي مُستعد للتضحية لكن روحه عقيمة لم يمسها الوحي أبدًا ، يحبسنا أحمد الفخراني بذكاء مع رجل أحمق لا يعرف بعد أنه كذلك، تراجيديا مُمثل كوميدي في بارودي رديء يظن نفسه يؤدي ملحمة أوبرالية ومنبع التراجيديا هنا أن أحدًا لم يخبره عن الجونرة التي تتسيد التمثيلية التي يؤديها. ___ «إن المثقفين المهزومين يعشقون تحطيم الاصنام من كل نوع : ناجحون، مشهورون، مبدعون، يحبون ذلك إلى حد أن العجز عنه في حالة من الحالات ( ولتكن عملًا فنيًا لا مأخذ عليه ) يصيبهم بالإحباط، إن البرهنة على أن ( الكل باطل ) احتياج لا ينتهي عندهم، يكفي أن تكون كاتبا، أو أن يتم تعميدك بهذه الصفة، لتحظى بمكانة مرموقة، تُصبح قيمة بذاتها تمارس إرهابا على الآخرين الذين لا يحق لهم أن يحكموا على ما تكتب، بل عليهم أن يشتغلوا مفسرين له»(المبتسرون) كان كتاب المٌبتسرون مانيفستو وجهته أروى صالح للإنتلجنسيا أو النُخبة اليسارية التي إنتمت لها، لإن النُخبة في أي مٌجتمع تملك حقين حق خلق الجمال والإبداع ومنحه صفة الأصالة حق إدانة أي محاولة أخرى للخلق ومنحها صفة الكيتش. لهذا كان أبطال رواية الفخراني بجوار نوح هم الإنتلجنسيا المثقفة التي تستقر في بار ليالينا ، يُدرك نوح جيدًا أن تلك النُخبة وحدها هي من يُمكن أن تمنحه الشرعية والإعتراف أنه مُمثل بارع أو تمنحه الحرمان ، تلك الجهة التي يُمكنها منح تعثراته و مسعاه معنى ، إما معنى الملحمة أو المهزلة تفطن «أروى صالح» بذكاء حزين أن نٌخبة جيلها لم يكونوا حكم عادل في تحديد الأصيل من الكيتش لإنهم كانوا هم أنفسهم مزيفين ، كانوا يعتنقوا النضال السياسي لإنه المقعد الأكثر ذكاء ، المقعد الذي يُمكن عبره مٌمارسة لذة المحو و الإزدراء لكل مخالف ، منح أوسمة الأصالة لأحدهم و مشانق الكيتش للآخر . لهذا هم يحتاجون بشدة لمن يمكن وصفه بالأحمق ، أو الرجل الصغير ، أو عديم الموهبة و النضال ، شخص يُمكن أن يحافظوا عبر توجيه أصابعهم نحوه على تراتبيتهم ، هم بالأعلى ، هو بالأسفل. «المقعد الوحيد الذي ينقص بارًا يضم أذكياء ، هو مقعد الرجل الأكثر حماقة في البار، رجل صغير يرون في مرآته أنفسهم كرجال كُبار»(بار ليالينا) يُدرك نوح بإقترابه من النُخبة أنهم مثله ، حمقى عديمي الموهبة لكنهم أكثر فهمًا لجوهر اللعبة ، محاكاة الآراء التقدمية ، رفع سقفها إلى إمتيازات أخلاقية، تقليد العلامات والإيماءات، وأهمها القوة الغامضة للمحو و الإزدراء وتوجيهها بفجاجة إلى كل شيء . «لذلك حين خرجنا للحياة أخيرًا، كان الحطام بالجملة مثل مومياوات اُخرجت للشمس فجأة فتهاوت ترابًا»(المبتسرون) تكره أروى صالح النُخبة اليسارية لإنها خدعتها ، هي آمنت بالكلمات و هم إستخدموها لصالحهم ، هي آمنت بها كأداة للحرية و لمجتمع عادل و هم إستخدموها لشراء الذكاء و قتل كل إمكانية كانت مُتاحة لحلم التغيير في سبيل الإيجو خاصتهم ، هي قفزت في مخاطرة مطاردة الحلم بحثًا عن أصالة و كان سقوطها مُدويًا عندما أدركت أنها قفزت نحو كيتش عملاق أبطاله ليسوا بنبل إيكاروس و هو يقفز للشمس فتذوب أجنحته ، بل مومياوات تختبيء في مقاهي النضال من الواقع ، ما إن مستهم الشمس حتى تهاووا تُرابًا . أدرك الفخراني بذكاء جوهر تلك النُخب وعبر عنه في كلمات كبيرهم «يسري الحلو» الذي يُسقط حقيقته والكيتش خاصته على نوح : «تأمل بأسى مصير الكلمات إذ تقع في قبضة المُهرجين، الذين ظنوا أنهم قد يتمكنون عبر المُحاكاة العمياء من حوز المعنى فيما كل ما ينجحون في فعله ، هو تحريفها وتخريبها وتحويلها من أداة للحرية لأداة للقتل» رغم أن القصة بأكملها تدور حول «نوح الرحيمي» لكنها تحمل رُعب مجتمع تكون نخبته التي تُلهمنا البحث عن كل أصيل هي في ذاتها كيتش ، فالسلطة يمكنها مُصادرة الحرية لكن أن تكون النخبة كيتش فهذا يعني مُصادرة منبع المعنى ذاته ، لإن حُراس المعنى ليسوا إلا مُهرجين يحلبوا منه كلمات تجعلهم أكثر ذكاءًا دون تقديم أي فعل للواقع ، يشبه المثقف وقتها تقريع المسيح لكهنة الفريسيين الذين أغلقوا باب الحكمة فلا دخلوا و لا تركوا أحد يدخل لإنهم أدانوا الجميع بلذة مالك المعنى في حضرة الجهلاء . أو كما قالت أروى صالح: «ليس هناك من هو أخطر من البرجوازي الصغير، المتعلم، الخجول، الشريف، الأخلاقي إلى حد التطهر، بالذات لو قرر أن يتدخل ليعدل "مسار التاريخ» يصل نوح لهذا التيه المُرعب ، يُمكنه أن يكون بلا موهبة لكن أن تكون النخبة كذلك فهذا يجعل المُجتمع كصور المرآة كلها تمنحك صور مزيفة لكن لا توجد حقيقة واحدة أو أصل فيقول نوح : «فلو لم تكن كلماتكم هي الحقيقة، فما الحقيقة إذن ، إن كان ما عرفته قبلكم زيفًا ، وإن كان ما فهمته عنكم أيضًا محض زيف، فأين أضع قدمي ؟ لم يعد لدي طريق سوى الإنتحار أو الجنون» __ يُشبه كتاب المُبتسرون ( مرآة الحقيقة ) الفانتازيا التي قدمها الفخراني كمُعادل موضوعي لمُصارحة الذات نفسها بخوائها ، رأت أروى صالح في شهادتها قدر الخواء الكامل الذي ضحت لأجله بحياتها ، مثلما إشترى نوح مرآة سحرية يرى فيها المرء قدر خواءه بمُتابعة صور ذاته من الميلاد وحتى لحظته الراهنة ، يصير هذا سؤال الرواية الحقيقي:- {ماذا يفعل المرء لو رأى نفسه كذات خاوية ميتة لم تُحقق شيء ؟ ماذا يفعل المرء في مواجهة خواءه؟} تأتي اللحظة التي يُدرك فيها نوح أنه كومبارس و أن تعثره ليس ملحميًا بل ضاحكًا وأنه كيتش مٌهرج وليس بطل أصيل، وتُدرك «أروى صالح» أنها تم التغرير بصدقها ونضالها لصالح نُخبة مومياوات إمتصوا شبابها وعمرها، يقف كليهما نوح و أروى على حافة مبنى شاهق تُخبرنا أروى أن الكيتش دائرة ملؤها الجنون و بذلك تكون النجاة في كسر الدائرة، في صيف 1997 ستُلقي أروى نفسها من الدور العاشر، في قفزة أخيرة نحو الشمس. يضع الفخراني بطله على سطح مبنى شاهق في موقف مشابه ، لكن نوح يخاف أن يقتل نفسه ، مثلما خاف أن يتتبع همس المرآة و هي تحاول إبتلاع ذاته الخاوية بعدما رأى نفسه على حقيقتها سيستبدل نوح رغبته في الأصالة برغبته في الإنتماء سيحاول أن ينتمي للنُخبة ولو لعب دور الأحمق الذي يُمارسوا عليه مكانتهم سيبيع روحه مثل رواية فاوست بعدما رأى خواءها في سبيل شراء الذكاء وهذا المفصل الذي ستتجه معه الرواية لمُغادرة الأصالة نحو كيتش كامل ___ يرى نيتشة أن العالم يحوي رجال أقوياء يُحققوا بإرادتهم الواقع و ضُعفاء لا يقووا على ذلك ، لهذا صنع الضعفاء الأخلاق وقواعد اللياقة والرحمة، كمكابح تُعطل الأقوياء وتبتزهم بالذنب لكيلا يُحاولوا الوصول لقوتهم كاملة . يرى نيتشة أن هذا ذكاء لكنه ذكاء خسيس . يعطل أي فاعلية مٌمكنة في هذا العالم. تدور تلك الرواية حول ذكاء مُشابه في خسته ، تلك رواية لا تحوي رجل واحد حقيقي ، يُمكنك أن تكون مثل الفيلسوف «ديوجين» الذي خرج بمصباحه المضيء في وضح النهار يبحث عن رجل حقيقي ولا يجده ، لن تجد روح واحدة أصيلة في تلك الرواية ، بل ضعفاء أنصاف موهوبين أدركوا موقعهم من اللعبة ، لم ينالوا من المعنى غير الكلمات ، و من سُلطته غير مُحاكمة الحمقى . يستحق نوح الرحيمي نبوة الكيتش العملاق ذاك لأنه الوحيد الذي آمن ، آمن بنفسه أولًا ، و لما أدرك خواءها آمن بالنُخبة و لما خدعته بعُنف و سلمته لبارودي مٌضحك إنتهى بسقوطه في مجاري خرائية عاد نوح ليكون مصداق المثل القائل {الطفل الذي تطرده قبيلته سيعود يومًا ليحرقها ليستدفيء بها } ___ ما الذي يجعل بار ليالينا رواية جيدة؟ المُخاطرة كيف يُمكنك صنع رواية أصيلة من شخوص كلهم كيتش ، مٌزيفون ؟ كيف تصنع من كيتش عملاق إبداع حقيقي؟ يٌشبه ذلك أن تحاول صنع معنى صادق من بُنيان أكاذيب هشة. الرواية ديكورها كيتش عملاق بدءًا من أسماء الفصول التي تستعير أسماء أفلام قديمة بعضها مُحاكاة كيتشية لروايات أجنبية أو ميلودراما عُري و مقاولات و كيتش لحبكات مُبالغ فيها ، وصولًا لوردة المطربة التي يُعاد تدوير أصالتها في تلك الرواية لتصير رمز جنسي لرجل مسكين تاه عن لياليه القديمة التي كان فيها أصيلًا يبحث عن حلم . وفي النهاية قصة عودة ميلودرامية و إنتقام بارودي مُبالغ في رمزيته ولامنطقيته يليق برواية بطلها نبي للكيتش . الرواية هي بارودي عملاق عن قصة الصدق و الطوفان ، فبينما النبي نوح يفر مع قلة من قومه لم يملكوا سوى صدق إيمانهم ، نجد نوح الرحيمي يصنع طوفانًا خرائيًا ليُغرق فيه الأنبياء الكاذبين الذين إتبعهم عسى أن يملأ الطوفان شقوق نفسه . مثل إله يوناني غاضب . خذله العالم الذي صنعه هو بالأساس هل صار نوح سعيدًا؟ هل إمتلأ خواؤه ؟ لا نعلم . هل كان يجب عليه أن يقبل خواءه ؟ أو يفر بصدق إيمانه من العالم مثل أروى صالح؟ يحتاج ذلك شجاعة نبيلة لا يملكها نوح الذي هاجسه رغبة خاوي في الإمتلاء بالعالم ، هذا ما جعله يحب السينما بالأساس أنها تمنحه الإمتلاء بالعالم و الحلول في كل شيء لكن هل يُمكن أن يصنع الكيتش و الكاذبين حكاية جيدة؟ العزاء الوحيد الذي يُمكن أن تقدمه تلك المقومات أصلًا هو حكاية جيدة أو كما يقول الفخراني « أليست الحكايات ، كل الحكايات هي عزاء طويل لفشل الإنسانية المُمتد والعميق؟» يُجيد أحمد الفخراني لعبة السهل المُمتنع، البدء برجل مهزوم مثل هارون في رواية إخضاع الكلب أو أحمق حالم مثل نوح في بار ليالينا ، رجل شديد العادية في حبكة شديدة البساطة ، من تلك المقدمات البسيطة يُمكنه صنع مُساءلة عملاقة للوجود و المعنى ، مثلما أمنحك ورقة بيضاء تصنع منها أوريجامي تنين ينفث نيرانه في مدينة كاملة . تذكر أن أول رواية في التاريخ الحديث ، هي دون كيشوت ، رجل أحمق موهوم لا يدري أنه كذلك ، يمثل كيتش حالم يحاول أن يحاكي برداءة الفرسان لكنه لا يستطيع ، و في مرحلة من القصة يواجهه الأبطال بمرايا عملاقة ليرى نفسه و عجزه ووهمه ، يختلف نوح وبار ليالينا عن دون كيشوت أن المجتمع الحالي لن يهديك أبدًا مرايا الحقيقة ، لإن لا أحد يحب الإفاقة من الكيتش ، بل الأغلب توقفوا عن محاولة توليد المعنى و إختاروا السير في مسيرة كيتش عملاقة لا يطمأن فيها أحدهم لصدق المعنى الذي يحمله بل بإيجاد شخص أكثر حماقة منه ، شخص يُطمئننا أننا أعلى مرتبة ولو درجة بسيطة من السقوط في الخراء الكامل رواية بديعة وتستحق العلامة الكاملة
__
الكيتش ببساطة هو كلمة ألمانية تعني المُحاكاة الهابطة لشيء أصيل، كل شيء حقيقي يصنع مُحاولات لا تٌحصى لتقليده، أول مرة قرأت المصطلح كان في كتاب «المٌبتسرون» الذي تروي فيه «أروى صالح» تجربتها التراجيدية كناشطة يسارية في السبعينيات، تُحذرك أروى أن التقليد لكل ماهو أصيل شيء طبيعي لكن المأساة تأتي عندما لا تعرف الفرق ، عندما يظن المرء أنه يُمارس أصالة ما بينما هو الكيتش والزيف بعينه، المأساة هي الوفاق التام مع الذات الذي يجعل المرء يُقامر بوجوده في لحظة وهو يظن أنه ينتمي لحق وحقيقة بينما هو يُطارد النسخة المُقلدة. هذا ما يحول الكيتش لفكرة مُرعبة ، وهذا مُبتدأ رواية «بار ليالينا»
«فهناك سؤال لم تحسم البشرية إجابته، بشأن تلك الحكاية عن الرجل الوقور المُهاب الذي كان سائرًا في طريقه، ثم إنزلقت قدماه بسبب قشرة موز، فاختل توازنه وسقط في بركة من وحل أمام جمع غفير، أتُعد تلك الحكاية ملهاة أم مأساة؟»(بار ليالينا)
يلتقط الفخراني ذلك التشابه المُرعب بين مسيرة الناجح ومسيرة المُهرج ، فالشخص الأصيل في بحثه عن حقيقته لابد له من التعثُر ألف مرة قبل أن يصل لمُراده، وبوصوله يصير كل تعثر سابق وسام شرف يجعل الحكاية أكثر ملحمية عندما يعيد سردها من البداية، بتعديل طفيف لو لم يصل المرء لمُراده ولم يجد حقيقته التي يبحث عنها ،تصير مفردات الحكاية ذاتها مهزلة مُهرج لم يكف عن التعثر قبل أن يصل لسقوطه التام . الرُعب أن المصير النهائي مخفي، عليك خوض الرحلة وفي قلبك قلق أن تنظر في مرآة النهاية لتجد نفسك البطل الأصيل أو الكيتش الهزلي.
ذات مرة جلست لمشاهدة فيلم رعب أمريكي، توحدت مع مخاوف البطلة رغم وجود بعض الإبتذال في الأداء وبعد نصف ساعة أدركت أنني أُشاهد بارودي أو فيلم كوميدي يسخر من تيمات أفلام الرعب، ضحكت للمُفارقة وإحمررت خجلًا أنني لبُرهة من الزمن إنخدعت وتواصلت بصدق مع ملهاة عابثة ترتدي وجه مأساة مُخيفة .
تدور تلك الرواية حول نوح الرحيمي الكومبارس الذي يأمل أن يصير بطلًا، الذي يملك قدرة هائلة على الإيمان واليقين دون حقيقة واحدة تؤيد إيمانه في الواقع، نبي مُستعد للتضحية لكن روحه عقيمة لم يمسها الوحي أبدًا ، يحبسنا أحمد الفخراني بذكاء مع رجل أحمق لا يعرف بعد أنه كذلك، تراجيديا مُمثل كوميدي في بارودي رديء يظن نفسه يؤدي ملحمة أوبرالية ومنبع التراجيديا هنا أن أحدًا لم يخبره عن الجونرة التي تتسيد التمثيلية التي يؤديها.
___
«إن المثقفين المهزومين يعشقون تحطيم الاصنام من كل نوع : ناجحون، مشهورون، مبدعون، يحبون ذلك إلى حد أن العجز عنه في حالة من الحالات ( ولتكن عملًا فنيًا لا مأخذ عليه ) يصيبهم بالإحباط، إن البرهنة على أن ( الكل باطل ) احتياج لا ينتهي عندهم، يكفي أن تكون كاتبا، أو أن يتم تعميدك بهذه الصفة، لتحظى بمكانة مرموقة، تُصبح قيمة بذاتها تمارس إرهابا على الآخرين الذين لا يحق لهم أن يحكموا على ما تكتب، بل عليهم أن يشتغلوا مفسرين له»(المبتسرون)
كان كتاب المٌبتسرون مانيفستو وجهته أروى صالح للإنتلجنسيا أو النُخبة اليسارية التي إنتمت لها، لإن النُخبة في أي مٌجتمع تملك حقين
حق خلق الجمال والإبداع ومنحه صفة الأصالة
حق إدانة أي محاولة أخرى للخلق ومنحها صفة الكيتش.
لهذا كان أبطال رواية الفخراني بجوار نوح هم الإنتلجنسيا المثقفة التي تستقر في بار ليالينا ، يُدرك نوح جيدًا أن تلك النُخبة وحدها هي من يُمكن أن تمنحه الشرعية والإعتراف أنه مُمثل بارع أو تمنحه الحرمان ، تلك الجهة التي يُمكنها منح تعثراته و مسعاه معنى ، إما معنى الملحمة أو المهزلة
تفطن «أروى صالح» بذكاء حزين أن نٌخبة جيلها لم يكونوا حكم عادل في تحديد الأصيل من الكيتش لإنهم كانوا هم أنفسهم مزيفين ، كانوا يعتنقوا النضال السياسي لإنه المقعد الأكثر ذكاء ، المقعد الذي يُمكن عبره مٌمارسة لذة المحو و الإزدراء لكل مخالف ، منح أوسمة الأصالة لأحدهم و مشانق الكيتش للآخر . لهذا هم يحتاجون بشدة لمن يمكن وصفه بالأحمق ، أو الرجل الصغير ، أو عديم الموهبة و النضال ، شخص يُمكن أن يحافظوا عبر توجيه أصابعهم نحوه على تراتبيتهم ، هم بالأعلى ، هو بالأسفل.
«المقعد الوحيد الذي ينقص بارًا يضم أذكياء ، هو مقعد الرجل الأكثر حماقة في البار، رجل صغير يرون في مرآته أنفسهم كرجال كُبار»(بار ليالينا)
يُدرك نوح بإقترابه من النُخبة أنهم مثله ، حمقى عديمي الموهبة لكنهم أكثر فهمًا لجوهر اللعبة ، محاكاة الآراء التقدمية ، رفع سقفها إلى إمتيازات أخلاقية، تقليد العلامات والإيماءات، وأهمها القوة الغامضة للمحو و الإزدراء وتوجيهها بفجاجة إلى كل شيء .
«لذلك حين خرجنا للحياة أخيرًا، كان الحطام بالجملة مثل مومياوات اُخرجت للشمس فجأة فتهاوت ترابًا»(المبتسرون)
تكره أروى صالح النُخبة اليسارية لإنها خدعتها ، هي آمنت بالكلمات و هم إستخدموها لصالحهم ، هي آمنت بها كأداة للحرية و لمجتمع عادل و هم إستخدموها لشراء الذكاء و قتل كل إمكانية كانت مُتاحة لحلم التغيير في سبيل الإيجو خاصتهم ، هي قفزت في مخاطرة مطاردة الحلم بحثًا عن أصالة و كان سقوطها مُدويًا عندما أدركت أنها قفزت نحو كيتش عملاق أبطاله ليسوا بنبل إيكاروس و هو يقفز للشمس فتذوب أجنحته ، بل مومياوات تختبيء في مقاهي النضال من الواقع ، ما إن مستهم الشمس حتى تهاووا تُرابًا .
أدرك الفخراني بذكاء جوهر تلك النُخب وعبر عنه في كلمات كبيرهم «يسري الحلو» الذي يُسقط حقيقته والكيتش خاصته على نوح :
«تأمل بأسى مصير الكلمات إذ تقع في قبضة المُهرجين، الذين ظنوا أنهم قد يتمكنون عبر المُحاكاة العمياء من حوز المعنى فيما كل ما ينجحون في فعله ، هو تحريفها وتخريبها وتحويلها من أداة للحرية لأداة للقتل»
رغم أن القصة بأكملها تدور حول «نوح الرحيمي» لكنها تحمل رُعب مجتمع تكون نخبته التي تُلهمنا البحث عن كل أصيل هي في ذاتها كيتش ، فالسلطة يمكنها مُصادرة الحرية لكن أن تكون النخبة كيتش فهذا يعني مُصادرة منبع المعنى ذاته ، لإن حُراس المعنى ليسوا إلا مُهرجين يحلبوا منه كلمات تجعلهم أكثر ذكاءًا دون تقديم أي فعل للواقع ، يشبه المثقف وقتها تقريع المسيح لكهنة الفريسيين الذين أغلقوا باب الحكمة فلا دخلوا و لا تركوا أحد يدخل لإنهم أدانوا الجميع بلذة مالك المعنى في حضرة الجهلاء . أو كما قالت أروى صالح:
«ليس هناك من هو أخطر من البرجوازي الصغير، المتعلم، الخجول، الشريف، الأخلاقي إلى حد التطهر، بالذات لو قرر أن يتدخل ليعدل "مسار التاريخ»
يصل نوح لهذا التيه المُرعب ، يُمكنه أن يكون بلا موهبة لكن أن تكون النخبة كذلك فهذا يجعل المُجتمع كصور المرآة كلها تمنحك صور مزيفة لكن لا توجد حقيقة واحدة أو أصل فيقول نوح :
«فلو لم تكن كلماتكم هي الحقيقة، فما الحقيقة إذن ، إن كان ما عرفته قبلكم زيفًا ، وإن كان ما فهمته عنكم أيضًا محض زيف، فأين أضع قدمي ؟ لم يعد لدي طريق سوى الإنتحار أو الجنون»
__
يُشبه كتاب المُبتسرون ( مرآة الحقيقة ) الفانتازيا التي قدمها الفخراني كمُعادل موضوعي لمُصارحة الذات نفسها بخوائها ، رأت أروى صالح في شهادتها قدر الخواء الكامل الذي ضحت لأجله بحياتها ، مثلما إشترى نوح مرآة سحرية يرى فيها المرء قدر خواءه بمُتابعة صور ذاته من الميلاد وحتى لحظته الراهنة ، يصير هذا سؤال الرواية الحقيقي:-
{ماذا يفعل المرء لو رأى نفسه كذات خاوية ميتة لم تُحقق شيء ؟ ماذا يفعل المرء في مواجهة خواءه؟}
تأتي اللحظة التي يُدرك فيها نوح أنه كومبارس و أن تعثره ليس ملحميًا بل ضاحكًا وأنه كيتش مٌهرج وليس بطل أصيل، وتُدرك «أروى صالح» أنها تم التغرير بصدقها ونضالها لصالح نُخبة مومياوات إمتصوا شبابها وعمرها، يقف كليهما نوح و أروى على حافة مبنى شاهق
تُخبرنا أروى أن الكيتش دائرة ملؤها الجنون و بذلك تكون النجاة في كسر الدائرة، في صيف 1997 ستُلقي أروى نفسها من الدور العاشر، في قفزة أخيرة نحو الشمس.
يضع الفخراني بطله على سطح مبنى شاهق في موقف مشابه ، لكن نوح يخاف أن يقتل نفسه ، مثلما خاف أن يتتبع همس المرآة و هي تحاول إبتلاع ذاته الخاوية بعدما رأى نفسه على حقيقتها
سيستبدل نوح رغبته في الأصالة برغبته في الإنتماء
سيحاول أن ينتمي للنُخبة ولو لعب دور الأحمق الذي يُمارسوا عليه مكانتهم
سيبيع روحه مثل رواية فاوست بعدما رأى خواءها في سبيل شراء الذكاء
وهذا المفصل الذي ستتجه معه الرواية لمُغادرة الأصالة نحو كيتش كامل
___
يرى نيتشة أن العالم يحوي رجال أقوياء يُحققوا بإرادتهم الواقع و ضُعفاء لا يقووا على ذلك ، لهذا صنع الضعفاء الأخلاق وقواعد اللياقة والرحمة، كمكابح تُعطل الأقوياء وتبتزهم بالذنب لكيلا يُحاولوا الوصول لقوتهم كاملة . يرى نيتشة أن هذا ذكاء لكنه ذكاء خسيس . يعطل أي فاعلية مٌمكنة في هذا العالم.
تدور تلك الرواية حول ذكاء مُشابه في خسته ، تلك رواية لا تحوي رجل واحد حقيقي ، يُمكنك أن تكون مثل الفيلسوف «ديوجين» الذي خرج بمصباحه المضيء في وضح النهار يبحث عن رجل حقيقي ولا يجده ، لن تجد روح واحدة أصيلة في تلك الرواية ، بل ضعفاء أنصاف موهوبين أدركوا موقعهم من اللعبة ، لم ينالوا من المعنى غير الكلمات ، و من سُلطته غير مُحاكمة الحمقى .
يستحق نوح الرحيمي نبوة الكيتش العملاق ذاك لأنه الوحيد الذي آمن ، آمن بنفسه أولًا ، و لما أدرك خواءها آمن بالنُخبة و لما خدعته بعُنف و سلمته لبارودي مٌضحك إنتهى بسقوطه في مجاري خرائية عاد نوح ليكون مصداق المثل القائل
{الطفل الذي تطرده قبيلته سيعود يومًا ليحرقها ليستدفيء بها }
___
ما الذي يجعل بار ليالينا رواية جيدة؟
المُخاطرة
كيف يُمكنك صنع رواية أصيلة من شخوص كلهم كيتش ، مٌزيفون ؟
كيف تصنع من كيتش عملاق إبداع حقيقي؟
يٌشبه ذلك أن تحاول صنع معنى صادق من بُنيان أكاذيب هشة.
الرواية ديكورها كيتش عملاق بدءًا من أسماء الفصول التي تستعير أسماء أفلام قديمة بعضها مُحاكاة كيتشية لروايات أجنبية أو ميلودراما عُري و مقاولات و كيتش لحبكات مُبالغ فيها ، وصولًا لوردة المطربة التي يُعاد تدوير أصالتها في تلك الرواية لتصير رمز جنسي لرجل مسكين تاه عن لياليه القديمة التي كان فيها أصيلًا يبحث عن حلم . وفي النهاية قصة عودة ميلودرامية و إنتقام بارودي مُبالغ في رمزيته ولامنطقيته يليق برواية بطلها نبي للكيتش .
الرواية هي بارودي عملاق عن قصة الصدق و الطوفان ، فبينما النبي نوح يفر مع قلة من قومه لم يملكوا سوى صدق إيمانهم ، نجد نوح الرحيمي يصنع طوفانًا خرائيًا ليُغرق فيه الأنبياء الكاذبين الذين إتبعهم عسى أن يملأ الطوفان شقوق نفسه . مثل إله يوناني غاضب . خذله العالم الذي صنعه هو بالأساس
هل صار نوح سعيدًا؟ هل إمتلأ خواؤه ؟ لا نعلم .
هل كان يجب عليه أن يقبل خواءه ؟ أو يفر بصدق إيمانه من العالم مثل أروى صالح؟
يحتاج ذلك شجاعة نبيلة لا يملكها نوح الذي هاجسه رغبة خاوي في الإمتلاء بالعالم ، هذا ما جعله يحب السينما بالأساس أنها تمنحه الإمتلاء بالعالم و الحلول في كل شيء
لكن هل يُمكن أن يصنع الكيتش و الكاذبين حكاية جيدة؟
العزاء الوحيد الذي يُمكن أن تقدمه تلك المقومات أصلًا هو حكاية جيدة أو كما يقول الفخراني
« أليست الحكايات ، كل الحكايات هي عزاء طويل لفشل الإنسانية المُمتد والعميق؟»
يُجيد أحمد الفخراني لعبة السهل المُمتنع، البدء برجل مهزوم مثل هارون في رواية إخضاع الكلب أو أحمق حالم مثل نوح في بار ليالينا ، رجل شديد العادية في حبكة شديدة البساطة ، من تلك المقدمات البسيطة يُمكنه صنع مُساءلة عملاقة للوجود و المعنى ، مثلما أمنحك ورقة بيضاء تصنع منها أوريجامي تنين ينفث نيرانه في مدينة كاملة .
تذكر أن أول رواية في التاريخ الحديث ، هي دون كيشوت ، رجل أحمق موهوم لا يدري أنه كذلك ، يمثل كيتش حالم يحاول أن يحاكي برداءة الفرسان لكنه لا يستطيع ، و في مرحلة من القصة يواجهه الأبطال بمرايا عملاقة ليرى نفسه و عجزه ووهمه ، يختلف نوح وبار ليالينا عن دون كيشوت أن المجتمع الحالي لن يهديك أبدًا مرايا الحقيقة ، لإن لا أحد يحب الإفاقة من الكيتش ، بل الأغلب توقفوا عن محاولة توليد المعنى و إختاروا السير في مسيرة كيتش عملاقة لا يطمأن فيها أحدهم لصدق المعنى الذي يحمله بل بإيجاد شخص أكثر حماقة منه ، شخص يُطمئننا أننا أعلى مرتبة ولو درجة بسيطة من السقوط في الخراء الكامل
رواية بديعة وتستحق العلامة الكاملة