آخر أيام الباشا
discussion
بجريدة القاهرة مقال للدكتور محمد سليم شوشة استاذ النقد بكلية الاداب بعنوان اخر أيام الباشا.. صراع الشرق والغرب ولغز الزرافة الأسطورة
date
newest »
newest »
all discussions on this book
|
post a new topic

في رواية آخر (أيام الباشا) للروائية المصرية رشا عدلي الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت لبنان مؤخرا 2019 والمعلن عنها ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2020 عدد من المقومات الجمالية والسمات الفنية التي تجعلها رواية مهمة وجديرة بالمنافسة القوية على البوكر، في هذه الرواية عدد من المفارقات ذات الدور الوظيفي والجمالي، والتي تكون أول ما يمس وجدان القارئ ويحرك مشاعره، ففيها تتحقق حال استثنائية وطريفة من غزو الشرق للغرب هذه المرة بدلا من المعتاد من غزو الغرب للشرق وبخاصة في العصر الحديث. الحكاية التي يقوم عليها خطاب هذه الرواية هي في ذاتها قصة طريفة ومشوقة وقد تم التعامل معها وطرحها في خطاب روائي عبر تقنيات سردية على قدر كبير من الحرفية والوعي بفن الرواية وكيفية صنع طبقات متراتبة في الزمن للحكاية الواحدة التي تمتد في عقول الشخصيات أو ذهنيات الباحثين أو الراغبين في التنقيب والتقصي عن أصل الحكاية أو تجليها الأول في الزمن. قصة الزرافة التي أهداها محمد علي والي مصر لشارل العاشر ملك فرنسا عام 1826 هي بذاتها تمثل حالا طريفة ومشوقة وتحيطها معلومات ومعارف تاريخية طريفة وتحرك ذهنية المتلقي باتجاه عدد من الأسئلة المهمة حول هذه الفترة التاريخية وتحفز على البحث التاريخي الذي يسمى بالشمولي أو غير النخبوي أو غير المنحصر في السياسة وحسب أو كما عرفه بروفيسور التاريخ في الرواية (بالتاريخ من أسفل)، أي البحث عن المطمورين والمنسيين في أروقة الزمن. قصة الزرافة التي قد تبدو هامشية أو عابرة تتحول إلى نقطة مركزية مثيرة للأسئلة ونقاط البحث والاختلاف حول تاريخ دولة محمد علي ودوره في بناء مصر الحديثة وعلاقته بابنه إبراهيم واضطرابها وفكرة أن يكون قد دس له السم ليفقد عقله وغيرها من الأمور الأخرى المهمة مثل علاقة محمد علي بالدولة العثمانية وكذلك علاقته بفرنسا ودوره في حرب اليونان وعلاقاته بأوربا عموما وغيرها من النقاط المهمة التي تحملها حكاية الزرافة الإفريقية أو تلك الهدية العجيبة التي يقدر الخطاب السردي على النفوذ عبرها إلى مسألة الاستشراق والإمبريالية الغربية على الشرق وخيراته، وشعور الإنسان الشرقي والأفريقي خاصةً بالانسحاق وبكونه تابعا أو جزءا من ممتلكات الرجل الأوربي الأبيض المتفوق عرقيا والأكثر بشرية والأنقى دما. المفارقة المركزية لخطاب هذه الرواية هي فكرة التحول في الهيمنة بأن يصبح المهيمن هذه المرة هو الشرق الذي يغزو مدينة باريس عبر حيوان غريب ويصبح أسطوريا بالنسبة لهؤلاء البشر الذين يرون الزرافة لأول مرة وتخلق حالا من الهوس بها في مدينة باريس. تصبح الزرافة بلون جلدها وشكلها وعنقها الطويل هوسا بالنسبة للناس في فرنسا فتتخذ منها الفنادق شعارا لها أو يتم اختراع قصات شعر باسم الزرافة أو تقترب من شكلها، وتخترق كذلك الملابس والجلود والشمسيات وكثير من الأشياء المصنوعة أو الأطعمة التي تتخذ من الزرافة الاسم أو الشكل أو أي تقليد لها يربطها بهذا الحيوان الغريب. هذا القصة التي تتمحور حول الهدية الغريبة تصبح نافذة يقارب منها الخطاب الروائي حال الانقسام والتناقض لدى المجتمع الفرنسي، وقدر الاختلاف والحرية والسلبيات والإيجابيات لدى باريس ومجتمعها المثقف من الأدباء والكتاب والصحفيين والمهتمين بحقوق الإنسان أو المناصرين لليونانيين ضد مذابح الأتراك ووحشيتهم. تصبح الزرافة هنا هي ملخص الفكر الأسطوري عن الشرق ورمزه في عقل الإنسان الغربي المسحور والمفتون بهذه الأسرار والغرائب، وعبرها وعبر حارسيها حسن وعطير يتحقق الغزو الرمزي والحقيقي في الوقت نفسه للغرب، فعلاقة حسن بالأرملة الفرنسية الجميلة التي رفضت الكثيرين من الفرنسين حولها هي كذلك من المكملات لهذه الهيمنة والغزو الذي يمارسه هذه المرة الشرق على الغرب ويحاول إخضاعه ولكن بطريقة مختلفة وبالمصادفة، حسن هو الرجل الذي استولى على امرأة منهم وهو الذي نشر الحقيقة ومهما كان مصيره قاسيا فهو في النهاية غازٍ حقق أهدافا وشعر بذاته وقيمته وهذا ما جسدته الرواية في إحساسه لحظة قتله وفي آخر مشهد من حياته حين شعر بقيمته وأهميته لأول مرة. وعطير كذلك انتصر عليهم وجمع ثروة وغير وضعه من العبودية إلى تاجر كبير صاحب ثروة بعد صبر وكفاح.
فكأن محمد علي باشا والي مصر في أول القرن التاسع عشر إنما بعث جيشا وليس مجرد زرافة وحارسين، فهذه التجربة/الهدية في ذاتها مثلت نقطة التقاء مهمة للمشرق بالغرب الأوربي وحوار الحضارات وتصارعها. أو كأننا هنا أمام حال حقيقية من الغزو المتبادل بين الحضارات وكيف يمكن أن يكون الغرب برغم قوته الظاهرة هو الآخر هشا ومعرضا لأن يتم اجتياحه بفكرة هينة مثل الزرافة التي هي رمز لكل غريب أو طريف، وقد كانت كذلك في هذا الوقت. فيمكن القول بشكل إجمالي إن جزءا مهما في خطاب هذه الرواية ينبع من قدر حساسيتها تجاه هذه الواقعة وتلك الأحداث التاريخية التي كشفت عن لحظة تاريخية فيها امتزاج وتداخل قوي للحضارات وصراعها، فالإحساس بهذه اللحظة التاريخية المهمة وقدر ما تختزل من إشارات حول العبودية والاحتلال والاستشراق والحركة الأدبية والثقافية المنطلقة بقوة في أوربا في بداية عصور النهضة، كل هذا مما لمسته هذه الرواية بوعي كبير بأهمية اللحظة التاريخية أو تلك الحقبة وما مثلت من تحولات كبرى وجدل الشرق والغرب تلك المسألة الأزلية التي يبدو أنها تمتد بامتداد الوجود ذاته.
من جماليات هذه الرواية هو تشكيلها لعدد من الشخصيات ذات المصير القلق وتبدو كلها مشحونة بنوع خاص ومتغير من التوتر والصراع الدائم، فكأنها كلها تحمل صراعها بداخلها وهي حال وجودية راسخة في كافة شخصيات الرواية تقريبا، وأتصور أن هذا القلق الذي يتمكن الخطاب السردي من شحن الشخصية به هو ما يمنحها طعمها الخاص أو هويتها بوصفها إنسانا غير متكرر أو نموذجا جديدا أو على الأقل فيه قدر من التجديد والخصوصية. كافة شخصيات الرواية تقريبا تحمل هذا القلق المتأصل في أعماقها حتى ما قد يبدو هامشيا منها مثل والدة مهجة التي هي قلقة بمصير ابنتها الجميلة المضطرة لأن تتلبس هيئة الرجال لتساعد أبيها المشعلجي وهي قصة طريفة في ذاتها وتصبح ظلا لقصة الحب الأخرى المتصاعدة تدريجيا بين جهاد أستاذ التاريخ وزينة المرأة المتزوجة التي تتركه كل مرة بشكل مفاجئ وفي آخر مشهد تكشف هي الأخرى عن قلقها وحبها المكتوم لهذا الصديق الشغوف بالبحث التاريخي، ويجوز أن نعد القصة الأحدث هي التي تمثل الظل لقصة الحب الأقدم بين حسن حارس الزرافة ومهجة ابنة المشعلجي وليس العكس، المهم هو ما قد يكون من حال الجدل بين العالمين والعصرين والقصتين اللتين تتراكبان مع بعضهما في الخطاب السردي وفق نسق واضح من التبادل والتكامل والتقاطع، لأن الحكاية الأحدث زمنا تكرر بعد المعلومات القديمة وتسردها فضلا عن أنها هي في الأصل المبرر لاستعادة القصة القديمة/ قصة الزرافة، فلولا هذه الشخصية الشغوفة وأسرار علاقة هذا البروفيسور بأبيه بما يجعله متعلقا بمحمد علي كل هذا التعلق لما كان التنقيب أو التفتيش عن قصة الزرافة الملكية أصلا وتتبع الحارسين. وقد أفاد خطاب الرواية بشكل بارع من اختفاء أحد الحارسين وجعله لغزا له وتحرك في اتجاهين متوازيين من التقصي البوليسي والتقصي البحثي والتاريخي لمعرفة مصير هذا الحارس وسر اختفائه دون الحارس الثاني. هنا تصبح الحكاية نفسها المروية عبر الراوي العليم صدى أو نتيجة للحكاية الثانية التي تدور أحداثها في العصر الحديث، فكأن قصة الزرافة وحارسيها بالتفصيل وبكل هذه الدقة هي نتاج ما تم من بحث وتقصي في القصة الثانية التي تدور حول جهاد وكتابه عن آخر أيام محمد علي باشا وقصة تعلقه بزينة ومحاوراته معها، وهي قصة هي الأخرى حافلة بالاستكشافات وبخاصة حينما يحدث تتبع لبعض الأسرار أو المعلومات في الكتب والمراجع أو الأرشيفات والمتاحف أو لدى بعض المؤلفين والشخصيات الحية مثل زيارتهم لمؤلف كتاب (فضائح باريسية)، وفي سياق هذه الحكاية الثانية تصبح المعلومة الهينة أو الصغيرة أو العابرة مسألة مصيرية في طريق البحث عن معرفة مصير حارس الزرافة المختفي.
هذه الرواية حافلة بالتناصات والحوار بين النصوص الأدبية الأخرى وبخاصة في الجزء الذي تعرضت فيه لحركة الأدب في فرنسا والصالون الأدبي لمدام شانتال وإشاراتها المهمة لأدباء فرنسا البارزين ستندال وفيكتور هوجو والماركيز دو ساد وتشخيصهم وربط أعمال لهم بالشرق أو كشف هذه الصلة لبعض أعمالهم بالشرق أو قراءة هذه الأعمال في إطار من حكاية الزرافة وحارسيها وبخاصة شخصية حسن المحارب الإنكشاري السابق وحكايته في ذاتها طريفة ويتم استعادتها على نحو مفكك في الزمن وفق نمط دقيق من التداعي الذي يجعل الحكاية الأصلية (رحلة الزرافة وانتقاله إلى المجتمع الفرنسي) هي الأساس، واستعاداته لأشياء من حياته ينبع من هذا الإطار ومن مقتضيات تلك الحكاية الأساسية ومتطلباتها، فليس هناك خروج عن التدفق الرئيسي لحكاية الزرافة أو استطرادات ثقيلة من أجل التركيز على حسن في ذاته برغم كون حكايته في ذاتها دليل على حال مؤلمة من الاستلاب وافتقاد الهوية وكيف يمكن أن يكون الإنسان ظالما ومظلوما في الوقت نفسه، وكيف يمكن أن يكون الحب في ذاته هوية ووطنا، وغيرها من الإشارات والقيم الدلالية المهمة التي تنتج عن قصة حسن في ذاتها وربما لا يختلف الأمر عنه بالنسبة لشخصية عطير. ما أريد تأكيده هنا أن كل هذه الحكايات التي يمكن وصفها بأنها فرعية تأتي في صميم الحكاية الأساسية وفق ميزان خاص يمنح كل حكاية فرعية أو استطراد المساحة المناسبة داخل الفضاء السردي لخطاب الرواية كلها، فنكون في النهاية أمام عمل تتوزعه نغمات فرعية موزونة وذات التحام واضح بالنغمات الرئيسية وهي حكاية الزرافة وآخر أيام الباشا وتلك الرحلة العجيبة نحو الغرب.
الرواية قد تمثل كذلك قراءةً جديدة في التاريخ وتنبيها لمعلومات وقضايا وأسئلة مهمة، وهي تمثل في رأينا مصدرا لتحريك الفكر والتحريض على إعادة قراءة التاريخ والتنقيب فيه، وقد مثلت الرواية ذهنيات الشخصيات بشكل علمي على نحو جلي وفيه قدر من الثراء والتطابق الفكري مع طبيعة مهنة الأستاذ في التاريخ وشخصيات الأدباء والمثقفين والعاشقين وغيرها من الحالات النفسية التي تم تمثيلها وتجسيدها على نحو يجعل هذه الشخصيات ذات قدر كبير من الحيوية والوضوح في الملامح بحيث تظل عالقة بأذهان المتلقين ومحفورة في وجدانهم، وبجانب هذا الثراء الدلالي والأسئلة التي تطرحها والمعلومات والمعارف التي احتواها نسيجها دون تعسف أو افتعال، فهي كذلك جاءت وفق نمط بنائي قائم على التشويق السردي وذات بنية شبه بوليسية قائمة على التتبع وفك الألغاز والتحري عن سر وأشياء مجهولة ومختفية، وهو ما يجعلها ذات قيمة جمالية أكبر ويرشحها للقبول لدى قراء ذوي مشارب متفاوتة وتظل بكامل قدراتها الإمتاعية.
#اخر_ايام_الباشا