لن يكون بوسع التاريخ ان يدرك اننا سوف نضطر الى العيش مجددا في هذه الظلمات بعدما كانت الانوار قد سطعت ذات مرة كاستيليو فن الشك
البرغشة ضد الفيل هذه العبارة التي دونها كاستيليو بخط يده في كتاب نضاله ضد كالفن
دائما في عصور التعصب العالمي يبقى الانسان المحتفظ بانسانيته عاجزا ومنعزلا تماما وسط الفقهاء المتحمسين المتشاجرين فيما بينهم
لسنوات طويلة قبع ذلك المفكر الانساني المتواضع في ظل الملاحقة وفي ظل الفقر وعاش حياة بائسة في ضيق دائم لكن في حرية دائمة ايضا كونه لم يرتبط بحزب ولا تواطئ مع فكر متعصب الا انه خرج من اشغاله السلمية تلك اثر اعدام سيرفيت ولبى نداء صميره الملح بقوة
وهكذا وجد كاستيليو نفسه في الساعات الحاسمة وحده من دون ان احد يقف وراءه سوى ظله ما عنده سوى تلك الملكية غير القابلة للبيع الخاصة بالمبدع المناضل ضمير لا يلين يسكن روحا لا تهاب شيئا
والحال ان كاستيليو كان تيقن منذ البداية من عدم نجاح كفاحه الا انه مارسه مع ذلك مطيعا ضميره
مما لا شك فيه ان ميلا غامضا نحو الذوبان الذاتي في الجماعة يكمن في اساس الطبيعة البشرية راسخة لا تمحى
ان معظم الناس يخشى في الواقع حريته الذاتيه وفي الحقيقة بسبب الاعياء الناجم عن تنويعات المشكلة المرهقة وبالنظر الى تعقيدات الحياة ومسؤولياتها تتوق الغالبية الكبرى من البشر الى برمجة العالم اليا من خلال نظام صالح لكل اوان يعفيهم من إعمال الفكر هذا النزوع لانتظار المنقذ الى حالة تنزع الاشكاليات من الوجود يشكل الخميرة الحقيقية التي تمهد الطريق لكل الانبياء الاجتماعيين والدينيين ودائما حين تفقد مثاليات جيل ما وهجها والوانها , ما ان ينهض رجل ذو موهبة في الايحاء ويعلن بطريقة حاسمة انه وانه وحده وجد الصيغة الجديدة او ابتكرها حتى تتدفق عليه الالاف كما في التيار بوصفه مخلص الشعب ومخلص العالم
عندما يفقد الانسان الثقة في القوة الكامنة الملازمة لحقيقته ويلجأ الى العنف الوحشي فهو بذلك يعلن الحرب ضد الحرية الانسانية , ايا كانت الفكرة التي يطرحها فمن اللحظة التي يتم فيها اللجوء الى العنف بغية ضبط وتوحيد لون ذوي الاراء الاخرى لا تعود الفكرة مثالية بل تغدو وحشية , حتى انقى الحقائق واطهرها حين يتم فرضها بالعنف تتحول الى خطيئة ضد الذهن , لكن الذهن عنصر غامض كالهواء لايرى ولا يمكن الامساك به يبدو طيعا قابلا للتكيف مع الاشكال والصيغ كافه , وهذا يغري دائما اصحاب الطبائع الاستبداديه فيجعلهم يتوهمون ان المرء يمكن ان يضغط هذا الذهن ويحبسه ويعباه في قورارير بيد ان كل ضغط يولد ضغطا مضادا حيويا وبصفة خاصة , حين يضغط المرء ويحبس يتحول الة مادة ناسفة متفجرة . كل ضغط يقود عاجلا ام اجلا الى الثورة وعلى المدى الطويل تبقى الاستقلالية الاخلاقية للانسانية - وفي ذلك كامل العزاء - غير قابلة للتدمير ولم يفلح احد حتى الان , في ان يجبر البشرية في عموم الارض بطريقة دكتاتورية على تبني دين واحد او فلسفة واحدة او مفهوم كوني واحد ولن يفلح غدا ايضا
ادرك الحكماء والانسانيون الوبال الذي يريد الحانقون تعميمه في اوروبا خصوصا وقد سمعوا قرقعة السلاح خلف الكلمات المتعصبة فحدثهم قلبهم ان من ذلك الحقد ستنبثق الحرب الاتيه المرعبة بيد ان الانسانيون حتى عندما يدركون الحقيقة لا يتجاسرون على الكفاح من اجلها كانما قرر القدر دائما هكذا العارفون ليسو الفاعلين والفاعلون ليس العارفين
مع الحمقى لا ينبغي ان يتجادل الحكيم هذا ما روجه اصحاب الخبرة العالمية وقد قادتهم هذه الخبرة الى التزام الحذر وثمة افضل : في مثل هذه الازمنة ينبغي ان يتقهقر المرء الى الظل حتى لا يتعرض هو شخصيا الى الاعتقال وحتى لا يغدو هو الضحية اما كاستيليو - وهذا سبب مجده الخالد - فقد تقدم بحسم على كل هؤلاء الاساتذة مغامرا بمصيره
ما عند التاريخ وقت ليكون عادلا , انه يحصي ببرود المؤرخين , النجاحات فقط ونادرا ما يقيسها بمعايير اخلاقية , انه يميل صوب المنتصرين فقط ويدع الخاسرين في الظل لا يرى حرجا في ان يواري الجنود المجهولين في قبر النسيان الفادح من دون شاهد ومن دون اكليل يمتدح تضحياتهم غير المجدية المفقودة بيد انه في الحقيقة لا يوجد مجهود انجز بنية صافية يمكن القول عنه انه غير مجدي ولا تضيع طاقة اخلاقية مبذولة في فضاء الكون حتى في حالة الهزيمة
من وجهة النظر الروحية تكتسب كلمات مثل انتصار وهزيمة معنى اخر لذلك من الضروري دائما وابدا ان نذكر العالم الذي لا ينظر سوى الى انصاب الظافرين ان الابطال الحقيقيين للانسانية ليسوا الذين شيدوا ممالكهم الزائلة على ملايين القبور وملايين المهشمين وانما تحديدا اولئك الذين سقطوا وهم عزل في مواجهة العنف مثل كاستيليو ضد كالفن في نضاله من اجل حرية الفكر ومن اجل بزوغ الانسانية في افاق الارض
كل دكتاتورية تنطلق من فكرة , لكن كل فكرة تكتسب الشكل واللون من الانسان الذي حولها الى فعل , حتما كان على الكالفينية كمبتكر ذهني ان تشير الى مبتدعها كالفن من حيث المعالم الفيزيائيه له , يكفي المرء ان يلقي نظرة على وجهه ليتوقع انها ستكون اشد كابه واقل مودة من اي تفسير اخر للمسيحية , وجه كالفن مثل قطاع جبل كلسي مثل ارض صخرية جرداء مهجورة موحشة يوحي تحفظها الاخرس بان لا بشر يسكنها , بل الله فقط كل ما يجعل الحياة مثمرة وافرة هانئة مزهرة دافئة حسية يغيب عن ذلك الناسك ذي الوجه المقبض الخالي من الطيبة الذي لا عمر له , كل شيئ في ذلك الوجه البيضاوي المستطيل الكئيب , قاس و دميم , فظ وغير متجانس , جبين ضيق صارم تحت عينان مرهقتان غائرتان تلتهبان كجمر متوهج , والانف المعقوف الحاد بارز باستبداد وسط خدين اجوفين والفم النحيل كما لو انه شق بسكين نادرا ما راه احد مبستما , لا تورد دافئ يسطع من الجلد الجاف , الغائر الجديب الرمادي اللون , كما لو ان حمى داخلية امتصت الدماء من وجنتيه , هي متجعدة رمادية , مريضة, شاحبة للغاية ما عدا في اللحظات القصيرة حين يلهبها الغضب ببقع مرضية , عبثا تحاول تلك اللحية الطويلة المسترسلة , النبوية التوراتية التي حاطها طوعا تلامذته واتباعه الشباب ان تمنح ذلك الوجه الصفراوي الممتقع , مظهرا من مظاهر القوة البشرية , بيد ان اللحية تفتقر الى الغزارة والى النضارة تنسدل بلا قوة او سلطة ابوية , لكنها تتجدل في خصلات نحيلة كدغل مكفهر منبثق من ارض صخرية
في اللوحات المرسومة يبدو كالفن كرجل متعب ذهولي ملتهب كمن احترق بناره الداخلية حتى ليكاد المرء يشعر بالشفقة ازاء ذلك الانسان المنهك للغاية , المتاكل للغاية من اعماقه الذاتيه فاذا سرح المرء بصره الى اسفل يرتعب من منظر يديه , اليد مثل يد الطماع النحيلة الخالية من اللحم من اللحم ومن اللون الباردة النافرة العظام , كمخالب تتمكن من الاحتفاظ بما خطفته ذات مرة وتعرف كيف تتشبث به بقوة بمفاصلها البخيلة , لا يمكن ان يتخيل المرء ان تلك الاصابع العظمية لاعب وردة ذات مرة , او داعبت جسدا دافئا لامراة ما او امتدت الى صديق بمودة وانشراح , انها يد رجل لا يعرف اللين , وبفضلها يمكن المرء ان يفهم مدى ضخامة وجبروت قوة التسيد والتحكم التي انبثقت من كالفن مدى الحياة
ذات مرة كتب كالفن وهو يتأوه : صحتي تشبه موتا مستديما بيد ان ذلك الرجل اختار لنفسه الشعار التالي : بقوة متعاظمة انهض من اعماق الياس
دائما كان الزاهد اخطر انماط الطغاة وماكسيمليانو روبيسبير مثالا على ذلك حيث ان الذي لم يعش حياة مفعمة بالانسانية والبهجة يغدو دائما عديم الانسانية تجاه الاخرين
المعنى الاعمق في مذهب كالفين لكي ترفع المقدس باعلى قدر ممكن فوق العالم , يجب ان تخفض الدنيوي الى اسفل درك ممكن ولكي تمنح افكار الله الوقار التام , ينبغي ان تحرم افكار الانسان حقها وتحط من شأنها هذا المصلح الحاقد على الدنيا لم يكن ممكنا له ان يرى في الانسانية شيئا غير جمهرة من الخاطئين غير القابلين للشفاء او الانضباط وبكل الوان الرهبة الرهبانية امضى حياته متاذيا من اللذة المنتشرة في العالم والمتدفقة بروعة وبلا انقطاع من الاف الينابيع
ومن المفهوم انه منذ اعلنت الرقابة الكونية لكالفين , انعدمت الحياة الخاصة في جنيف تماما بقفزة واحدة تجاوز كالفين محاكم التفتيش الكاثوليكية , التي في كل الاحوال لم ترسل مستطلعا او مخبرا الا بعد ورود إخبار او وشاية , لكن في جنيف , وفق النظام العقائدي الكالفيني , يعتبر كل انسان مهيئا للشر وكل فرد متهم سلفا بالخطئية , وعليه بالتالي ان يقبل بالرقابة
قال كالفين ذات مرة انه من الافضل لجيه ان يرى بريئا يسام العقاب على ان يرى مذنبا يفلت من حساب الله وكان كالفين يجادل قائلا : افضل للمرء ان يكون قاسيا من ان يكون رخوا , اذا كان ذلك لصالح شرف الله , لا يمكن ان تتشكل الانسانية الخلوقة الا من خلال العقوبات المتواصلة
قال بلزاك : كان اللاتسامح الديني العنيف لدى كالفين من الناحية الاخلاقية اشد تماسكا و شراسة من اللاتسامح السياسي لدى روبسبيار ولو اعطي مجالا اوسع للتاثير ارحب من جنيف لكان اسال من الدماء اكثر مما اسال الرسول المرعب للعدالة السياسية
صحيح ان التربية والانضباط في السلوك رائعان , بيد ان حالة مراعاة الاعتدال والتوازن الصارمة التي فرضها كالفين على المدينة كلفت خسائر فادحة في كل القوى المباركة التي لا تولد الا في الحيوية المفرطة والاسراف , واذا كانت هذه المدينة قد دعيت لانجاب عدد لا يحصى من المواطنين الورعين الذين يخافون الله , ومن اللاهوتيين المجدين والعلماء الجادين فهي خلال قرنين كاملين من الزمان بعد كالفين لم تعد تفرز رساما واحد او موسيقيا واحدا او فنانا واحدا ذا صيت عالمي , غير المالوف راح ضحية المالوف والحرية الخلاقة ضحية التزلف وفي النهاية حين ولد في هذه المدينة اديب , غدت حياته كلها ثورة فريدة ضد اغتصاب الشخصية ولم تتحرر جنيف من كالفين تماما الا بظهور مواطنها الاكثر استقلالية بين الرجال جان جاك روسو
وبمرارة كان ينبغي عليهم ان يسمتعوا من المنبر الى كلمات كالتالية وجود المشانق يمكن ان يكون ضروريا لشنق سبعمئة او ثمانمئة من شباب جنيف حتى تشيع اخيرا الاخلاق والعادات القويمة في هذه المدينة العفنة
وفي الخامس من كانون الثاني / يناير 1543 عاشت جنيف المشهد المدهش كل قساوسة المدينة وعلى راسهم كالفين ظهروا في اجتماع مجلس المدينة ومن هناك اصدروا علانية التصريح المخجل ان لا احد منهم لديه الشجاعة ليدخل مستشفى الطاعون برغم انهم يعرفون انه كان من واجبهم خدمة الله وكنيسته المقدسة في الايام الجيدة وفي الايام السيئة ايضا
ما من خطر حقيقي يتهدد صحاب فكرة الا صاحب فكرة اخرى يعارضه فورا ادرك كالفيين ذلك بنظرته الصافية والمرتابة , ذلك انه من الساعة الاولى وحتى الساعة الاخيرة لم يخش احدا من بين جميع خصومه , سوى ذاك الذي كان نده على المستوى الفكري والاخلاقي الذي انتصب ضد طغيانه الفكري بحماسة مطلقة لضمير حر : سباستيان كاستيليو
لم يبق من كاستيليو سوى رسم شخصي (بورتريه) واحد , وهو متوسط القيمة للاسف وهو يظهر لنا وجه مفكر ذا ملامح جدية , وعينين صريحتين بل يمكن القول انهما صادقتان تحت جبين مرتفع طلق ولا يشي الرسم بتعابير وجه اضافية , انه ليس بالرسم الذي يسمح بالتوغل في اعماق الشخصية لكنه مع ذلك ينبؤنا بالخط الاساسي المميز : سريرة متزنة مطمئنة اذا ما وضعنا رسمي الخصمين كالفين وكاستيليو متجاورين , فستظهر الخصومة جلية حسيا هي التي ستغدوا لاحقا قاطعة في الشؤون الفكرية , وجه كالفين به التوتر البالغ به طاقة مكثفة متشنجة وعليلة ترغب في لاتفريغ بمشاكسة والحاح وجه كاستيليو لطيف , مفعم بالطمانينة المتانية , في نظرة الاول الشرر وفي نظرة الثاني الهدوء التام , الصبر ضد نفاذ الصبر , الحمية المتفجرة ضد العزم المثابر , التصعب ضد الانسانية
ونظرا لطبيعة كاستيليو الانسانية جائت نقطة التحول الحاسمة اثر تجربة شخصية : عندما عايش لاول مرة في ليون احراق مجموعة من المارقين تلقى صدمة بلغت اقصى اعماق وجدانه بسبب وحشية محاكم التفتيش من جهة وسلوك ضحايا الباسل من جهة اخرى ومن ذلك اليوم عقد العزم على العيش والنضال من اجل المذهب الجديد وقد راى في الحرية والتحرر
يبقى لاولئك الذين يرفضون الانصياع لاغتصاب الضمير ثلاثة سبل فقط ممكن للمرء ان يناضل علانية ضد عنف الدولة ويتحول بالتالي الى شهيد وهذا هو اشجع طرق المقاومة العلنية وقد اختاره بركوين وايتيان دوليه وكان عقابهما في تحطيم ثورتهما عند خازوق الاعدام حرقا او بوسع المرء , من اجل ان يحمي حياته وحريته الداخلية , ان يتظاهر بالانصياع فيما هو يخفي رايه الحقيقي وهذه تقنية استخدمها ايرازموس ورابليه وكانا ظاهريا في وئام مع الكنيسة والدولة لكي يتمكنا من الموقع الخلفي واحدهما متدثر بمعطف العالم والثاني مستتر بطاقية مهرج من رمي السهام المسمومة لكي يتجنبو العنف بلباقة ولكي يخدعوا الوحشية بدهاء وعلى نمط أوليس اما الطريق الثالث فهو الهجرة : محاولة نقل الحرية الداخلية من البلد الذي هي ملاحقة فيه وخاضعة للمراقبة الى بلد اخر حيث يسمح لها بالتنفس من دون معيقات , كاستيليو ذو الطبع المستقيم لكن اللين ايضا اختار مثل كالفن الطريق السلمي في مطلع 1540 بعيد ما شاهد في ليون بام العين وبقلب ينفطر الما احراق اول الشهداء البروستانتيين وهجر وطنه ليصبح مبشرا بالعقيدة الانجيلية ووسيطا لنشرها
كتب كالفين يصف فشل المناقشات مع كاستيليو بقدر ما استطيع ان احكم وفق المحادثات التي جرت بيننا اقول انه رجل لديه تصور عني مفاده انه من الصعب للغاية ان يتم التوافق بيننا لكن ما هي التصورات التي لدى كاستيليو عن كالفين ؟ لقد وشى كالفن ذاته حين كتب لقد رسخ سباستيان كاستيليو في ذهنه انه لدي نزوع الى التسلط
كاستيليو فن الشك
البرغشة ضد الفيل
هذه العبارة التي دونها كاستيليو بخط يده في كتاب نضاله ضد كالفن
دائما في عصور التعصب العالمي يبقى الانسان المحتفظ بانسانيته عاجزا
ومنعزلا تماما وسط الفقهاء المتحمسين المتشاجرين فيما بينهم
لسنوات طويلة قبع ذلك المفكر الانساني المتواضع في ظل الملاحقة وفي ظل الفقر
وعاش حياة بائسة في ضيق دائم لكن في حرية دائمة ايضا كونه لم يرتبط
بحزب ولا تواطئ مع فكر متعصب الا انه خرج من اشغاله السلمية تلك
اثر اعدام سيرفيت ولبى نداء صميره الملح بقوة
وهكذا وجد كاستيليو نفسه في الساعات الحاسمة وحده من دون ان احد يقف وراءه سوى ظله
ما عنده سوى تلك الملكية غير القابلة للبيع الخاصة بالمبدع المناضل
ضمير لا يلين يسكن روحا لا تهاب شيئا
والحال ان كاستيليو كان تيقن منذ البداية من عدم نجاح كفاحه
الا انه مارسه مع ذلك مطيعا ضميره
مما لا شك فيه ان ميلا غامضا نحو الذوبان الذاتي في الجماعة يكمن في اساس الطبيعة البشرية
راسخة لا تمحى
ان معظم الناس يخشى في الواقع حريته الذاتيه وفي الحقيقة بسبب الاعياء الناجم عن تنويعات
المشكلة المرهقة وبالنظر الى تعقيدات الحياة ومسؤولياتها تتوق الغالبية الكبرى من البشر الى
برمجة العالم اليا من خلال نظام صالح لكل اوان يعفيهم من إعمال الفكر
هذا النزوع لانتظار المنقذ الى حالة تنزع الاشكاليات من الوجود يشكل الخميرة
الحقيقية التي تمهد الطريق لكل الانبياء الاجتماعيين والدينيين
ودائما حين تفقد مثاليات جيل ما وهجها والوانها , ما ان ينهض رجل ذو موهبة في الايحاء
ويعلن بطريقة حاسمة انه وانه وحده وجد الصيغة الجديدة او ابتكرها حتى تتدفق عليه الالاف كما في
التيار بوصفه مخلص الشعب ومخلص العالم
عندما يفقد الانسان الثقة في القوة الكامنة الملازمة لحقيقته ويلجأ الى العنف الوحشي
فهو بذلك يعلن الحرب ضد الحرية الانسانية , ايا كانت الفكرة التي يطرحها
فمن اللحظة التي يتم فيها اللجوء الى العنف بغية ضبط وتوحيد لون ذوي الاراء الاخرى لا
تعود الفكرة مثالية بل تغدو وحشية , حتى انقى الحقائق واطهرها حين يتم فرضها بالعنف
تتحول الى خطيئة ضد الذهن , لكن الذهن عنصر غامض كالهواء لايرى ولا يمكن الامساك به
يبدو طيعا قابلا للتكيف مع الاشكال والصيغ كافه , وهذا يغري دائما اصحاب الطبائع الاستبداديه
فيجعلهم يتوهمون ان المرء يمكن ان يضغط هذا الذهن ويحبسه ويعباه في قورارير
بيد ان كل ضغط يولد ضغطا مضادا حيويا وبصفة خاصة , حين يضغط المرء ويحبس
يتحول الة مادة ناسفة متفجرة . كل ضغط يقود عاجلا ام اجلا الى الثورة
وعلى المدى الطويل تبقى الاستقلالية الاخلاقية للانسانية - وفي ذلك كامل العزاء - غير قابلة للتدمير
ولم يفلح احد حتى الان , في ان يجبر البشرية في عموم الارض بطريقة دكتاتورية على تبني دين
واحد او فلسفة واحدة او مفهوم كوني واحد ولن يفلح غدا ايضا
ادرك الحكماء والانسانيون الوبال الذي يريد الحانقون تعميمه في اوروبا
خصوصا وقد سمعوا قرقعة السلاح خلف الكلمات المتعصبة فحدثهم قلبهم ان من ذلك الحقد ستنبثق
الحرب الاتيه المرعبة بيد ان الانسانيون حتى عندما يدركون الحقيقة لا يتجاسرون على الكفاح من اجلها
كانما قرر القدر دائما هكذا
العارفون ليسو الفاعلين والفاعلون ليس العارفين
مع الحمقى لا ينبغي ان يتجادل الحكيم هذا ما روجه اصحاب الخبرة العالمية
وقد قادتهم هذه الخبرة الى التزام الحذر وثمة افضل : في مثل هذه الازمنة ينبغي
ان يتقهقر المرء الى الظل حتى لا يتعرض هو شخصيا الى الاعتقال وحتى لا يغدو هو الضحية
اما كاستيليو - وهذا سبب مجده الخالد - فقد تقدم بحسم على كل هؤلاء الاساتذة
مغامرا بمصيره
ما عند التاريخ وقت ليكون عادلا , انه يحصي ببرود المؤرخين , النجاحات فقط
ونادرا ما يقيسها بمعايير اخلاقية , انه يميل صوب المنتصرين فقط ويدع الخاسرين في الظل
لا يرى حرجا في ان يواري الجنود المجهولين في قبر النسيان الفادح
من دون شاهد ومن دون اكليل يمتدح تضحياتهم غير المجدية المفقودة
بيد انه في الحقيقة لا يوجد مجهود انجز بنية صافية
يمكن القول عنه انه غير مجدي ولا تضيع طاقة اخلاقية مبذولة في فضاء الكون
حتى في حالة الهزيمة
من وجهة النظر الروحية تكتسب كلمات مثل انتصار وهزيمة معنى اخر
لذلك من الضروري دائما وابدا ان نذكر العالم الذي لا ينظر سوى
الى انصاب الظافرين ان الابطال الحقيقيين للانسانية ليسوا الذين شيدوا ممالكهم
الزائلة على ملايين القبور وملايين المهشمين وانما تحديدا اولئك الذين سقطوا وهم عزل في مواجهة
العنف مثل كاستيليو ضد كالفن في نضاله من اجل حرية الفكر ومن اجل بزوغ الانسانية
في افاق الارض
كل دكتاتورية تنطلق من فكرة , لكن كل فكرة تكتسب الشكل واللون من الانسان الذي حولها
الى فعل , حتما كان على الكالفينية كمبتكر ذهني ان تشير الى مبتدعها كالفن من حيث المعالم
الفيزيائيه له , يكفي المرء ان يلقي نظرة على وجهه ليتوقع انها ستكون اشد كابه واقل مودة من
اي تفسير اخر للمسيحية , وجه كالفن مثل قطاع جبل كلسي مثل ارض صخرية جرداء
مهجورة موحشة يوحي تحفظها الاخرس بان لا بشر يسكنها , بل الله فقط
كل ما يجعل الحياة مثمرة وافرة هانئة مزهرة دافئة حسية يغيب عن ذلك الناسك ذي الوجه
المقبض الخالي من الطيبة الذي لا عمر له , كل شيئ في ذلك الوجه البيضاوي المستطيل
الكئيب , قاس و دميم , فظ وغير متجانس , جبين ضيق صارم تحت عينان مرهقتان غائرتان
تلتهبان كجمر متوهج , والانف المعقوف الحاد بارز باستبداد وسط خدين اجوفين
والفم النحيل كما لو انه شق بسكين نادرا ما راه احد مبستما , لا تورد دافئ يسطع من
الجلد الجاف , الغائر الجديب الرمادي اللون , كما لو ان حمى داخلية امتصت الدماء
من وجنتيه , هي متجعدة رمادية , مريضة, شاحبة للغاية ما عدا في اللحظات القصيرة حين
يلهبها الغضب ببقع مرضية , عبثا تحاول تلك اللحية الطويلة المسترسلة , النبوية التوراتية
التي حاطها طوعا تلامذته واتباعه الشباب ان تمنح ذلك الوجه الصفراوي الممتقع , مظهرا
من مظاهر القوة البشرية , بيد ان اللحية تفتقر الى الغزارة والى النضارة
تنسدل بلا قوة او سلطة ابوية , لكنها تتجدل في خصلات نحيلة كدغل مكفهر منبثق من ارض صخرية
في اللوحات المرسومة يبدو كالفن كرجل متعب ذهولي ملتهب كمن احترق بناره الداخلية
حتى ليكاد المرء يشعر بالشفقة ازاء ذلك الانسان المنهك للغاية , المتاكل للغاية من اعماقه الذاتيه
فاذا سرح المرء بصره الى اسفل يرتعب من منظر يديه , اليد مثل يد الطماع النحيلة
الخالية من اللحم من اللحم ومن اللون الباردة النافرة العظام , كمخالب تتمكن من الاحتفاظ
بما خطفته ذات مرة وتعرف كيف تتشبث به بقوة بمفاصلها البخيلة , لا يمكن ان يتخيل المرء
ان تلك الاصابع العظمية لاعب وردة ذات مرة , او داعبت جسدا دافئا لامراة ما
او امتدت الى صديق بمودة وانشراح , انها يد رجل لا يعرف اللين , وبفضلها يمكن المرء
ان يفهم مدى ضخامة وجبروت قوة التسيد والتحكم التي انبثقت من كالفن مدى الحياة
ذات مرة كتب كالفن وهو يتأوه : صحتي تشبه موتا مستديما
بيد ان ذلك الرجل اختار لنفسه الشعار التالي : بقوة متعاظمة انهض من اعماق الياس
دائما كان الزاهد اخطر انماط الطغاة وماكسيمليانو روبيسبير مثالا على ذلك
حيث ان الذي لم يعش حياة مفعمة بالانسانية والبهجة يغدو دائما
عديم الانسانية تجاه الاخرين
المعنى الاعمق في مذهب كالفين
لكي ترفع المقدس باعلى قدر ممكن فوق العالم , يجب ان تخفض الدنيوي الى اسفل درك ممكن
ولكي تمنح افكار الله الوقار التام , ينبغي ان تحرم افكار الانسان حقها وتحط من شأنها
هذا المصلح الحاقد على الدنيا لم يكن ممكنا له ان يرى في الانسانية شيئا غير جمهرة
من الخاطئين غير القابلين للشفاء او الانضباط وبكل الوان الرهبة الرهبانية امضى حياته متاذيا من
اللذة المنتشرة في العالم والمتدفقة بروعة وبلا انقطاع من الاف الينابيع
ومن المفهوم انه منذ اعلنت الرقابة الكونية لكالفين , انعدمت الحياة الخاصة في جنيف تماما
بقفزة واحدة تجاوز كالفين محاكم التفتيش الكاثوليكية , التي في كل الاحوال لم ترسل مستطلعا
او مخبرا الا بعد ورود إخبار او وشاية , لكن في جنيف , وفق النظام العقائدي الكالفيني ,
يعتبر كل انسان مهيئا للشر وكل فرد متهم سلفا بالخطئية , وعليه بالتالي ان يقبل بالرقابة
قال كالفين ذات مرة انه من الافضل لجيه ان يرى بريئا يسام العقاب على ان يرى
مذنبا يفلت من حساب الله وكان كالفين يجادل قائلا : افضل للمرء ان يكون قاسيا من
ان يكون رخوا , اذا كان ذلك لصالح شرف الله , لا يمكن ان تتشكل الانسانية الخلوقة
الا من خلال العقوبات المتواصلة
قال بلزاك : كان اللاتسامح الديني العنيف لدى كالفين من الناحية الاخلاقية
اشد تماسكا و شراسة من اللاتسامح السياسي لدى روبسبيار ولو اعطي مجالا اوسع للتاثير
ارحب من جنيف لكان اسال من الدماء اكثر مما اسال الرسول المرعب للعدالة السياسية
صحيح ان التربية والانضباط في السلوك رائعان , بيد ان حالة مراعاة الاعتدال والتوازن
الصارمة التي فرضها كالفين على المدينة كلفت خسائر فادحة في كل القوى المباركة التي لا تولد
الا في الحيوية المفرطة والاسراف , واذا كانت هذه المدينة قد دعيت لانجاب عدد لا يحصى
من المواطنين الورعين الذين يخافون الله , ومن اللاهوتيين المجدين والعلماء الجادين
فهي خلال قرنين كاملين من الزمان بعد كالفين لم تعد تفرز رساما واحد او موسيقيا واحدا
او فنانا واحدا ذا صيت عالمي , غير المالوف راح ضحية المالوف والحرية الخلاقة ضحية التزلف
وفي النهاية حين ولد في هذه المدينة اديب , غدت حياته كلها ثورة فريدة ضد اغتصاب الشخصية
ولم تتحرر جنيف من كالفين تماما الا بظهور مواطنها الاكثر استقلالية بين الرجال جان جاك روسو
وبمرارة كان ينبغي عليهم ان يسمتعوا من المنبر الى كلمات كالتالية
وجود المشانق يمكن ان يكون ضروريا لشنق سبعمئة او ثمانمئة من شباب جنيف حتى تشيع
اخيرا الاخلاق والعادات القويمة في هذه المدينة العفنة
وفي الخامس من كانون الثاني / يناير 1543 عاشت جنيف المشهد المدهش
كل قساوسة المدينة وعلى راسهم كالفين ظهروا في اجتماع مجلس المدينة ومن هناك اصدروا علانية
التصريح المخجل ان لا احد منهم لديه الشجاعة ليدخل مستشفى الطاعون برغم انهم يعرفون انه كان من
واجبهم خدمة الله وكنيسته المقدسة في الايام الجيدة وفي الايام السيئة ايضا
ما من خطر حقيقي يتهدد صحاب فكرة الا صاحب فكرة اخرى يعارضه
فورا ادرك كالفيين ذلك بنظرته الصافية والمرتابة , ذلك انه من الساعة الاولى وحتى الساعة الاخيرة
لم يخش احدا من بين جميع خصومه , سوى ذاك الذي كان نده على المستوى الفكري والاخلاقي
الذي انتصب ضد طغيانه الفكري بحماسة مطلقة لضمير حر : سباستيان كاستيليو
لم يبق من كاستيليو سوى رسم شخصي (بورتريه) واحد , وهو متوسط القيمة للاسف
وهو يظهر لنا وجه مفكر ذا ملامح جدية , وعينين صريحتين بل يمكن القول انهما صادقتان تحت جبين مرتفع طلق
ولا يشي الرسم بتعابير وجه اضافية , انه ليس بالرسم الذي يسمح بالتوغل في اعماق الشخصية
لكنه مع ذلك ينبؤنا بالخط الاساسي المميز : سريرة متزنة مطمئنة
اذا ما وضعنا رسمي الخصمين كالفين وكاستيليو متجاورين , فستظهر الخصومة جلية حسيا
هي التي ستغدوا لاحقا قاطعة في الشؤون الفكرية , وجه كالفين به التوتر البالغ
به طاقة مكثفة متشنجة وعليلة ترغب في لاتفريغ بمشاكسة والحاح
وجه كاستيليو لطيف , مفعم بالطمانينة المتانية , في نظرة الاول الشرر وفي نظرة الثاني
الهدوء التام , الصبر ضد نفاذ الصبر , الحمية المتفجرة ضد العزم المثابر , التصعب ضد الانسانية
ونظرا لطبيعة كاستيليو الانسانية جائت نقطة التحول الحاسمة اثر تجربة شخصية : عندما عايش
لاول مرة في ليون احراق مجموعة من المارقين تلقى صدمة بلغت اقصى اعماق وجدانه
بسبب وحشية محاكم التفتيش من جهة وسلوك ضحايا الباسل من جهة اخرى ومن ذلك اليوم
عقد العزم على العيش والنضال من اجل المذهب الجديد وقد راى في الحرية والتحرر
يبقى لاولئك الذين يرفضون الانصياع لاغتصاب الضمير ثلاثة سبل فقط
ممكن للمرء ان يناضل علانية ضد عنف الدولة ويتحول بالتالي الى شهيد وهذا هو اشجع طرق المقاومة
العلنية وقد اختاره بركوين وايتيان دوليه وكان عقابهما في تحطيم ثورتهما عند خازوق الاعدام حرقا
او بوسع المرء , من اجل ان يحمي حياته وحريته الداخلية , ان يتظاهر بالانصياع فيما هو يخفي
رايه الحقيقي وهذه تقنية استخدمها ايرازموس ورابليه وكانا ظاهريا في وئام مع الكنيسة والدولة
لكي يتمكنا من الموقع الخلفي واحدهما متدثر بمعطف العالم والثاني مستتر بطاقية مهرج من رمي السهام المسمومة
لكي يتجنبو العنف بلباقة ولكي يخدعوا الوحشية بدهاء وعلى نمط أوليس
اما الطريق الثالث فهو الهجرة : محاولة نقل الحرية الداخلية من البلد الذي هي ملاحقة فيه وخاضعة للمراقبة
الى بلد اخر حيث يسمح لها بالتنفس من دون معيقات , كاستيليو ذو الطبع المستقيم لكن اللين ايضا
اختار مثل كالفن الطريق السلمي في مطلع 1540 بعيد ما شاهد في ليون بام العين وبقلب ينفطر الما احراق اول
الشهداء البروستانتيين وهجر وطنه ليصبح مبشرا بالعقيدة الانجيلية ووسيطا لنشرها
كتب كالفين يصف فشل المناقشات مع كاستيليو
بقدر ما استطيع ان احكم وفق المحادثات التي جرت بيننا اقول انه رجل لديه
تصور عني مفاده انه من الصعب للغاية ان يتم التوافق بيننا
لكن ما هي التصورات التي لدى كاستيليو عن كالفين ؟
لقد وشى كالفن ذاته حين كتب لقد رسخ سباستيان كاستيليو في ذهنه انه
لدي نزوع الى التسلط