بياصة الشوام بياصة الشوام discussion


4 views
مقال بهاء جاهين في أهرام الجمعة عن بياصة الشوام

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by أحمد (new)

أحمد الفخراني هذه الرواية القصيرة المكثفة ككقنبلة يدوية، التي تبدأ بالواقع لتجمح إلى الأسطورة بوتيرة متصاعدة، فكاتبها أحمد الفخراني ينتمي في هذا العمل لطائفة الكتاب اللذين لا يقنعون بوصف أو رسم الواقع كما هو، بل يعيدون صياغته بجرأة بيكاسو في أعماله التكعيبية، وتشهد على ذلك التماثيل التي تخرج بين يدي بطل الرواية سعيد، فعندما يشكل جسد الطين ليصف جسد حبيبته ثريا أو فتوة البياصة البامبو ملك الليل، لا ينحت إلا إحساسه، مهما نبا عن الملامح الخارجية للأصل، كذلك يفعل الفخراني وهو يشكل الطين ويطهو بنار خياله فخاره الروائي، فهو لا يقدم لنا بياصة الشوام كما هي، بل يعيد صياغتها ويسكنها كائنات أسطورية لكنها ذات أصل واقعي، فالبامبو ومساعده حمادة الأعور ومطعم ملك السمان وصاحبه، وثريا وزوجها المسافر ولي الدين، والمعلم إدريس أستاذ فن تشكيل الطين، كل هؤلاء يتطورون مع تتابع فصول العمل، ويعاد تشكيل ملامحهم، خاصة في الليالي، أو بتأثير الليالي، التي يسهرها بطل الرواية سعيد في ورشة إدريس حين يثقله هم تشكيل تمثال، وتعتريه في أثناء ذلك رؤى يتوحد فيها مع موضوع تمثاله، فيصير هو البامبو أو حمادة الأعور، وتأخذه رؤاه وهو في هيئة هؤلاء إلى صحراوات وجبال وأفاعي وحسناوات وجنات وأهوال، ثم يفيق أخيرا وقد عاد لجسده وهويته ليجد أمامه التمثال وقد تشكل، وإذا بملامح المنحوت تعكس كل جموح وجنون ما رآه وعاشه ذلك النحات من أساطير، من خرافات في قلبها جوهر الوجود الفعلي ولب طبيعة الشخصية التي يجسدها والمعنى الباطن للأحداث التي عاشتها، فشكلت تلك الأحداث ملامحها الروحية، والتي ترجمتها تماثيل سعيد إلى كائنات سيريالية مجازية، ترمز لتلك الملامح الداخلية بكل جموح الفنان وخياله، وشفافية روح الفنان وأصالته التي تنفذ إلى اللب وتصوره دون مهادنة أو خجل.
إن هذه الرواية تحكي فيما تحكي، بل في المقام الأول، عن الموهبة الفنية الفردية والخلاص الذي يمكن أن تحققه لصاحبها ولمن يستقبلونه في صميم وجدانهم، في مواجهة من يصفهم في الرواية بأرواح من الإسمنت، بمفاهيمهم ورؤاهم ومعتقداتهم وعواطفهم وردود أفعالهم سابقة التجهيز، المتماثلة كالطوب المصبوب من الإسمنت، التي تفرض نمطا من الأخلاق والسلوكيات والكتابات الميتة الخالية من الأصالة، التي تنقل الواقع كما يقع وتمجد النمطية والتكرار والتماثل إلى حد أن ترى الاختلاف جنونا والخروج عن المألوف شذوذا وكفرا، ورواية بياصة الشوام إلى حد بعيد هي تمجيد للجنون المبدع وتجسيد عملي له. فأحمد الفخراني يهدم الصورة الواقعية للمكان والزمان وهذا الحي الشعبي السكندري، ومن لبناته التي انحلت يشكل تمثالا سيرياليا، لا لذلك الحي أو الساحة فحسب، بل للحياة وللوجود كله، وحنين الإنسان إلى مبدع هذا الوجود.
ولا ينسى الفخراني الملامح الجوهرية لما نحياه ونراه أو نراه حولنا، لكنه لا يأبه للتفاصيل، فيعكس التباين الفادح بين الناس والناس، بين الفقر والغنى والقوة والضعف، وتلك الهوة بين الحادث والمنشود، لكنه في تعبيره هذا لا يستخدم المسطرة والمنقلة والورق الشفاف، بل القلب الشفاف الذي ينفذ إلى الباطن، ويصوره كما يحلو له، ليعطينا شيئا جديدا، واقعي الباطن أسطوري الظاهر، يعطينا العالم والوجود الإنساني ببصمة الكاتب الخاصة وتوقيعه الذي يصعب تقليدي، يحكي السيرة الروحية للإنسان، ويلخص كل النساء في امرأة واحدة، وكل الأرض في ساحة شعبية صغيرة اسمها بياصة الشوام، وفي قلب كل هذا يصنع تمثالا لنفسه، للفنان في مواجهة العالم.


back to top