مقصلة الحالم
question
عندما تصير الحياة سجناً كبيراً
جلال
Sep 14, 2014 05:46AM
عندما تصير الحياة سجناً كبيراً
مقصلة الحالم أنموذجاً
فاتن كشو *
امتلكت رواية «مقصلة الحالم» للروائي والشاعر جلال برجس ذلك العنصر، الذي له أن يأخذك إلى نهاية الرواية دون أن تعي انسيابك في بنائها الجميل. فهي رواية تشدك من أول سطر تشرع بقراءته، لتشعر انك أصبحت قريناً للراوي، تتحرك معه أينما حل. ولعلك تعيش تجربته الوجودية والنفسية نفسها. بل حتى إنك تتوحد معه، وتتبنى ألمه وتكابد ما يكابده من عزلة وتقوقع وصراع مع النفس، ومع الآخر، ومع العالم الخارجي، أو تتواجد معه خارج الإطار الزمني والإطار المكاني الفعليين، وتجد نفسك مأسوراً معه بأطره الذاتية.
إنها سمات للعمل الروائي الناجح، حينما يأخذ القارئ عبر طرقات الرواية وسراديبها ليجد أنه صلب الحكاية، ويجد نفسه قادراً على كتابة روايته الخاصة. فالسرد في «مقصلة الحالم»، أشبه ما يكون بدوائر في بركة ساكنة ألقيت بها مجموعة من الحصى. دوائر يتداخل بعضها ببعض، لكنها لا تؤدي إلى حالة من الارتباك، بل تخلق حالة فريدة من التماهي. دوائر هي نفسها عالمه السردي الذي صار الراوي «خالد» مركزها، أو هي خلية السرد، وهو نواتها.
فالسرد الداخلي أو حديثه إلى نفسه (المونولوج)، هو دائرته الأولى أو هو معتقله الثاني، الذي يوازي معتقله الفعلي الذي عاش فيه عشرين سنة من عمره. إنها تقنية روائية ذكية، فقد اعتُقل «خالد» لتهمة ملفّقة، مستغرباً كيف ينشط بالسياسة ويُتَّهم بتهمة مغايرة لما كان بصدد القيام به.
إذ تصبح تلك التهمة التي عبثت بمكون مصيره، معتقلاً آخر، ولازمة في مساحة الرواية، تتردد كثيراً، كأن جلال برجس يريدنا أن نذهب عميقاً في ما وراء الشكل الخارجي لتلك التهمة، وبالتالي ملامسة جوهر الحياة التي أخذ يفلسف لها عبر رؤيته لها كسجن كبير. إنه صراع غرائبي يفكك مفهوم السجن والعزلة داخل جسد الرواية، ويحيلنا إلى تساؤل حول الشكل اليومي للحياة العصرية الجديدة، التي اصبحت في نظر الراوي سجناً كبيراً.
يرى «خالد»، الذي مارس السياسة وأمضى عشرين سنة في معتقل سياسي، أنه لم يكن ليتأسى لو تم اعتقاله بسبب نشاطه السياسي، وهذا يجرنا إلى سجن آخر أو دائرة أخرى من دوائر العناوين والمسميات، عبر صراعه النفسي مع فكرة الحزب، وإيمانه به.
إذ تبدو شخصية «خالد»، النواة، حبيسة المسميات والعناوين منذ البدء. فمن العتبة الأولى للرواية يكتشف القارئ أن «خالد» يحمل معه سجنه الصحراوي، فيُمنى بسجن ثانٍ، هو سجن قريته التي ما عادت قرية، فقد بدلت العولمة ملامحها، وسرقت وعي أناسها الذين لم يتغير عليهم شيء سوى القشرة الخارجية. وهنا يبدو رهان «خالد» كمنتمٍ، هذا الرهان الذي يخسره عندما يكتشف أن الحزب مُنِيَ أيضاً بالانشقاق.
فذهابه في ذلك الصباح إلى معتقله في زيارة غرائبية، تشير إلى تهشم المعمار الخارجي ومكانه الحميم (القرية)، وبالتالي، انصياعه لرغبة سادية في العودة للمعتقل، رغم تحذيرات صديقه «الدكتور ويلسون» الذي نصحه بعد الاستسلام لإلحاح صدى السجن فيه، فتكون الهزيمة أمام فداحة الواقع.
ربما كان «خالد» يفتش في معتقله عن ذاته التي تركها هناك. لكن لتلك الزيارة في نهاية الأمر مدلول واحد: أنه لم يغادر سجنه، بل ظل حبيساً له حتى في خارجه. ولما مكث أمامه بسيارته شاهده محاطاً بالصحراء والقفار والريح تعوي حوله. ولمّا نقارن ذلك بسجنه النفسي نجد تشابها تاماً. فهو يعيش العزلة ويكابد الوحشة ويحيطه فراغ بحياته، لا زوجة ولا ولد ولا عمل ولا لحظات حاضرة، ولا ماضية بدنيا الناس. والعالم الخارجي بالنسبة له صحراء قاحلة.
وإذا نظرنا من زاوية أخرى، نجد أن كل هذا التقوقع والألم والإحساس بالعزلة، يقع داخل إطار النص أو دائرة السرد ذاتها، التي ما هي في الحقيقة سوى سجن آخر، أكبر من المعتقلات الأخرى المذكورة، وأشمل إذا عددنا تجربة الاعتقال وما خلفه قد أحالته إلى تجربة السرد كمحاولة للتحرر. فـ»خالد» في لحظة الصراع الرئيسة في الرواية يحس بأنه بصدد كتابة شيء، لا يعرف ما هو. وإذ يعجز بعد محاولات عديدة، يمزق الورق، ويكتب. فيحيلنا هذا المشهد إلى محاولته في تحطيم القيود ومغادرة المعتقل، إذ يتبدى ذلك جلياً في انبلاجات النص الروائي وعوالمه الأخرى التي يفضي اليها.
كل ذلك يخلق لدى القارئ تساؤلاً هو: هل ينجح «خالد» في تحطيم أسواره التي يطالعنا بها متخبطاً بين جدرانها العالية، الكاتمة للصوت، كالعالم الخارجي، الذي وجد نفسه فيه بخروجه الواهم من المعتقل، إذ إنه عالم يعج بالقيود والحدود والممنوعات، والقيم البالية المتوارثة والمفاهيم الرجعية، وكحاضره الذي رغم أنه بلا ماضٍ -إن عددنا السنوات العشرين في المعتقل ثغرة كبيرة في ماضيه، أو هي ماضٍ مفقود أو محذوف من حياته- فهو أيضاً بلا مستقبل أخذاً في الحسبان انعدام الأمل عنده بمستقبل «منير».
هذا الحاضر المبتور من ماضٍ ومن مستقبل، يصبح سجناً حقيقياً يعذب الروح. أما ماضيه الملغى، فرغم عدميته، يظل يأسره ويسيطر عليه، كالعودة إلى المعتقل في زيارة غريبة. ناهيك عن الأحلام والكوابيس والذكريات الأليمة، وذاكرته التي تحمل رائحة المعتقل الذي ظل يحاول الخلاص منه دون جدوى. وأيّ مأساة أن يلاحق الإنسانَ ماضٍ ملغى ومعدوم ويكدر حياته!
داخل كل تلك الأسوار والمعتقلات، كان الراوي (نواة النص السردي)، يحيا دون تفاعل يُذْكَر، أو هو في الحقيقة يتفاعل تفاعلاً سلبياً، فكأنه عنصر ماضٍ لكل هذه الشحنات السالبة التي تنبعث داخل تلك الدوائر، النفسية منها والمكانية والزمانية والسردية.. يمتص الشحنات السالبة فتؤثر به فتتحول في داخله إلى كوابيس وصراعات وعذابات واجترارات وشعور بالخيبة، وأحيانا -بل دائماً- شعور بالتشرد، كما يقول في مونولوجه الداخلي: «أنهض إزاء حلم بوطن حبيبة، وبحبيبة وطن، وأنت وحدك الشريد بعد خسارة أيّ منهما».
وفي ظل الشعور بفقدان الوطن، ينعدم الإحساس بالهوية. وبالتالي نتحدث عن حياة على الهامش، مع فقدان القيم المرجعية التي تؤسس لوجود الذات البشرية، وتجعلها متقبّلة للنظم الاجتماعية والأطر المدنية ومدركة لقيمتها وأهميتها، وأنها تمثل حلقة في سلسلة مترابطة، وأن تلك الحلقة في تلازُم مع استمرارية الوطن -الوطن الوجود، والوطن الذات، والوطن الهوية-فالراوي هو نواة تحمل شحنة سالبة ولا تتمثل معنى لكيانها، وبحثها المستمر عن التحرر ما هو إلا بحث عن الوجود عبر النص السردي، لمنح معنى للوجود مثل تجربة (الفيس بوك) وخلق حياة أخرى افتراضية، بدل عالمه الخارجي وعالمه النفسي الداخلي وماضيه الملغى وحاضره المبتور. وكل الأسوار التي تكبله هي محاولات لإثبات الكينونة، كما يأتي في إحدى مونولوجاته: «هذا العالم الذي صار بديلاً لي عن عالم لم أستطع العيش فيه».
«مقصلة الحالم» رواية موازية لشكل الواقع العربي ومضمونه، لكنها تتجاوزه بأحلام شخصياتها، وتوقهم لإعادة النظر بمؤسسات الواقع وبالتالي اجتراح حياة جديدة، تكسر القيود، وتهشم القضبان.
* روائية من تونس
مقصلة الحالم أنموذجاً
فاتن كشو *
امتلكت رواية «مقصلة الحالم» للروائي والشاعر جلال برجس ذلك العنصر، الذي له أن يأخذك إلى نهاية الرواية دون أن تعي انسيابك في بنائها الجميل. فهي رواية تشدك من أول سطر تشرع بقراءته، لتشعر انك أصبحت قريناً للراوي، تتحرك معه أينما حل. ولعلك تعيش تجربته الوجودية والنفسية نفسها. بل حتى إنك تتوحد معه، وتتبنى ألمه وتكابد ما يكابده من عزلة وتقوقع وصراع مع النفس، ومع الآخر، ومع العالم الخارجي، أو تتواجد معه خارج الإطار الزمني والإطار المكاني الفعليين، وتجد نفسك مأسوراً معه بأطره الذاتية.
إنها سمات للعمل الروائي الناجح، حينما يأخذ القارئ عبر طرقات الرواية وسراديبها ليجد أنه صلب الحكاية، ويجد نفسه قادراً على كتابة روايته الخاصة. فالسرد في «مقصلة الحالم»، أشبه ما يكون بدوائر في بركة ساكنة ألقيت بها مجموعة من الحصى. دوائر يتداخل بعضها ببعض، لكنها لا تؤدي إلى حالة من الارتباك، بل تخلق حالة فريدة من التماهي. دوائر هي نفسها عالمه السردي الذي صار الراوي «خالد» مركزها، أو هي خلية السرد، وهو نواتها.
فالسرد الداخلي أو حديثه إلى نفسه (المونولوج)، هو دائرته الأولى أو هو معتقله الثاني، الذي يوازي معتقله الفعلي الذي عاش فيه عشرين سنة من عمره. إنها تقنية روائية ذكية، فقد اعتُقل «خالد» لتهمة ملفّقة، مستغرباً كيف ينشط بالسياسة ويُتَّهم بتهمة مغايرة لما كان بصدد القيام به.
إذ تصبح تلك التهمة التي عبثت بمكون مصيره، معتقلاً آخر، ولازمة في مساحة الرواية، تتردد كثيراً، كأن جلال برجس يريدنا أن نذهب عميقاً في ما وراء الشكل الخارجي لتلك التهمة، وبالتالي ملامسة جوهر الحياة التي أخذ يفلسف لها عبر رؤيته لها كسجن كبير. إنه صراع غرائبي يفكك مفهوم السجن والعزلة داخل جسد الرواية، ويحيلنا إلى تساؤل حول الشكل اليومي للحياة العصرية الجديدة، التي اصبحت في نظر الراوي سجناً كبيراً.
يرى «خالد»، الذي مارس السياسة وأمضى عشرين سنة في معتقل سياسي، أنه لم يكن ليتأسى لو تم اعتقاله بسبب نشاطه السياسي، وهذا يجرنا إلى سجن آخر أو دائرة أخرى من دوائر العناوين والمسميات، عبر صراعه النفسي مع فكرة الحزب، وإيمانه به.
إذ تبدو شخصية «خالد»، النواة، حبيسة المسميات والعناوين منذ البدء. فمن العتبة الأولى للرواية يكتشف القارئ أن «خالد» يحمل معه سجنه الصحراوي، فيُمنى بسجن ثانٍ، هو سجن قريته التي ما عادت قرية، فقد بدلت العولمة ملامحها، وسرقت وعي أناسها الذين لم يتغير عليهم شيء سوى القشرة الخارجية. وهنا يبدو رهان «خالد» كمنتمٍ، هذا الرهان الذي يخسره عندما يكتشف أن الحزب مُنِيَ أيضاً بالانشقاق.
فذهابه في ذلك الصباح إلى معتقله في زيارة غرائبية، تشير إلى تهشم المعمار الخارجي ومكانه الحميم (القرية)، وبالتالي، انصياعه لرغبة سادية في العودة للمعتقل، رغم تحذيرات صديقه «الدكتور ويلسون» الذي نصحه بعد الاستسلام لإلحاح صدى السجن فيه، فتكون الهزيمة أمام فداحة الواقع.
ربما كان «خالد» يفتش في معتقله عن ذاته التي تركها هناك. لكن لتلك الزيارة في نهاية الأمر مدلول واحد: أنه لم يغادر سجنه، بل ظل حبيساً له حتى في خارجه. ولما مكث أمامه بسيارته شاهده محاطاً بالصحراء والقفار والريح تعوي حوله. ولمّا نقارن ذلك بسجنه النفسي نجد تشابها تاماً. فهو يعيش العزلة ويكابد الوحشة ويحيطه فراغ بحياته، لا زوجة ولا ولد ولا عمل ولا لحظات حاضرة، ولا ماضية بدنيا الناس. والعالم الخارجي بالنسبة له صحراء قاحلة.
وإذا نظرنا من زاوية أخرى، نجد أن كل هذا التقوقع والألم والإحساس بالعزلة، يقع داخل إطار النص أو دائرة السرد ذاتها، التي ما هي في الحقيقة سوى سجن آخر، أكبر من المعتقلات الأخرى المذكورة، وأشمل إذا عددنا تجربة الاعتقال وما خلفه قد أحالته إلى تجربة السرد كمحاولة للتحرر. فـ»خالد» في لحظة الصراع الرئيسة في الرواية يحس بأنه بصدد كتابة شيء، لا يعرف ما هو. وإذ يعجز بعد محاولات عديدة، يمزق الورق، ويكتب. فيحيلنا هذا المشهد إلى محاولته في تحطيم القيود ومغادرة المعتقل، إذ يتبدى ذلك جلياً في انبلاجات النص الروائي وعوالمه الأخرى التي يفضي اليها.
كل ذلك يخلق لدى القارئ تساؤلاً هو: هل ينجح «خالد» في تحطيم أسواره التي يطالعنا بها متخبطاً بين جدرانها العالية، الكاتمة للصوت، كالعالم الخارجي، الذي وجد نفسه فيه بخروجه الواهم من المعتقل، إذ إنه عالم يعج بالقيود والحدود والممنوعات، والقيم البالية المتوارثة والمفاهيم الرجعية، وكحاضره الذي رغم أنه بلا ماضٍ -إن عددنا السنوات العشرين في المعتقل ثغرة كبيرة في ماضيه، أو هي ماضٍ مفقود أو محذوف من حياته- فهو أيضاً بلا مستقبل أخذاً في الحسبان انعدام الأمل عنده بمستقبل «منير».
هذا الحاضر المبتور من ماضٍ ومن مستقبل، يصبح سجناً حقيقياً يعذب الروح. أما ماضيه الملغى، فرغم عدميته، يظل يأسره ويسيطر عليه، كالعودة إلى المعتقل في زيارة غريبة. ناهيك عن الأحلام والكوابيس والذكريات الأليمة، وذاكرته التي تحمل رائحة المعتقل الذي ظل يحاول الخلاص منه دون جدوى. وأيّ مأساة أن يلاحق الإنسانَ ماضٍ ملغى ومعدوم ويكدر حياته!
داخل كل تلك الأسوار والمعتقلات، كان الراوي (نواة النص السردي)، يحيا دون تفاعل يُذْكَر، أو هو في الحقيقة يتفاعل تفاعلاً سلبياً، فكأنه عنصر ماضٍ لكل هذه الشحنات السالبة التي تنبعث داخل تلك الدوائر، النفسية منها والمكانية والزمانية والسردية.. يمتص الشحنات السالبة فتؤثر به فتتحول في داخله إلى كوابيس وصراعات وعذابات واجترارات وشعور بالخيبة، وأحيانا -بل دائماً- شعور بالتشرد، كما يقول في مونولوجه الداخلي: «أنهض إزاء حلم بوطن حبيبة، وبحبيبة وطن، وأنت وحدك الشريد بعد خسارة أيّ منهما».
وفي ظل الشعور بفقدان الوطن، ينعدم الإحساس بالهوية. وبالتالي نتحدث عن حياة على الهامش، مع فقدان القيم المرجعية التي تؤسس لوجود الذات البشرية، وتجعلها متقبّلة للنظم الاجتماعية والأطر المدنية ومدركة لقيمتها وأهميتها، وأنها تمثل حلقة في سلسلة مترابطة، وأن تلك الحلقة في تلازُم مع استمرارية الوطن -الوطن الوجود، والوطن الذات، والوطن الهوية-فالراوي هو نواة تحمل شحنة سالبة ولا تتمثل معنى لكيانها، وبحثها المستمر عن التحرر ما هو إلا بحث عن الوجود عبر النص السردي، لمنح معنى للوجود مثل تجربة (الفيس بوك) وخلق حياة أخرى افتراضية، بدل عالمه الخارجي وعالمه النفسي الداخلي وماضيه الملغى وحاضره المبتور. وكل الأسوار التي تكبله هي محاولات لإثبات الكينونة، كما يأتي في إحدى مونولوجاته: «هذا العالم الذي صار بديلاً لي عن عالم لم أستطع العيش فيه».
«مقصلة الحالم» رواية موازية لشكل الواقع العربي ومضمونه، لكنها تتجاوزه بأحلام شخصياتها، وتوقهم لإعادة النظر بمؤسسات الواقع وبالتالي اجتراح حياة جديدة، تكسر القيود، وتهشم القضبان.
* روائية من تونس
reply
flag
all discussions on this book
|
post a new topic
