مشكلتها أنها أحبت، لكن قلبها خفق في الزمان والمكان غير المناسبين... رواية "شغف" للكاتبة المصرية رشا عدلي، صدرت عام 2017 عن الدار العربية للعلوم – ناشرون في بيروت، وتقع في 368 صفحة من الحجم المتوسط. لوحة فنية مجهولة المصدر، تم العثور عليها بالصدفة، تصور فتاة مصرية حسناء من القرن الثامن عشر، تجمع ملامحها وهيئتها بين البراءة الطفولية والإغراء الأنثوي، وتتولى ياسمين غالب، الأستاذة الجامعية والخبيرة في تاريخ الفن مهمة دراستها وفك اللغز المحيط بهوية الفتاة والرسام المغمور صاحب اللوحة، خاصة بعد اكتشافها وجود خصلات شعر حقيقية تم إخفاؤها بعناية خلف الجدائل المرسومة للفتاة، لتبدأ رحلة بحث مشوقة تهدف إلى تبديد الغموض المحيط باللوحة، كل هذا بالتزامن مع عرض لقصة زينب البكري، ابنة أحد شيوخ الأزهر ممن تعاملوا مع نابليون بونابرت بعد دخوله إلى مصر، وألتون جرمان، الرسام الفرنسي الأرستقراطي الذي رافق الحملة ودون في مذكراته كل مشاهداته وملاحظاته وانطباعاته حول الغزو النابوليوني لمصر، بعيدا عن الصورة النمطية التي حاول بونابرت ترويجها، فأية علاقة تلك التي تربط ألتون بزينب واللوحة التي تدرسها ياسمين ؟ نحن هنا أمام حبكة مؤلفة من خطين سرديين متوازيين تتفرع منهما بعض الخطوط الثانوية، قبل أن تلتقي كل الخطوط في النهاية، ويمكننا تشريح هذين الخطين على الشكل التالي : الخط الأول : تدور أحداثه عام 2012، بعد العثور على اللوحة الغامضة وشروع الدكتورة ياسمين في دراستها والعمل على حل لغزها في أجواء يمتزج فيها التشويق بالبصمة البوليسية، مع توظيف للراوي العليم كتقنية سردية، هنا ندخل كقراء إلى عوالم الفن التشكيلي، الأسرار المحيطة به، تقنيات الرسم ومزج الألوان، الحياة الغامضة للفنانين الذين كتب على بعضهم العيش كمغمورين قبل اعتراف العالم بعبقريتهم، كل هذا اعتمادا على المجهود الواضح الذي قدمته الكاتبة في البحث المتخصص لتقريبنا من هذا الجو الساحر، لكنها لم تكتف بذلك، بل قدمت لنا ياسمين كشخصية مركبة، تتوزع حياتها بين عملها من جهة ومشاكلها الشخصية المرتبطة بعلاقة الحب المعقدة التي تجمعها بشريف المهندس المعماري والمريد الصوفي من جهة أخرى، علاقة يؤثر عليها ماضي ياسمين الأسود والملطخ بدماء والدتها المنتحرة، مع حضور ثانوي لجدتها صعبة الطباع، وهو ما استغلته الكاتبة لعرض وجهات نظر متباينة حول غموض العلاقات الحالية المتأرجحة بين الصداقة والحب، سطحية العصر المادي واعتماده على المظهر عوض الجوهر، مع محاولة عرض الصوفية كحل بديل لكل مشاكل هذا العصر. الخط الثاني : تدور أحداثه عام 1798، مع دخول قوات نابليون بونابرت إلى مصر، هنا تنتقل الكاتبة من تقمص وظيفة الباحثة الفنية التي تعرفنا على أسرار هذا العالم إلى تسلم مهام المؤرخة التي تكشف لنا كما هائلا من المعلومات التاريخية حول هذه الحقبة التي كتب عنها الكثير، مع تسليط الضوء على الجزئية التي أسالت مدادا كثيرا، حول علاقة مفترضة بين فتاة مصرية ونابليون نفسه، تراوحت الشائعات حولها بين اقتصارها على الإعجاب ووصولها إلى علاقة كاملة كانت ثمرتها ابنة مجهولة (يمكن في هذا الصدد مراجعة رواية ابنة بونابرت المصرية – شربل داغر – المركز الثقافي العربي – ط1 2016). هنا ينقسم الخط نفسه إلى شقين أساسيين، الأول تمت المحافظة فيه على تقنية الراوي العليم، ويتناول حياة زينب ابنة الشيخ البكري، الانتهازي الذي وجد في حملة نابليون فرصة سانحة للبحث عن السلطة والجاه، ولو كان ذلك على حساب كرامته ودينه وعرضه ومجتمعه، عندما لم يجد بدا من تقديم ابنته على طبق من ذهب للجنرال الفرنسي الباحث عن المتعة أو ربما الانتقام من معشوقته الشهيرة جوزفين التي علم بخيانتها له وهو في مصر، فيما وجدت زينب في هذه الحياة الجديدة فرصتها في الانعتاق من قيود مجتمعها وقائمة ممنوعاته الطويلة، لتظهر الكاتبة هنا تفوقا في لعبة السرد، من خلال عرضها لمختلف وجهات النظر حول تصرفات زينب غير المألوفة خاصة بعد تواتر الإشاعات حول طبيعة علاقتها بنابليون ثم الرسام ألتون جيرمان فيما بعد، وأيضا الموقف بشكل عام من الحملة الفرنسية بين مؤيد ومعارض، بحجج متينة وقوية تجعل القارئ نفسه حائرا بين الآراء أيها يقتنع به ويتبناه ! أما الشق الثاني فقد استخدمت فيه الكاتبة تقنية سردية بضمير المتكلم، من خلال عرض ما يمكن اعتبارها مذكرات كتبها الرسام ألتون جيرمان عاشق زينب منذ اختياره لمرافقة الحملة إلى وفاته على فراش المرض بعد إصابته بالطاعون إثر العودة الخائبة للجيش الفرنسي من عكا وحيفا، وهنا نرى بقلم واقعي حقيقة نابليون وأطماعه الاستعمارية التي بلغت حد الهوس، والدهاء الذي ميزه في تعامله مع المصريين ومحاولاته المتكررة لإيهام الجميع بأنهم يحترم الدين الإسلامي وأتباعه، رغبة منه في تطويع شعب لم يستسغ بسهولة الطريقة التي تم احتلاله بها، كل هذا مع رؤية متمعنة ومتفحصة تكشف الطريقة التي يرى بها الغرب نظراءه في الشرق. يمكن القول أن الحبكة كانت متماسكة إلى حد كبير، كما أن الإيقاع تم ضبطه بالشكل الأمثل، خصوصا مع الصفحات الأخيرة التي شهدت تصاعدا في الأحداث وتساقطا في أحجار الدومينو التي شكلت أساس عقدة الرواية، سواء من ناحية فك ياسمين للغز اللوحة وانكشاف الضباب عن علاقتها المعقدة بشريف، أو من ناحية وفاة ألتون جرمان ووصول زينب ووالدها إلى المصير المحتوم الذي خلفه انسحاب نابليون وحملته من مصر، وضرورة الانتقام والقصاص من كل أولئك الذين ساعدوه أو سهلوا له مهمة السيطرة على البلاد، قد يقول قائل أن المواضيع أو الثيمات الرئيسية التي عالجتها الرواية (الحملة الفرنسية الفرنسية على مصر وعلاقة نابليون بفتاة مصرية، التوجه الحالي بين الأدباء نحو توظيف الفن التشكيلي في الرواية، الصوفية...) ليست بجديدة وجرى التطرق لها سابقا، ربما هذا القول صحيح، لكن الإبداع يتجلى في القدرة على الجمع بين هذه المواضيع في قالب روائي واحد، وهو ما نجحت فيه الكاتبة إلى حد بعيد، لتكون بذلك "شغف" شغفا للقارئ الباحث عن الحبكة الممتعة، وأيضا نموذجا للرواية "المعلوماتية" التي تكرس القول بأن الرواية تعتبر حاليا موسوعة العصر الحديث.
رواية "شغف" للكاتبة المصرية رشا عدلي، صدرت عام 2017 عن الدار العربية للعلوم – ناشرون في بيروت، وتقع في 368 صفحة من الحجم المتوسط.
لوحة فنية مجهولة المصدر، تم العثور عليها بالصدفة، تصور فتاة مصرية حسناء من القرن الثامن عشر، تجمع ملامحها وهيئتها بين البراءة الطفولية والإغراء الأنثوي، وتتولى ياسمين غالب، الأستاذة الجامعية والخبيرة في تاريخ الفن مهمة دراستها وفك اللغز المحيط بهوية الفتاة والرسام المغمور صاحب اللوحة، خاصة بعد اكتشافها وجود خصلات شعر حقيقية تم إخفاؤها بعناية خلف الجدائل المرسومة للفتاة، لتبدأ رحلة بحث مشوقة تهدف إلى تبديد الغموض المحيط باللوحة، كل هذا بالتزامن مع عرض لقصة زينب البكري، ابنة أحد شيوخ الأزهر ممن تعاملوا مع نابليون بونابرت بعد دخوله إلى مصر، وألتون جرمان، الرسام الفرنسي الأرستقراطي الذي رافق الحملة ودون في مذكراته كل مشاهداته وملاحظاته وانطباعاته حول الغزو النابوليوني لمصر، بعيدا عن الصورة النمطية التي حاول بونابرت ترويجها، فأية علاقة تلك التي تربط ألتون بزينب واللوحة التي تدرسها ياسمين ؟
نحن هنا أمام حبكة مؤلفة من خطين سرديين متوازيين تتفرع منهما بعض الخطوط الثانوية، قبل أن تلتقي كل الخطوط في النهاية، ويمكننا تشريح هذين الخطين على الشكل التالي :
الخط الأول : تدور أحداثه عام 2012، بعد العثور على اللوحة الغامضة وشروع الدكتورة ياسمين في دراستها والعمل على حل لغزها في أجواء يمتزج فيها التشويق بالبصمة البوليسية، مع توظيف للراوي العليم كتقنية سردية، هنا ندخل كقراء إلى عوالم الفن التشكيلي، الأسرار المحيطة به، تقنيات الرسم ومزج الألوان، الحياة الغامضة للفنانين الذين كتب على بعضهم العيش كمغمورين قبل اعتراف العالم بعبقريتهم، كل هذا اعتمادا على المجهود الواضح الذي قدمته الكاتبة في البحث المتخصص لتقريبنا من هذا الجو الساحر، لكنها لم تكتف بذلك، بل قدمت لنا ياسمين كشخصية مركبة، تتوزع حياتها بين عملها من جهة ومشاكلها الشخصية المرتبطة بعلاقة الحب المعقدة التي تجمعها بشريف المهندس المعماري والمريد الصوفي من جهة أخرى، علاقة يؤثر عليها ماضي ياسمين الأسود والملطخ بدماء والدتها المنتحرة، مع حضور ثانوي لجدتها صعبة الطباع، وهو ما استغلته الكاتبة لعرض وجهات نظر متباينة حول غموض العلاقات الحالية المتأرجحة بين الصداقة والحب، سطحية العصر المادي واعتماده على المظهر عوض الجوهر، مع محاولة عرض الصوفية كحل بديل لكل مشاكل هذا العصر.
الخط الثاني : تدور أحداثه عام 1798، مع دخول قوات نابليون بونابرت إلى مصر، هنا تنتقل الكاتبة من تقمص وظيفة الباحثة الفنية التي تعرفنا على أسرار هذا العالم إلى تسلم مهام المؤرخة التي تكشف لنا كما هائلا من المعلومات التاريخية حول هذه الحقبة التي كتب عنها الكثير، مع تسليط الضوء على الجزئية التي أسالت مدادا كثيرا، حول علاقة مفترضة بين فتاة مصرية ونابليون نفسه، تراوحت الشائعات حولها بين اقتصارها على الإعجاب ووصولها إلى علاقة كاملة كانت ثمرتها ابنة مجهولة (يمكن في هذا الصدد مراجعة رواية ابنة بونابرت المصرية – شربل داغر – المركز الثقافي العربي – ط1 2016).
هنا ينقسم الخط نفسه إلى شقين أساسيين، الأول تمت المحافظة فيه على تقنية الراوي العليم، ويتناول حياة زينب ابنة الشيخ البكري، الانتهازي الذي وجد في حملة نابليون فرصة سانحة للبحث عن السلطة والجاه، ولو كان ذلك على حساب كرامته ودينه وعرضه ومجتمعه، عندما لم يجد بدا من تقديم ابنته على طبق من ذهب للجنرال الفرنسي الباحث عن المتعة أو ربما الانتقام من معشوقته الشهيرة جوزفين التي علم بخيانتها له وهو في مصر، فيما وجدت زينب في هذه الحياة الجديدة فرصتها في الانعتاق من قيود مجتمعها وقائمة ممنوعاته الطويلة، لتظهر الكاتبة هنا تفوقا في لعبة السرد، من خلال عرضها لمختلف وجهات النظر حول تصرفات زينب غير المألوفة خاصة بعد تواتر الإشاعات حول طبيعة علاقتها بنابليون ثم الرسام ألتون جيرمان فيما بعد، وأيضا الموقف بشكل عام من الحملة الفرنسية بين مؤيد ومعارض، بحجج متينة وقوية تجعل القارئ نفسه حائرا بين الآراء أيها يقتنع به ويتبناه !
أما الشق الثاني فقد استخدمت فيه الكاتبة تقنية سردية بضمير المتكلم، من خلال عرض ما يمكن اعتبارها مذكرات كتبها الرسام ألتون جيرمان عاشق زينب منذ اختياره لمرافقة الحملة إلى وفاته على فراش المرض بعد إصابته بالطاعون إثر العودة الخائبة للجيش الفرنسي من عكا وحيفا، وهنا نرى بقلم واقعي حقيقة نابليون وأطماعه الاستعمارية التي بلغت حد الهوس، والدهاء الذي ميزه في تعامله مع المصريين ومحاولاته المتكررة لإيهام الجميع بأنهم يحترم الدين الإسلامي وأتباعه، رغبة منه في تطويع شعب لم يستسغ بسهولة الطريقة التي تم احتلاله بها، كل هذا مع رؤية متمعنة ومتفحصة تكشف الطريقة التي يرى بها الغرب نظراءه في الشرق.
يمكن القول أن الحبكة كانت متماسكة إلى حد كبير، كما أن الإيقاع تم ضبطه بالشكل الأمثل، خصوصا مع الصفحات الأخيرة التي شهدت تصاعدا في الأحداث وتساقطا في أحجار الدومينو التي شكلت أساس عقدة الرواية، سواء من ناحية فك ياسمين للغز اللوحة وانكشاف الضباب عن علاقتها المعقدة بشريف، أو من ناحية وفاة ألتون جرمان ووصول زينب ووالدها إلى المصير المحتوم الذي خلفه انسحاب نابليون وحملته من مصر، وضرورة الانتقام والقصاص من كل أولئك الذين ساعدوه أو سهلوا له مهمة السيطرة على البلاد،
قد يقول قائل أن المواضيع أو الثيمات الرئيسية التي عالجتها الرواية (الحملة الفرنسية الفرنسية على مصر وعلاقة نابليون بفتاة مصرية، التوجه الحالي بين الأدباء نحو توظيف الفن التشكيلي في الرواية، الصوفية...) ليست بجديدة وجرى التطرق لها سابقا، ربما هذا القول صحيح، لكن الإبداع يتجلى في القدرة على الجمع بين هذه المواضيع في قالب روائي واحد، وهو ما نجحت فيه الكاتبة إلى حد بعيد، لتكون بذلك "شغف" شغفا للقارئ الباحث عن الحبكة الممتعة، وأيضا نموذجا للرواية "المعلوماتية" التي تكرس القول بأن الرواية تعتبر حاليا موسوعة العصر الحديث.
عبد المجيد سباطة
كاتب مغربي
مجلة الامارات الثقافية