الكويت ـ «القدس العربي»: اختتمت الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي فعالياتها في محور أخير بعنوان «إبداع الشباب السردي في الكويت». فهما أول روايتين لشابين كويتيين تحصلان على تقدير عربي لافت، فرواية السنعوسي أول رواية كويتية تفوز بجائزة «بوكر» العربية، ورواية باسمة أول رواية كويتية تفوز بجائزة الشارقة للإبداع (الإصدار الأول). كما حظي العملان باهتمام واسع على مستوى النشر والمقروئية، حيث تخطت الأولى عشرين طبعة، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ السرد الكويتي ـ على حد علمي ـ أما الأخرى فصدرت منها طبعتان في الشارقة والقاهرة. ولعل مفارقة عابرة تفرض نفسها، وهي أن كلا العملين تمت طباعته خارج الكويت. وراعيت في الاختيار تباين المنظور الجنساني، فالأولى منسوبة إلى كاتب رجل، والأخرى إلى كاتبة امرأة. ما قد يضفي مزيدًا من الثراء على دراسة «الآخر» وفقًا لهويته الجنسانية. كلا العملين يؤشر بوضوح إلى تباين المنظور الجمالي، وهو ما نلحظه بسهولة بدءًا من الحجم، فالأول يندرج بامتياز تحت مسمى «الرواية» بطابعها الكلاسيكي، حيث يقع في حوالي 400 صفحة، والآخر يندرج أكثر تحت مسمى «القصة الطويلة» أو Novella، حيث يقع في حدود مئة صفحة.
مَن أنا.. من الآخر؟
وأضاف صالح، نجد سؤال الهوية الاول «من أنا؟» وهو، اللغز والمحير فالإنسان «يبحث، منذ البدايات، عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويته المشتتة، وقد جُمّعت وجرى فهمها أخيرًا»، كما يقول جان ـ فرانسوا ماركيه، ولعل مرد هذا التشتت أن «الذات» هي عينها «آخر» تبعًا للدوائر التي تتقاطع معها، فأنا كمواطن مصري أرى مَن ليس كذلك «آخر» بالنسبة إليّ، لكنني في الوقت نفسه بصفتي «مصريا مسلما» أصبح «آخر» بالنسبة إلى «المصري القبطي»، وهكذا يمتد التصنيف على الهوية ليشمل فريق كرة القدم الذي أشجعه. فمفهوما «الذات» و»الآخر» يدوران في فلك بعضهما بعضا، حضورًا وغيابًا، كمرآة عاكسة للهوية. وإذا كانت مقولة سقراط ذائعة الصيت «إعرف نفسك» تبدو ملهمة لنا، فإن تلك المعرفة لا تتم إلا عبر مرآة «الآخر». وكثيرًا ما تكون الصور النمطية المشوهة التي نرسمها عن ذلك «الآخر» ـ في عمقها ـ تعبيرا عن تشوهات «الذات» عينها.
البامبو والحذاء
وقال صالح: إن الذات تعبر بالدرجة الأولى عن تصور ومشاعر ومدركات المرء عن نفسه، وتتجلى في السرد في صيغ متعددة كأن تكون ذات فاعلة أو ذات حالة كما يرى محمد القاضي، وقد تحيل إلى الراوي المهيمن بضمير الأنا، أو إلى البطل الذي يسعى إلى هدف بعينه، وما يحدث له من تحولات تنتهي به إلى «الإنجاز/الإخفاق». ومن الوارد بالطبع أن يتماهى صوت السارد مع البطل، كتجليين لـ»الذات» التي تحتل موقعًا مركزيًا في السرد. ويمكننا هنا أن نستنتج بسهولة أن «عيسى/جوزيه» يمثل الذات أو «الأنا» المركزية في رواية «ساق البامبو»، فهو السارد بضمير «الأنا»، وهو البطل في آن، يروي حكايته من دون وساطة من أحد: «اسمي Jose، هكذا يُكتب. ننطقه في الفلبين، كما في الإنكليزية، هوزيه. وفي العربية يصبح، كما في الإسبانية، خوسيه. وفي البرتغالية بالحروف ذاتها يُكتب، ولكنه ينطق جوزيه. أما هنا في الكويت، فلا شأن لكل تلك الأسماء باسمي إذ هو.. عيسى!». تلك الوضعية الكلاسيكية المبالغ في مركزيتها، جعلت لـ»عيسى» هيمنة مطلقة على السرد، فرأينا عبر عينيه عشرات الشخصيات، بكل ما يعتمل في دواخلها، وليس فقط وصفها خارجياً أو أثناء الفعل، وحتى الجزء المتعلق بشخصية والده الكويتي «راشد الطاروف» قبل مجيئه إلى الحياة، الذي روته له أمه الفلبينية جوزفين، أعاد «عيسى» روايته نقلاً عنها، بطريقته الخاصة. فالباعث وراء رحلة «عيسى» أو المرسل ، هي الأم «جوزفين» التي حفظت رسائل الأب وهويته، ورغبته في القيام بالبحث عن جذوره. هنا تصبح «الذات» الراوية، التي هي أيضًا مروي عنها، بمثابة «آخر» تمت موضعته على مسافة ما، بهدف الفهم والتأمل وتحليل ذلك الشعور العميق بالاغتراب بين هويتين: كويتية ـ فلبينية. ومقارنة بحميمية السرد بضمير «الأنا» في «ساق البامبو»، ابتعدت باسمة العنزي في روايتها «حذاء أسود على الرصيف» إلى الوراء خطوتين، واعتمدت ضمير الغياب، لتتخذ موضع كاميرا المراقبة التي تتابع على مدار الساعة ما يجري في الشركة الكبيرة «المعولمة» التي تضم «ألف شخص من ثلاثين جنسية» والمغروسة «بأناة في قلب منطقة صناعية ساحلية» . من ثم كرّست لمسافة بعيدة بين السارد والبطلة «جهاد»، على عكس «ساق البامبو»، مع ملاحظة أن بطلي الروايتين، تجمعهما الكويت كفضاء مؤقت/دائم، ويجمعهما أيضًا ذلك التذبذب بين هويتين، فإذا كان «عيسى» المولود في الفلبين على أقصى مسافة من الكويت، يحمل أوراقًا تؤكد أنه «كويتي»، فإن «جهاد» المولودة على أرض الكويت لأب فلسطيني، لا تحمل تلك الأوراق، أي أن كليهما منشطر في انتمائه وهويته. فوالدها الفلسطيني «هاجر في الخمسينيات من القرن الماضي للعمل في الكويت، وهو ابن السادسة عشرة ليعيل والدته وأخوته» واختيار هذا العقد تحديدًا دلالة على مرحلة ما قبل التأسيس الحديث للدولة، من إقرار الدستور وتشكيل الحكومة ومنح الجنسية، ومع ذلك لم يحصل عليها المهاجر الفلسطيني، ولم يتم إدماجه في المجتمع، بل حُكم عليه وعلى ابنته «جهاد» من بعده، أن تبقى «آخر»، رغم أنه قدم قبل إحصاء سنة 1965 ونجله (شقيق جهاد) كان أسيرًا إبان الاحتلال! في الروايتين يظهر عجز النظام الاجتماعي، عن دمج الآخرين، ما يؤشر على انغلاق الهوية، حتى لو أدى عدم اعتراف «الجدة غنيمة» بحفيدها الوحيد، إلى انقراض الذرية. فالمسألة ليست متعلقة فقط بصحة أوراق، بل بسطوة ملامحه الفلبينية التي لا تجعله يصلح وريثًا لآل «الطاروف»! أما ملامح «جهاد» القابلة للدمج، وولادتها في الكويت، فلم تشفعا لها طالما لا تملك «أوراقًا». كلا الأمرين، يشير بوضوح إلى تعقد قانون الهوية وصرامته، وتوهم نقائه. وتطابق حياة «عيسى» الهشة، حياة نبات «البامبو» الذي أصبح رمزًا معادلًا له، ومعبرًا عن مأساته. «لو كنت مثل نبتة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءًا من ساقها.. نغرسه، بلا جذور، في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلًا حتى تنبت له جذور جديدة». إذن عيسى يشبه ساق البامبو في كونه «بلا أرض»، ولا يشبهه في عجزه عن مد جذوره في أي أرض، ما يؤشر إلى أن سعيه نحو الهدف، أي الاعتراف به من قبل أسرته في الكويت، محكوم عليه بالإخفاق. كذلك من بين كل التفاصيل الأنثوية لـ»جهاد» يبرز حذاؤها الأسود في عنونة الرواية، وفي لحظتها المصيرية «فردة حذائها الأسود طارت بعيدة مستقرة على الرصيف، دماؤها الحارة على الإسفلت» إن «البامبو» و»الحذاء» هشان، بلا قيمة تذكر، كناية عن تشييء الذات وإبراز هوانها، في نظام طبقى صارم. وذكر صالح: إلى جانب صدارة «الآخر» العربي/الفلبيني، كـ»ذات» رئيسية في السرد، بما يشبه رد اعتبار لها، ثمة صورة ثالثة أصبحت نمطًا مكررًا في مدونة السرد الكويتي، وهي «صورة البدون» الذي يشبه المواطن شكلًا ولغة وتاريخًا وجذورًا، من دون أن ينال صك الاعتراف به، هكذا رأينا مأساة «غسان» البدون في «ساق البامبو» وخسارة حبيبته، وحياته الهامشية البائسة، رغم شعوره العميق بالانتماء للكويت، لكن بماذا يفيده وهو لا يحمل «ورقة إثبات الانتماء». فغسان الذي قاوم الاحتلال العراقي بكتابة القصائد الوطنية وتلحينها والانضمام إلى المقاومة، هو نفسه الذي لا يريد الزواج لأنه لا يرغب في توريث أبنائه جينة «البدون» المشوهة حتى لا يحطم آمالهم. يقابله في رواية باسمة «مهدي» المولود لأب قدم من جنوب العراق أواخر الستينيات وانخرط في السلك العسكري الكويتي وتزوج كويتية من أقاربه، وشارك في حرب أكتوبر بوصفه كويتيًا، مع ذلك كله أورث ذريته جينة «البدون»، ولأن أم مهدي كويتية ظل الأمل قائمًا بتصحيح الوضع ونيل ورقة إثبات الهوية. وتعطينا عين السارد في رواية باسمة، في ضربات سريعة، إشارات لما يعنيه أن تكون «بدون»، مثل السكن في الصليبية أو تيماء، والعمل في الحراسة والأمن «يتصدون للحرائق وتوقف المصاعد، وتسلل المجهولين، وتعطل أجهزة المرور الإلكترونية»، ورغم هذا الدور الحمائي لا يتمتعون بالاعتراف بهم، فوظيفتهم «حماية المكان الذي لا ينتمون إليه». ان الصور الثلاث المعبرة عن أزمة الهوية، تجسد لنا المجتمع/الشركة، بوصفه «الآخر» الجمعي بالغ القسوة والصرامة، وهو ما أدى في النهاية إلى إخفاق «عيسى» فعاد من حيث أتى، إلى الفلبين، قانعًا بعمق التجربة الروحية التي عاشها، متجاوزًا مسألة الاعتراف به، بمعنى أنه وهو يعيش في الفلبين يشجع بحماس مباريات المنتخب الكويتي ويطلق على ابنه اسم أبيه الكويتي «راشد». في المقابل لم تحصل «جهاد» على ذلك الشعور بالتصالح، فهي ظلت حتى آخر لحظة تحت هاجس الاستغناء عن خدماتها، ومعايشة قلق الوظيفة، فكل هدفها في الحياة ألا تكون ضمن «المُسرحين»، إلى أن تصدمها سيارة مسرعة، حيث يمر فايز مدير الشركة ويلمح سيارة إسعاف وتجمعًا بشريًا «من دون أن يثير فضوله»! هنا تتجلى المفارقة الأساسية التي تحكم الروايتين، وهي أن البطلين «عيسى/جهاد» يحتلان صدارة العالم السردي ـ تخييلًا ـ لكنهما في الواقع الاجتماعي يشغلان موقعًا بالغ التدني، إلى درجة النبذ وإلغاء الوجود.
العجز عن الحب
وحول عنصر الحب في الروايتين قال شريف صالح: هشاشة التركيب العاملي في الروايتين عمومًا ـ لا نشير إلى ذلك بوصفه عيبًا ـ انعكس بوجه عام على عملية الاتصال، وتحقق الرغبات، فالشخصيات مركزية وهامشية، تكاد أن تكون منغلقة على ذاتها، تجتر أزمتها، فليس فقط «عيسى» و»جهاد» هما من أخفقا، بل إن الإخفاقات تطال الجميع بمن فيهم شخص توفرت له كل سبل السعادة والنجاح والنفوذ مثل «أبو طارق». لا مجال هنا للتواصل، فعلى سبيل المثال يحب «مهدي» البدون المسؤولة الكبيرة في الشركة «أمواج»، لكنه يظل حبًا تخيليا، من دون أي تواصل بينهما. وكذلك قامت «أمواج» على عكس ما قد توحي به شخصيتها بإنقاذ «جهاد» من التسريح من العمل، وربما لو أبدت لها مسبقًا أي إشارة مساندة لأنقذتها من القلق النفسي والانهيار، وصولًا إلى المأساة التي انتهت إليها. أيضًا علاقة «غسان» البدون بـ»عيسى»، وعلاقة «عيسى نفسه بقريبته وحبيبته « ميرلا» مرتا بانتكاسات شديدة. ولا نستطيع هنا أن نتحدث عن كراهية صريحة، فعمات «عيسى» لا يكرهنه في ذاته، بقدر عجزهن عن التواصل معه وإعلان حبهن له، خوفًا من سطوة المجتمع، وتشويه صورتهن، وهو ما يظهر بجلاء في موقف العمة «نورية» منه، رغم أنها «ناشطة» سياسية يفترض أن تكون أكثر تفهمًا لحقوقه. ولعل من المشاهد اللافتة التي تؤشر إلى العجز عن الحب، واضطراب التواصل، ذلك المشهد الذي رسمه السنعوسي بالتفصيل عندما «عيسى» بتدليك قدمي جدته «غنيمة» فبعد أن رفضت في البداية، وافقت، وأثناء التدليك شعرت بالخجل، ثم شيئًا فشيئًا، تلاشى ذلك، واستسلمت لأصابع حفيدها، في دلالة على أن التواصل الجسدي يمكن أن ينجح في ما لا ينجح فيه أي تواصل آخر، ليختم عيسى المشهد بالقول: «لو كان تدليك ساقيها يقربني إليها لقضيت عمري كله في هذا العمل، وطالما لا يوجد مجال للتواصل، فلا مجال بالضرورة لتحقق الرغبات، فالجميع يعاني ـ بدرجات ـ صيغًا متنوعة من الإخفاق والهزيمة. وإذا كان النقد الموجه للمجتمع من كاتب وكاتبة كويتيين، فثمة سؤال يفرض نفسه لماذا لجأ كل منهما إلى إعطاء الصدارة في السرد لـ»آخر»؟ لقد لجأ السنعوسي إلى مجموعة حيل إطارية كي تبدو روايته، مخطوطة سيرية كتبها عيسى باللغة الفلبينية وترجمها شخص يدعى إبراهيم سلام، وراجعتها خولة راشد، وتم وضع تعريف ومقدمة باسم هذا المترجم. وهي حيلة، لا تعني أن السنعوسي يتنصل من مسؤوليته عن النص، بقدر ما تدفعنا إلى قراءة الرواية بمعزل عن شخصية كاتبها، وحتى لا تكون الرواية مرتعاً خصباً للنبش في سيرته. ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى باسمة العنزي، التي تجنبت الخوض المباشر في تضاريس المجتمع وهويته، كما فعل السنعوسي، بل اختارت «الشركة» الكبيرة نموذجًا مصغرًا عاكسًا له، يتيح لها أيضًا توجيه ما تشاء من نقد يشمل شرائح المجتمع الكويتي كله من كويتيين وبدون وعرب وأجانب.
فهما أول روايتين لشابين كويتيين تحصلان على تقدير عربي لافت، فرواية السنعوسي أول رواية كويتية تفوز بجائزة «بوكر» العربية، ورواية باسمة أول رواية كويتية تفوز بجائزة الشارقة للإبداع (الإصدار الأول). كما حظي العملان باهتمام واسع على مستوى النشر والمقروئية، حيث تخطت الأولى عشرين طبعة، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ السرد الكويتي ـ على حد علمي ـ أما الأخرى فصدرت منها طبعتان في الشارقة والقاهرة. ولعل مفارقة عابرة تفرض نفسها، وهي أن كلا العملين تمت طباعته خارج الكويت.
وراعيت في الاختيار تباين المنظور الجنساني، فالأولى منسوبة إلى كاتب رجل، والأخرى إلى كاتبة امرأة. ما قد يضفي مزيدًا من الثراء على دراسة «الآخر» وفقًا لهويته الجنسانية.
كلا العملين يؤشر بوضوح إلى تباين المنظور الجمالي، وهو ما نلحظه بسهولة بدءًا من الحجم، فالأول يندرج بامتياز تحت مسمى «الرواية» بطابعها الكلاسيكي، حيث يقع في حوالي 400 صفحة، والآخر يندرج أكثر تحت مسمى «القصة الطويلة» أو Novella، حيث يقع في حدود مئة صفحة.
مَن أنا.. من الآخر؟
وأضاف صالح، نجد سؤال الهوية الاول «من أنا؟» وهو، اللغز والمحير فالإنسان «يبحث، منذ البدايات، عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويته المشتتة، وقد جُمّعت وجرى فهمها أخيرًا»، كما يقول جان ـ فرانسوا ماركيه، ولعل مرد هذا التشتت أن «الذات» هي عينها «آخر» تبعًا للدوائر التي تتقاطع معها، فأنا كمواطن مصري أرى مَن ليس كذلك «آخر» بالنسبة إليّ، لكنني في الوقت نفسه بصفتي «مصريا مسلما» أصبح «آخر» بالنسبة إلى «المصري القبطي»، وهكذا يمتد التصنيف على الهوية ليشمل فريق كرة القدم الذي أشجعه. فمفهوما «الذات» و»الآخر» يدوران في فلك بعضهما بعضا، حضورًا وغيابًا، كمرآة عاكسة للهوية.
وإذا كانت مقولة سقراط ذائعة الصيت «إعرف نفسك» تبدو ملهمة لنا، فإن تلك المعرفة لا تتم إلا عبر مرآة «الآخر». وكثيرًا ما تكون الصور النمطية المشوهة التي نرسمها عن ذلك «الآخر» ـ في عمقها ـ تعبيرا عن تشوهات «الذات» عينها.
البامبو والحذاء
وقال صالح: إن الذات تعبر بالدرجة الأولى عن تصور ومشاعر ومدركات المرء عن نفسه، وتتجلى في السرد في صيغ متعددة كأن تكون ذات فاعلة أو ذات حالة كما يرى محمد القاضي، وقد تحيل إلى الراوي المهيمن بضمير الأنا، أو إلى البطل الذي يسعى إلى هدف بعينه، وما يحدث له من تحولات تنتهي به إلى «الإنجاز/الإخفاق». ومن الوارد بالطبع أن يتماهى صوت السارد مع البطل، كتجليين لـ»الذات» التي تحتل موقعًا مركزيًا في السرد.
ويمكننا هنا أن نستنتج بسهولة أن «عيسى/جوزيه» يمثل الذات أو «الأنا» المركزية في رواية «ساق البامبو»، فهو السارد بضمير «الأنا»، وهو البطل في آن، يروي حكايته من دون وساطة من أحد: «اسمي Jose، هكذا يُكتب. ننطقه في الفلبين، كما في الإنكليزية، هوزيه. وفي العربية يصبح، كما في الإسبانية، خوسيه. وفي البرتغالية بالحروف ذاتها يُكتب، ولكنه ينطق جوزيه. أما هنا في الكويت، فلا شأن لكل تلك الأسماء باسمي إذ هو.. عيسى!».
تلك الوضعية الكلاسيكية المبالغ في مركزيتها، جعلت لـ»عيسى» هيمنة مطلقة على السرد، فرأينا عبر عينيه عشرات الشخصيات، بكل ما يعتمل في دواخلها، وليس فقط وصفها خارجياً أو أثناء الفعل، وحتى الجزء المتعلق بشخصية والده الكويتي «راشد الطاروف» قبل مجيئه إلى الحياة، الذي روته له أمه الفلبينية جوزفين، أعاد «عيسى» روايته نقلاً عنها، بطريقته الخاصة. فالباعث وراء رحلة «عيسى» أو المرسل ، هي الأم «جوزفين» التي حفظت رسائل الأب وهويته، ورغبته في القيام بالبحث عن جذوره.
هنا تصبح «الذات» الراوية، التي هي أيضًا مروي عنها، بمثابة «آخر» تمت موضعته على مسافة ما، بهدف الفهم والتأمل وتحليل ذلك الشعور العميق بالاغتراب بين هويتين: كويتية ـ فلبينية.
ومقارنة بحميمية السرد بضمير «الأنا» في «ساق البامبو»، ابتعدت باسمة العنزي في روايتها «حذاء أسود على الرصيف» إلى الوراء خطوتين، واعتمدت ضمير الغياب، لتتخذ موضع كاميرا المراقبة التي تتابع على مدار الساعة ما يجري في الشركة الكبيرة «المعولمة» التي تضم «ألف شخص من ثلاثين جنسية» والمغروسة «بأناة في قلب منطقة صناعية ساحلية» .
من ثم كرّست لمسافة بعيدة بين السارد والبطلة «جهاد»، على عكس «ساق البامبو»، مع ملاحظة أن بطلي الروايتين، تجمعهما الكويت كفضاء مؤقت/دائم، ويجمعهما أيضًا ذلك التذبذب بين هويتين، فإذا كان «عيسى» المولود في الفلبين على أقصى مسافة من الكويت، يحمل أوراقًا تؤكد أنه «كويتي»، فإن «جهاد» المولودة على أرض الكويت لأب فلسطيني، لا تحمل تلك الأوراق، أي أن كليهما منشطر في انتمائه وهويته. فوالدها الفلسطيني «هاجر في الخمسينيات من القرن الماضي للعمل في الكويت، وهو ابن السادسة عشرة ليعيل والدته وأخوته» واختيار هذا العقد تحديدًا دلالة على مرحلة ما قبل التأسيس الحديث للدولة، من إقرار الدستور وتشكيل الحكومة ومنح الجنسية، ومع ذلك لم يحصل عليها المهاجر الفلسطيني، ولم يتم إدماجه في المجتمع، بل حُكم عليه وعلى ابنته «جهاد» من بعده، أن تبقى «آخر»، رغم أنه قدم قبل إحصاء سنة 1965 ونجله (شقيق جهاد) كان أسيرًا إبان الاحتلال! في الروايتين يظهر عجز النظام الاجتماعي، عن دمج الآخرين، ما يؤشر على انغلاق الهوية، حتى لو أدى عدم اعتراف «الجدة غنيمة» بحفيدها الوحيد، إلى انقراض الذرية. فالمسألة ليست متعلقة فقط بصحة أوراق، بل بسطوة ملامحه الفلبينية التي لا تجعله يصلح وريثًا لآل «الطاروف»! أما ملامح «جهاد» القابلة للدمج، وولادتها في الكويت، فلم تشفعا لها طالما لا تملك «أوراقًا». كلا الأمرين، يشير بوضوح إلى تعقد قانون الهوية وصرامته، وتوهم نقائه.
وتطابق حياة «عيسى» الهشة، حياة نبات «البامبو» الذي أصبح رمزًا معادلًا له، ومعبرًا عن مأساته. «لو كنت مثل نبتة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءًا من ساقها.. نغرسه، بلا جذور، في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلًا حتى تنبت له جذور جديدة». إذن عيسى يشبه ساق البامبو في كونه «بلا أرض»، ولا يشبهه في عجزه عن مد جذوره في أي أرض، ما يؤشر إلى أن سعيه نحو الهدف، أي الاعتراف به من قبل أسرته في الكويت، محكوم عليه بالإخفاق. كذلك من بين كل التفاصيل الأنثوية لـ»جهاد» يبرز حذاؤها الأسود في عنونة الرواية، وفي لحظتها المصيرية «فردة حذائها الأسود طارت بعيدة مستقرة على الرصيف، دماؤها الحارة على الإسفلت» إن «البامبو» و»الحذاء» هشان، بلا قيمة تذكر، كناية عن تشييء الذات وإبراز هوانها، في نظام طبقى صارم.
وذكر صالح: إلى جانب صدارة «الآخر» العربي/الفلبيني، كـ»ذات» رئيسية في السرد، بما يشبه رد اعتبار لها، ثمة صورة ثالثة أصبحت نمطًا مكررًا في مدونة السرد الكويتي، وهي «صورة البدون» الذي يشبه المواطن شكلًا ولغة وتاريخًا وجذورًا، من دون أن ينال صك الاعتراف به، هكذا رأينا مأساة «غسان» البدون في «ساق البامبو» وخسارة حبيبته، وحياته الهامشية البائسة، رغم شعوره العميق بالانتماء للكويت، لكن بماذا يفيده وهو لا يحمل «ورقة إثبات الانتماء». فغسان الذي قاوم الاحتلال العراقي بكتابة القصائد الوطنية وتلحينها والانضمام إلى المقاومة، هو نفسه الذي لا يريد الزواج لأنه لا يرغب في توريث أبنائه جينة «البدون» المشوهة حتى لا يحطم آمالهم. يقابله في رواية باسمة «مهدي» المولود لأب قدم من جنوب العراق أواخر الستينيات وانخرط في السلك العسكري الكويتي وتزوج كويتية من أقاربه، وشارك في حرب أكتوبر بوصفه كويتيًا، مع ذلك كله أورث ذريته جينة «البدون»، ولأن أم مهدي كويتية ظل الأمل قائمًا بتصحيح الوضع ونيل ورقة إثبات الهوية.
وتعطينا عين السارد في رواية باسمة، في ضربات سريعة، إشارات لما يعنيه أن تكون «بدون»، مثل السكن في الصليبية أو تيماء، والعمل في الحراسة والأمن «يتصدون للحرائق وتوقف المصاعد، وتسلل المجهولين، وتعطل أجهزة المرور الإلكترونية»، ورغم هذا الدور الحمائي لا يتمتعون بالاعتراف بهم، فوظيفتهم «حماية المكان الذي لا ينتمون إليه».
ان الصور الثلاث المعبرة عن أزمة الهوية، تجسد لنا المجتمع/الشركة، بوصفه «الآخر» الجمعي بالغ القسوة والصرامة، وهو ما أدى في النهاية إلى إخفاق «عيسى» فعاد من حيث أتى، إلى الفلبين، قانعًا بعمق التجربة الروحية التي عاشها، متجاوزًا مسألة الاعتراف به، بمعنى أنه وهو يعيش في الفلبين يشجع بحماس مباريات المنتخب الكويتي ويطلق على ابنه اسم أبيه الكويتي «راشد».
في المقابل لم تحصل «جهاد» على ذلك الشعور بالتصالح، فهي ظلت حتى آخر لحظة تحت هاجس الاستغناء عن خدماتها، ومعايشة قلق الوظيفة، فكل هدفها في الحياة ألا تكون ضمن «المُسرحين»، إلى أن تصدمها سيارة مسرعة، حيث يمر فايز مدير الشركة ويلمح سيارة إسعاف وتجمعًا بشريًا «من دون أن يثير فضوله»! هنا تتجلى المفارقة الأساسية التي تحكم الروايتين، وهي أن البطلين «عيسى/جهاد» يحتلان صدارة العالم السردي ـ تخييلًا ـ لكنهما في الواقع الاجتماعي يشغلان موقعًا بالغ التدني، إلى درجة النبذ وإلغاء الوجود.
العجز عن الحب
وحول عنصر الحب في الروايتين قال شريف صالح: هشاشة التركيب العاملي في الروايتين عمومًا ـ لا نشير إلى ذلك بوصفه عيبًا ـ انعكس بوجه عام على عملية الاتصال، وتحقق الرغبات، فالشخصيات مركزية وهامشية، تكاد أن تكون منغلقة على ذاتها، تجتر أزمتها، فليس فقط «عيسى» و»جهاد» هما من أخفقا، بل إن الإخفاقات تطال الجميع بمن فيهم شخص توفرت له كل سبل السعادة والنجاح والنفوذ مثل «أبو طارق».
لا مجال هنا للتواصل، فعلى سبيل المثال يحب «مهدي» البدون المسؤولة الكبيرة في الشركة «أمواج»، لكنه يظل حبًا تخيليا، من دون أي تواصل بينهما. وكذلك قامت «أمواج» على عكس ما قد توحي به شخصيتها بإنقاذ «جهاد» من التسريح من العمل، وربما لو أبدت لها مسبقًا أي إشارة مساندة لأنقذتها من القلق النفسي والانهيار، وصولًا إلى المأساة التي انتهت إليها.
أيضًا علاقة «غسان» البدون بـ»عيسى»، وعلاقة «عيسى نفسه بقريبته وحبيبته « ميرلا» مرتا بانتكاسات شديدة. ولا نستطيع هنا أن نتحدث عن كراهية صريحة، فعمات «عيسى» لا يكرهنه في ذاته، بقدر عجزهن عن التواصل معه وإعلان حبهن له، خوفًا من سطوة المجتمع، وتشويه صورتهن، وهو ما يظهر بجلاء في موقف العمة «نورية» منه، رغم أنها «ناشطة» سياسية يفترض أن تكون أكثر تفهمًا لحقوقه.
ولعل من المشاهد اللافتة التي تؤشر إلى العجز عن الحب، واضطراب التواصل، ذلك المشهد الذي رسمه السنعوسي بالتفصيل عندما «عيسى» بتدليك قدمي جدته «غنيمة» فبعد أن رفضت في البداية، وافقت، وأثناء التدليك شعرت بالخجل، ثم شيئًا فشيئًا، تلاشى ذلك، واستسلمت لأصابع حفيدها، في دلالة على أن التواصل الجسدي يمكن أن ينجح في ما لا ينجح فيه أي تواصل آخر، ليختم عيسى المشهد بالقول: «لو كان تدليك ساقيها يقربني إليها لقضيت عمري كله في هذا العمل، وطالما لا يوجد مجال للتواصل، فلا مجال بالضرورة لتحقق الرغبات، فالجميع يعاني ـ بدرجات ـ صيغًا متنوعة من الإخفاق والهزيمة.
وإذا كان النقد الموجه للمجتمع من كاتب وكاتبة كويتيين، فثمة سؤال يفرض نفسه لماذا لجأ كل منهما إلى إعطاء الصدارة في السرد لـ»آخر»؟
لقد لجأ السنعوسي إلى مجموعة حيل إطارية كي تبدو روايته، مخطوطة سيرية كتبها عيسى باللغة الفلبينية وترجمها شخص يدعى إبراهيم سلام، وراجعتها خولة راشد، وتم وضع تعريف ومقدمة باسم هذا المترجم.
وهي حيلة، لا تعني أن السنعوسي يتنصل من مسؤوليته عن النص، بقدر ما تدفعنا إلى قراءة الرواية بمعزل عن شخصية كاتبها، وحتى لا تكون الرواية مرتعاً خصباً للنبش في سيرته.
ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى باسمة العنزي، التي تجنبت الخوض المباشر في تضاريس المجتمع وهويته، كما فعل السنعوسي، بل اختارت «الشركة» الكبيرة نموذجًا مصغرًا عاكسًا له، يتيح لها أيضًا توجيه ما تشاء من نقد يشمل شرائح المجتمع الكويتي كله من كويتيين وبدون وعرب وأجانب.