منذ استهلالها، تسحب رواية (حذاء أسود على الرصيف) قارئها لمتابعة تفاصيل الحياة وشؤونها اليومية، فترسم صورة مدينة مفعمة بالحركة، ثم تُقرّب عدسة السرد نحو إحدى الشركات الكبيرة في هذه المدينة، لتُكوّن فضاء الرواية الحكائي. تلك الشركة ما هي إلا عجلة حياة مُصغّرة، تدور، وفي أعماقها يذوب الإنسان ويختفي اسمه، يتحول إلى بيانات إلكترونية في ذاكرة خفية لا تزول، «ألف شخص من ثلاثين جنسية مختلفة، يمررون بطاقاتهم الممغنطة على أجهزتها قبل أن تبتلعهم المهام داخل المكاتب المتراصة يوماً بعد آخر»، فالكل هنا مجرد تروس صغيرة في آلة ضخمة لا تكفُّ عن الدوران. حازت رواية (حذاء أسود على الرصيف) للكاتبة الكويتية باسمة العنزي على إحدى جوائز مسابقة الشارقة للإبداع العربي في دورتها السادسة عشرة، وصدرت عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة هذا العام. قسّمت الكاتبة الرواية إلى إحدى وعشرين فصلاً قصيراً حمل كل منها عنواناً فرعياً، ينتقل السارد العليم بين هذه الفصول ليُعطي مشاهد مختلفة من حياة الشركة: مشهد تظهر فيه موظفة اسمها (جهاد) تعيد ترتيب مكتبها، وتستعد لاستقبال العملاء. مشهد آخر للمدير، يلقي خطاباً في حشد من قياديي الشركة، (الدكتور فايز) صاحب الكاريزما والناجح في كل شيء. نشاهد، أيضاً، (أمواج) المديرة في قسم الموارد البشرية، المرأة الثلاثينية القوية، والمتحررة، وكذلك (زيد) ناقل الأخبار والإشاعات بين الموظفين والذي يلعب دور المهرّج لمن هم فوقه... وهكذا، وهي بذلك تفيد من تقنيات السرد السينمائية، بإدخال خاصية المونتاج على الأحداث، التي تندفع في خطوط متوازية، على امتداد الرواية، لتلتقي في خاتمتها المُغلقة. تسير الأحداث اليومية وتتراكم تفاصيل الحياة المهنية في هذه الشركة العملاقة بسلاسة سردية واضحة، لغة مألوفة ومحببة، تصف الأحداث والأشياء كما هي، وتذهب بعيداً في أعماق بعض الشخصيات، لتُظهر ما يعتمل في بواطنها من عواطف وهواجس ونوازع وطموحات، مستفيدة من سطوة الراوي العليم في الكشف عن تلك المكنونات. لكن بعض المفاصل المهمة التي تناولتها الرواية كان يعوزها الإشباع والتوسع أحياناً، خاصة أن الشخصيات كانت غنية ومُحفّزة على السرد، غير أنّ السارد مكث في حدود عوالمها المهنية، داخل الشركة، في الغالب، ولم يُسهب الحديث في حيواتها العائلية مثلاً، أو الشخصيات التي تُحيط بها خارج أجواء العمل. الرواية، إذن، تنحو نحو التركيز والاختزال، وتتجه إلى غايتها النهائية دون الانشغال بزوائد حكائية جانبية، أو إسهاب في شؤون الحياة الأخرى. تُركّز الرواية كثيراً على أسماء الماركات العالمية للملابس والأحذية والحقائب والسيارات وغيرها من المُقتنيات، في إشارة للحياة الباذخة، والتفاوت الطبقي والمعيشي، فثمة بالمقابل من يعاني الضائقة والحرمان، وعلى ذلك تؤسس الرواية لاختلاف هوياتي منبعه أن «الثياب رمز للتعبير عن هوية الفرد»، وهي مقولة واقعية، فملابس الشخص هويته الأولى التي تقوم بمهمة التعريف به أمام الآخر، وهي تعكس انتماءه وأصوله ومرجعياته الثقافية ووضعه الاجتماعي. ذلك الحشد الذي تضمنته الرواية من الماركات الأجنبية يشير إلى مدى تغلغل الهوية العولمية في البلدان الشرقية، والخليجية منها بالخصوص، بما تبرزه من اقتفاء الإنسان لكل ما تنتجه العولمة من سلع أخذت ترسّخ الطابع الاستهلاكي في الإنسان وهو يلهث خلف موديلاتها المتجددة باستمرار. يتجسد ذلك، أيضاً، بواقع الشركة، التي مثلت الفضاء السردي للرواية، فهي شركة عابرة للحدود ومخترقة للهويات، تهدف إلى الانتشار والتوسع وكسب ود المستهلك في دول متباينة الثقافات، وتعكس بذلك نزوع الشركات الرأسمالية التي أخذت في ابتلاع العالم. تتطرق الرواية لقضية (البدون) تلك القضية الكبرى في حياة دولة الكويت، في خصوص شخصية (مهدي) وهو أحد أفراد الأمن في الشركة الكبيرة. وكذلك في شخصية (جهاد) التي ولدت في هذا البلد من أب فلسطيني، ولم تعرف غيره، فلم تزر فلسطين سوى مرة واحدة طوال حياتها، عندما كانت في الرابعة عشرة، ولا تكاد ترتبط بها إلا من خلال «أحاديث النازحين وأخبار الفضائيات ودروس التاريخ»، بل إن طلبها لزيارة جدتها المريضة هناك قد رُفض من الجهات الإسرائيلية ثلاث مرات؛ لذلك كانت ترجو أن تنال يوماً جنسية البلد الذي ولدت وعاشت فيه، لكنه لم يمنحها لها حتى النهاية. جهاد شخصية قلقة، كثيرة الكلام والتشكّي، بسبب مشاكلها الكثيرة وضائقتها المالية. تنتهي حياتها بحادث سير، فلا يلحظ مدير الشركة عند مروره قرب الحادث سوى فردة حذائها الأسود الملقى على الرصيف. تبرز الهوية الثقافية للشخصيات من خلال الأمثال الشعبية التي يرددونها، واللهجات واللغات التي يتحدثونها، «في بلد يتجاوز عدد الوافدين فيه عدد المواطنين»، أي أن هويته تتجه إلى أن تكون هجينة ومختلطة، تبعاً للتداخل بين الثقافات الوافدة إليه، وهو ما تسعى الجهات الرسمية إلى كبحه، من خلال وضعها قيوداً مشددة على منح الجنسية، ما خلق طبقة ثالثة في المجتمع، هي (البدون) الذين ولدوا ونشؤوا في هذا البلد، من آباء مهاجرين، ورغم أن عدداً كبيراً منهم قد أسهموا في بنائه والدفاع عنه وتحقيق إنجازات مختلفة لصالحه، لكنهم لا يحملون جنسيته، وهذا ما يثير التعاسة والحزن لديهم، إذ «لا أحد له حظٌّ رديء مثل طفلٍ يولد لأبٍ غير محدد الجنسية»، كما يدرك (مهدي)، فهو باقٍ هنا كالمُعلّق، بلا هوية تحميه، ولا يستطيع المُغادرة خارج الحدود أيضاً، إذ لا جوازات لمن هم مثله، فيعيش كما لو أنه واقعٌ في مصيدة كبيرة. إن مقاربة هاتين الشخصيتين القلقتين، (جهاد ومهدي)، تفضي إلى أن الإنسان بلا هوية محددة ينتمي إليها ويعتزّ بها، وتوفر له بالمقابل المأوى والملاذ الآمن، سيغدو مثل شيءٍ مُهملٍ مُلقىً على الرصيف، ولن يُعيره أحد أي اهتمام. باسمة العنزي تقدم نفسها، من خلال هذه الرواية، للقارئ العربي، بشكل جيد وواعد بروايات أهم، خصوصاً مع ما تمتلكه من أدوات سردية، ولغة مُيسّرة قريبة من واقعها، تحتفي بالحدث وتحرص على تطويره، منحتها إياها خبرتها السردية، فقد جاءت روايتها هذه بعد ثلاث مجموعات قصصية صدرت لها من قبل، هي: (الأشياء) و (حياة صغيرة خالية من الأحداث) و (يُغلق الباب على ضجر).
منذ استهلالها، تسحب رواية (حذاء أسود على الرصيف) قارئها لمتابعة تفاصيل الحياة وشؤونها اليومية، فترسم صورة مدينة مفعمة بالحركة، ثم تُقرّب عدسة السرد نحو إحدى الشركات الكبيرة في هذه المدينة، لتُكوّن فضاء الرواية الحكائي. تلك الشركة ما هي إلا عجلة حياة مُصغّرة، تدور، وفي أعماقها يذوب الإنسان ويختفي اسمه، يتحول إلى بيانات إلكترونية في ذاكرة خفية لا تزول، «ألف شخص من ثلاثين جنسية مختلفة، يمررون بطاقاتهم الممغنطة على أجهزتها قبل أن تبتلعهم المهام داخل المكاتب المتراصة يوماً بعد آخر»، فالكل هنا مجرد تروس صغيرة في آلة ضخمة لا تكفُّ عن الدوران.
حازت رواية (حذاء أسود على الرصيف) للكاتبة الكويتية باسمة العنزي على إحدى جوائز مسابقة الشارقة للإبداع العربي في دورتها السادسة عشرة، وصدرت عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة هذا العام.
قسّمت الكاتبة الرواية إلى إحدى وعشرين فصلاً قصيراً حمل كل منها عنواناً فرعياً، ينتقل السارد العليم بين هذه الفصول ليُعطي مشاهد مختلفة من حياة الشركة: مشهد تظهر فيه موظفة اسمها (جهاد) تعيد ترتيب مكتبها، وتستعد لاستقبال العملاء. مشهد آخر للمدير، يلقي خطاباً في حشد من قياديي الشركة، (الدكتور فايز) صاحب الكاريزما والناجح في كل شيء. نشاهد، أيضاً، (أمواج) المديرة في قسم الموارد البشرية، المرأة الثلاثينية القوية، والمتحررة، وكذلك (زيد) ناقل الأخبار والإشاعات بين الموظفين والذي يلعب دور المهرّج لمن هم فوقه... وهكذا، وهي بذلك تفيد من تقنيات السرد السينمائية، بإدخال خاصية المونتاج على الأحداث، التي تندفع في خطوط متوازية، على امتداد الرواية، لتلتقي في خاتمتها المُغلقة.
تسير الأحداث اليومية وتتراكم تفاصيل الحياة المهنية في هذه الشركة العملاقة بسلاسة سردية واضحة، لغة مألوفة ومحببة، تصف الأحداث والأشياء كما هي، وتذهب بعيداً في أعماق بعض الشخصيات، لتُظهر ما يعتمل في بواطنها من عواطف وهواجس ونوازع وطموحات، مستفيدة من سطوة الراوي العليم في الكشف عن تلك المكنونات. لكن بعض المفاصل المهمة التي تناولتها الرواية كان يعوزها الإشباع والتوسع أحياناً، خاصة أن الشخصيات كانت غنية ومُحفّزة على السرد، غير أنّ السارد مكث في حدود عوالمها المهنية، داخل الشركة، في الغالب، ولم يُسهب الحديث في حيواتها العائلية مثلاً، أو الشخصيات التي تُحيط بها خارج أجواء العمل. الرواية، إذن، تنحو نحو التركيز والاختزال، وتتجه إلى غايتها النهائية دون الانشغال بزوائد حكائية جانبية، أو إسهاب في شؤون الحياة الأخرى.
تُركّز الرواية كثيراً على أسماء الماركات العالمية للملابس والأحذية والحقائب والسيارات وغيرها من المُقتنيات، في إشارة للحياة الباذخة، والتفاوت الطبقي والمعيشي، فثمة بالمقابل من يعاني الضائقة والحرمان، وعلى ذلك تؤسس الرواية لاختلاف هوياتي منبعه أن «الثياب رمز للتعبير عن هوية الفرد»، وهي مقولة واقعية، فملابس الشخص هويته الأولى التي تقوم بمهمة التعريف به أمام الآخر، وهي تعكس انتماءه وأصوله ومرجعياته الثقافية ووضعه الاجتماعي.
ذلك الحشد الذي تضمنته الرواية من الماركات الأجنبية يشير إلى مدى تغلغل الهوية العولمية في البلدان الشرقية، والخليجية منها بالخصوص، بما تبرزه من اقتفاء الإنسان لكل ما تنتجه العولمة من سلع أخذت ترسّخ الطابع الاستهلاكي في الإنسان وهو يلهث خلف موديلاتها المتجددة باستمرار. يتجسد ذلك، أيضاً، بواقع الشركة، التي مثلت الفضاء السردي للرواية، فهي شركة عابرة للحدود ومخترقة للهويات، تهدف إلى الانتشار والتوسع وكسب ود المستهلك في دول متباينة الثقافات، وتعكس بذلك نزوع الشركات الرأسمالية التي أخذت في ابتلاع العالم.
تتطرق الرواية لقضية (البدون) تلك القضية الكبرى في حياة دولة الكويت، في خصوص شخصية (مهدي) وهو أحد أفراد الأمن في الشركة الكبيرة. وكذلك في شخصية (جهاد) التي ولدت في هذا البلد من أب فلسطيني، ولم تعرف غيره، فلم تزر فلسطين سوى مرة واحدة طوال حياتها، عندما كانت في الرابعة عشرة، ولا تكاد ترتبط بها إلا من خلال «أحاديث النازحين وأخبار الفضائيات ودروس التاريخ»، بل إن طلبها لزيارة جدتها المريضة هناك قد رُفض من الجهات الإسرائيلية ثلاث مرات؛ لذلك كانت ترجو أن تنال يوماً جنسية البلد الذي ولدت وعاشت فيه، لكنه لم يمنحها لها حتى النهاية. جهاد شخصية قلقة، كثيرة الكلام والتشكّي، بسبب مشاكلها الكثيرة وضائقتها المالية. تنتهي حياتها بحادث سير، فلا يلحظ مدير الشركة عند مروره قرب الحادث سوى فردة حذائها الأسود الملقى على الرصيف.
تبرز الهوية الثقافية للشخصيات من خلال الأمثال الشعبية التي يرددونها، واللهجات واللغات التي يتحدثونها، «في بلد يتجاوز عدد الوافدين فيه عدد المواطنين»، أي أن هويته تتجه إلى أن تكون هجينة ومختلطة، تبعاً للتداخل بين الثقافات الوافدة إليه، وهو ما تسعى الجهات الرسمية إلى كبحه، من خلال وضعها قيوداً مشددة على منح الجنسية، ما خلق طبقة ثالثة في المجتمع، هي (البدون) الذين ولدوا ونشؤوا في هذا البلد، من آباء مهاجرين، ورغم أن عدداً كبيراً منهم قد أسهموا في بنائه والدفاع عنه وتحقيق إنجازات مختلفة لصالحه، لكنهم لا يحملون جنسيته، وهذا ما يثير التعاسة والحزن لديهم، إذ «لا أحد له حظٌّ رديء مثل طفلٍ يولد لأبٍ غير محدد الجنسية»، كما يدرك (مهدي)، فهو باقٍ هنا كالمُعلّق، بلا هوية تحميه، ولا يستطيع المُغادرة خارج الحدود أيضاً، إذ لا جوازات لمن هم مثله، فيعيش كما لو أنه واقعٌ في مصيدة كبيرة.
إن مقاربة هاتين الشخصيتين القلقتين، (جهاد ومهدي)، تفضي إلى أن الإنسان بلا هوية محددة ينتمي إليها ويعتزّ بها، وتوفر له بالمقابل المأوى والملاذ الآمن، سيغدو مثل شيءٍ مُهملٍ مُلقىً على الرصيف، ولن يُعيره أحد أي اهتمام.
باسمة العنزي تقدم نفسها، من خلال هذه الرواية، للقارئ العربي، بشكل جيد وواعد بروايات أهم، خصوصاً مع ما تمتلكه من أدوات سردية، ولغة مُيسّرة قريبة من واقعها، تحتفي بالحدث وتحرص على تطويره، منحتها إياها خبرتها السردية، فقد جاءت روايتها هذه بعد ثلاث مجموعات قصصية صدرت لها من قبل، هي: (الأشياء) و (حياة صغيرة خالية من الأحداث) و (يُغلق الباب على ضجر).