«حذاء أسود على الرصيف» هو جديد باسمة العنزي، وكعهدنا بها لا تقدم إلا ما يستوقف القارئ الذي تجذبه لآلئ الأعماق حين تنهض مشرقة، ومن ثم كان صوابا أن يحظى هذا النص بجائزة الإبداع العربي في الشارقة. إن هذا النص المركز جدير بأكثر من وقفة، ولكن حسبنا في هذه الإطلالة السريعة أن نحوم حول أسواره العالية نختلس نظرات إلى مواقع الإبداع وجماليات هذا النص. تحذرنا باسمة العنزي، عن حق، في مقابلة لها، من سوء التفسير، وتتمنى أن تقرأ روايتها «دون محاولات ربطها بأي تفاصيل راهنة»، وفي هذا القول تنبيه على أنه ليس المهم أن ترقب وسطا حتى تحاكيه ولكن الأصل أن تستوعبه، تبتعد عنه لتقترب منه إلى حد المطابقة لجوهر القضية لا شكلها أو علاقاتها الساذجة بالواقع؛ فعلاقة المادة الخام بالتناول الفني مثل علاقة الأصباغ على خشبة مزج الألوان بعمل الرسام. ليست هذه وقفة تحليلية، ولكنها دعوة لقراءة وتأمل في بنية هذا النص الذي يقدم العالم مصغرا؛ شركة، نجمة الحاضر، موضة الخصخصة والعلمنة، لها وجهان: وجه إنساني، رحيم، لفتات خيرية، تتبرع، تنظم حملات التبرع بالدم، فحص سرطان الثدي، تشجع على الرشاقة. إنها حقا «تعتني بهم بقدر ما تستهلك من أعمارهم»!.. أما الوجه الآخر، في الداخل، عمل منتظم منضبط، آلي، جامد القلب مقياسه الوحيد ربح لا سقف له. و سنرى جانبا منه في هذا اليوم حين تتحدد مصائر البشر على ضوئه. جاءت مشاهد النص موزعة بإحكام على واحد وعشرين مشهدا، تبدو لنا وكأنها متوالية تتتابع بنسق محدد، وفي الوقت نفسه تقدم لنا وجوها متقابلة، بتقابلها تتجلّى حركة الصراع في الرواية. في البدء نوجه العناية هنا إلى دلالات عنوان كل مشهد على الشخصية المحورية من حيث تناغمه مع حاجتها وطبيعتها. ولأنها رواية أحداث يوم واحد، يأتي المشهد الافتتاحي: الأحد، بداية العمل الأسبوعي، به ومعه تتوالد الأحداث وبه تبلغ غايتها، هو المبدأ والختام، فالحد الزمني قوس يطوي الأحداث تحت جناحه. إنها بداية ونهاية كل شيء. وتأتي، بعد ذلك، المشاهد العشرون التالية موزعة، مثل عمل سيمفوني، على أربع حركات. أولى هذه الحركات تستغرق المشاهد الخمسة الأولى بتقديم الذوات أو الشخصيات الخمس الأساسية، تُقدم لنا مفردة، تغوص في داخلها مناجاة و كشفا، ينبسط عالمها الذي تتحرك فيه طولا وعرضا، «فمشروب الطاقة» هو حاجة الموظفة جهاد التي تسكن في القاع، فلسطينية كويتية، ملف جنسيتها على مكتب وزراء الداخلية «كل عام تعبره العناكب وتصفر أوراقه». زوج مريض، استغراقها في العمل يساوي محاولة القفز على أشواك الحياة، عين متطلعة إلى ما سيحدث. أما المشهد التالي «كريزما» فهو يليق ويناسب د. فايز، نموذج للبرجوازي، عفوا لاستحضاري هذا المصطلح القديم، الصعود الفردي، أردية المظاهر، ماركات التمييز أنوار كاشفة جاذبة بإشارات دالة: حذاؤه، بدلته، ساعته، سيجاره. هو واحد اخترق السياج، منفردا، إلى الأعلى بفضل تفوقه دراسيا وقطار المصادفة؛ فحصل على بطاقة يانصيب متعددة الاستخدامات، تحققت له صداقات في جامعة النخبة جعلته يقفز إلى الشبكة الأعلى، واحدا من أدوات الميكنة الضخمة، تبقيه أو تلقيه جانبا حين يستهلك عطاؤه.. «عطر» هو مشهد السكرتيرة الجميلة أمواج: فتاة ثلاثينية،جميلة، عزباء، أحيطت بسياج الشكوك، يتعمق هذا الانطباع بدخول هامش الإشارة إلى تلك الأم، ممثلة الأدوار الثانوية المتقاعدة. هذه الفتاة الجميلة، هي وجه آخر جميل المظهر، يكمل د. فايز، فهما معا أنامل هذه الشركة الظاهرة،هما معا، المظهر المتصدر لها، كلاهما غلاف يمكن إبقاؤه أو الاستغناء عنه في اللحظة المناسبة، يمثلان عطر الواجهة الذي يغطي على رائحة القبح. وبجوارهما، ظلهما، المهرج زيد، هي يحتفظ بها لجمالها، وهو يبقى بفضل تهريجه، فالكبار من حقهم أن يروا جميلا وأن يستمتعوا بالتهريج حتى تدخل البهجة إلى قلوبهم!. هذه البهجة المحروم منها كثيرون، فمشهد «مقدار الأمل» يقدم لنا مهدي: حارس الأمن، نموذج لوجوه جديدة لمظاهر الأمن، شباب مبتسم يليق بمثل هذه الشركة، بدون، يدرك أن لا أحد له حظ رديء مثل طفل يولد لأب « غير محدد الجنسية «يحمل تعاسة لا قيمة لها خارج فئته». فبه تركزت كل قضايا هذه الفئة لا يملك إلا الحلم، فيكون حلمه هو هذا العطر المتمثل بأمواج، فمثله لا وجود له إلا في دائرة الآمال: خبز المحرومين. وتختم المجموعة الخمسة بمشهد «الجوهرة»»، جوهرة أبي طارق، وهي جوهرة مزدوجة الدلالة، وجهها الأول هذه الشركة الضخمة، الناجحة من جهة، يقابلها في الجهة الأخرى تلك الفرس الأصيلة، وبين هذين تتحرك هذه الشخصية « هناك رابط بين الخيل وصاحبها، تماما كالرابط بين التاجر ومشاريعه، كلاهما يضفي الألق ويمنح البهجة «. وكما رُوِضت الخيل قديما، طَوّع أبو طارق وإخوته ثروة أبيهم؛ ذلل لهم السوق فامتطوا سرج السباق فيه. عندما تنتهي هذه الصورة المتسعة، المرصودة بعين كاميرا دقيقة، التي قدمت لنا الفرد في مواجهة ذاته، واقعه، خطواته القادمة وتوقعاته، تبدأ الحركة الثانية في ستة مشاهد، يعاد فيها كر حبات السبحة السابقة، الشخصيات الخمس ذاتها، هذه المرة من زاوية علاقاتها مع الخارج، خارج ذاتها، مع وسطها في هذه الشركة العملاقة، تأتي بترتيبها تتحرك مع أحداث هذا اليوم، الذي سيتكشف فيه أن مساء الذين في هذه الشركة لن يكون كصباحهم، يأتي صوت جهاد منبعثا من حياتها الخاصة الممتزجة بعملها، زوجها ومعاناته الصحية والعملية، مشكلتهما المعاشية، بين انتمائها ومرارة موقف قومها المخزي من احتلال الكويت، جرح داخلي صعب أن يتم تجاهله. لم يبق لها إلا الاستغراق في العمل إلى أقصى حد، حكايتها لا أحد يحب سماعـــها، «حكاية مكبوتة تضايقها إن لم تندلق من دلو البوح، الكلام لا يموت هذا ما تعرفه جيدا». تستعد لمقابلة السكرتيرة أمواج، تفكر بقرض جديد، دعاؤها «يامسهل»! تتمنى تَفَهُم وضعها. في مشهد «سيجار روميو وجولييت» يعود فايز وعالمه، علاقاته القبلية التي تقتنص فرصة الاستفادة منه، «الكل يظن نفسه أحق بقطعة صغيرة من حلوى المكان الباذخ، فقط لمعرفتهم بالمدير العام، ولو عبر علاقة دم شائكة خفف الزمن من تركيزها»، تضغط عليه ملاحظات العتب، كما يستهلكه العمل، يقف على بوابة اتخاذ قرارات قاسية، لا يعلم أن في المقابل هناك قرار آخر ينتظره. وكما أن الآمال الخائبة تطل مثل دخان متطاير فمهدي المحروم لا يجمعه بحلمه أمواج إلا مصعد منطلق ونغمة موبايل تذوب في «سكر العيون»، متجاوران غير متصلين. وفي مقابلة فنية دالة نجد أن مثل هذا المشهد يتكرر حين يجمع المصعد جهاد، الموظفة الصغيرة المهددة بالاستغناء عنها، بأبي طارق، لقاء الأدنى بالأعلى، اللقاء الطائر، التجاور المؤقت، دون التلامس والاتصال، وتبقى المسافات!. الحركة الثالثة من الرواية،المشاهد من 12 إلى 16، تمهد وتخطط لتحولات آتية تتحدد فيها المصائر، تترك أمواج نتائج تقييم الموظفين «باهتة قرب تمثال الكريستال، تنهض تاركة القرار الأخير لمن يصنع المشهد». وببرودة خارقة يصبح مصير الإنسان في هذه الشركة مرهونا بإشارة سيميائية، ثلاثة ألوان، مثل إشارات المرور: الأخضر من أظهر تمييزا، الأصفر أداء جيد يلزمه تطوير، الأحمر: من يتعين عليهم المغادرة. إنه منطق البقاء للأصلح. وتختم الرواية بالحركة الرابعة، في المشاهد الأربعة وفيها يتجلى المصير النهائي، تعود الشخصيات الخمس مرة أخرى، ولكنها عند حافة الهاوية، قمتها يتمثل في حركة الخروج والدخول؛ يدخل، بهوية مؤقتة، سليمان، رجل المرحلة القادمة بينما يغادر فايز المكان وهو جاهل لمصيره الذي يعد له، خروج مؤقت سيصبح دائما، هذا اليقين المرتكز على جهل المعلومة، يقابله جهل آخر معاكس له، فجهاد تغادر الشركة بيقين أن الإشارة الحمراء تنتظرها في الشركة مع أن حركة إنسانية من أمواج غيّرت مصيرها بتبديل حركة الألوان. نقطة بيضاء وموقف مشرف لأمواج، رغم قسوتها وكراهية الموظفين لها. جهلان ويقينان متعاكسان، بهما تتشكل مفارقة روائية دالة. ولكن هذا لا يلغي المصير المرسوم؛ فالاحباط يقود للموت. «سيارة نقل مسرعة تتجه نحو جهاد، «صوت احتكاك الفرامل ممتزجة بصرخة مذعورة تشطر اللحظة نصفين» لينسدل الجفنان على صمت ثقيل قبل أن يتسنى لها معرفة النتيجة، إنه «حذاء أسود على الرصيف».! وتختم المشاهد بمن يمسك الخيوط،أبوطارق الذي تلسعه نار مخاطر الرأسمالية، وكما أن الجوهرة، الخيل الأصيلة يدب إليها العمى فإن شركته الضخمة مخلخلة؛ تجني الخسارة بسبب شهية التوسع، تستعد لتلقي الضربة، لذا تُعد العدة لامتصاصها، وكما أن الشحنة الكهربائية الصاعقة تُدفع إلى القاع، يلقى بعبئها على الجانب الأدنى، فالتخلص من العاملين هو الحل الأول والأمثل، فتشكلت سيميائية الألوان، فالعقل الرأسمالي يحسن التخلص رغم الآلام. ليست هذه شركة، إنها روح حقبة كاملة طفحت أمراضها. هذه رواية رَسمٌ بامتياز، الصورة الدالة تتحرك نابضة بالحياة من خلال الكلمات، تتوافر فيها طوابع التناول الأدبي، ونكهة «أدبية الأدب» تتجلى في سرد هذه الرواية؛ رواية مركزة، مواقف متواشجة محكمة إحكام سوار حول معصم متوثب، منسوجة بلغة منمنمة، دقيقة، كلماتها تجوهرت وبرزت مكنوناتها في صياغات شعرية دقيقة، فليس من العجب أن تستدعي ذاكرتي، وأنا عندما أرفع عيني بعد قراءة الكلمة الأخيرة فيه، كلمات نزار قباني: كل الدروب أمامنا مسـدودة وخلاصنا في الرسم بالكلمات
الدكتور سليمان الشطي مجلة الكويت