قبل أكثر من عام أتيحت لي فرصة أن أعيد قراءة "السفينة" إحدى روايات عملاق الأدب "جبرا ابراهيم جبرا". من عادة هذا الأديب الفذ أن يكون سرده الروائي يسير في اتجاهات شتى، انطلاقاً من مكان واحد، ليسلك بعد ذلك طريقه نحو أزمنة متباينة في تعرجاتها وأشخاصها..
كانت السفينة المكان الذي اجتمع في محيطه عالم بشري يغوص بالتفاصيل الصغيرة وتتشكل شخصياته تبعاً لحالة الوفاق بين الواقع المعيش والجنوح إلى ما هو متخيل.
ولئن كانت شخصيات "السفينة" في أغلبها من الطبقة المترفة فإنها في رواية "حذاء أسود على الرصيف" لـ "باسمة العنزي" لم تكن تماماً على هذا النحو..
وكما فعل "جبرا" فعلت باسمة العنزي، فالشركة العملاقة (كما السفينة) صورة مفترضة لمجتمع صغير يضم بين زواياه التاجر الكويتي النافذ، والعامل البسيط والشاب البدون والمهاجرة الفلسطينية والعقول الإدارية البارعة.. ومثلما يظهر المكان واحداً يبدو الزمان كذلك، فقد برعت العنزي في الوقوف عند لحظة تبدأ مع بداية الأسبوع ثم تأخد مسارها نحو أحداث كثيرة متحولة، أبطالها شخصيات لا تتفق في أمزجتها وتختلف في انعطافاتها النفسية وهي تخوض سباقاً شرساً إما نحو الارتقاء أو نحو البقاء.. البقاء وحسب، كما هو حال "مهدي" الشاب العشريني "غير محدد الجنسية" الذي توقفت أحلامه عند وظيفة حارس أمن، وجهاد.. الفلسطينية التي يلازمها القلق باستمرار على مستقبلها الوظيفي.
ويكفي أن تكون عناية العنزي في انتقاء المفردة سبباً كافياً لقرءاة الرواية، فهي لم تتوقف عند مسألة السرد فقط، بل جنحت إلى ما هو أبعد، عندما أجادت (كعادتها) في الاستفادة من كثافة اللغة لخدمة مشروعها الأدبي.. وكان المدخل جاذباً إذ تقول:
الشمس في أرجوحتها، والمدينة تتثاءب عند استيقاظها مشيرة بيدها إلى الجموع لمطاردة التفاصيل في نهارات تتناسل دون أن يقلقها خفق الأقدام.
تتعدد المداخل مع كل فصل جديد، في سرد يتسم بالغزارة مع قصر الرواية (90 صفحة من القطع المتوسط) وقلة تفاصيلها، إذ لا تبدو المسألة مجرد انتقال من لحظة إلى أخرى بقدر ما هو تفكيك للبناء النفسي لكامل شخوصها. الدكتور فايز (المسؤول الأعلى في الشركة) ينتقل منتشياً من نجاح إلى نجاح، (اسمه يشير إلى ذلك) خططه لإنقاذ الشركة باهرة، عقله المدبر جعل رئيس مجلس الإدارة (أبو طارق) يتشبث به ويمنحه الثقة المطلقة، وهذا الأخير تاجر كويتي له ماله من النفوذ كحال أمثاله ممن تهابهم الدولة وتحسب لهم ألف حساب، يكفي أن يكون أحد ساكني منطقة الشويخ.
مهدي الفتى البدون، نزحت أسرة والده من جنوب العراق إلى الكويت قبل أن ينقضي عقد الستينات، وهو الآن يقاسي مشقة العيش بلا هوية، وشعلة الأمل في داخله تذوي.. رغم الحديث المتكرر عن منح الجنسية لأبناء الكويتية (وهو واحد منهم)، يشبه إلى حد كبير ماجد المهندس ويستمع لكاظم الساهر، رنة هاتفه النقال تتغير تبعاً لحالته العاطفية، فهو متيم بـ "أمواج" مسؤولة الموارد البشرية التي أربكت أحاسيسه، ولم يمنعه سوء الحال من أن يقع في هواها، أما هي (أمواج) فتبدو حازمة، لها حضور سينمائي، كما لها عداوات في كل زوايا الشركة، وبعد كل جولة تحدٍ تخرج أكثر صلابة.. لكن ذلك لم يكن حاجزاً أمام مهدي لكي تكون سيدة أمنياته، ويقرر المجازفة.. ويعبر جسراً خشبياً من جزيرته المرتبكة لمدينتها الباذخة قبل أن تطفأ أضواؤها ويجف البحر تحت قدميه ليطارد أحلامه بهدوء مجنون معوضاً بحبها كل رغباته المستحيلة.
وعنه نقرأ: تنقلب المنغصات لأمور عادية، يتجرد من خرائبه وانكساراته، لا يشغله كثيراً مستقبله الرمادي، البطاقة المدنية التي لا يمكنه استخراجها، الوعود المتكررة بتجنيس العسكريين البدون ممن شاركوا في الحروب، إزعاج أبناء أخته المطلقة (...) يتخفف من ثقل الأفكار المعتادة، يفك أزرار الشوق، يغمض عينيه، يلج مغارة سحرية محاطاً بالألحان مبللاً بالوله.
على الجانب الآخر.. هناك "جهاد" الفلسطينية المنتمية إلى مدينة نابلس، تكابد حتى لا تخسر وظيفتها، يكفيها عناء مرض زوجها المصري والأعباء المعيشية الكثيرة، ونظرة العداء التي يرمقها بها المجتمع منذ ما بعد أحداث الغزو العراقي للكويت.. لكنها في آخر المطاف تخسر حياتها بدلاً من أن تخسر الوظيفة، تغادر الشركة فتدهسها حافلة السائق الآسيوي، ويرتمي حذاؤها الأسود ليستقر فوق الرصيف وتسقط هي مضرجة بالدم على الأسفلت.
كذلك فإن الكاتبة أجادت في جعل أحداث الرواية مواكبة لظروف العالم المحيط.. فعلى الجانب المحلي هناك أزمات سياسية متتالية مرتبطة بمجلس الامة ونوابه الخمسين صانعي الفواصل المضحكة.. وعلى الصعيد الخارجي هناك الأزمة المالية العالمية وتبعاتها على الاقتصاد العالمي ككل.
قدمت العنزي من خلال هذه الرواية نموذجاً مصغراً للمجتمع الكويتي، برعت إلى حد ما في تفكيك طبقاته المتباينة، وتحليله نفسياً، موزعة الادوار بجدارة على شخصياتها.. وكل من هذه الشخصيات هي صورة طبق الأصل لواحدة أو أكثر تعيش ضمن حدود واقعنا.
"حذاء أسود على الرصيف".. التجربة الأولى لـ "باسمة العنزي" في كتابة الرواية، كانت جديرة بأن تحصد بها المركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع الأدبي.. وهي أيضاً جديرة بأن ترتقي بصاحبتها إلى طليعة كتاب الرواية خليجياً وعربيا.ً
موقع سبر
---
قبل أكثر من عام أتيحت لي فرصة أن أعيد قراءة "السفينة" إحدى روايات عملاق الأدب "جبرا ابراهيم جبرا".
من عادة هذا الأديب الفذ أن يكون سرده الروائي يسير في اتجاهات شتى، انطلاقاً من مكان واحد، ليسلك بعد ذلك طريقه نحو أزمنة متباينة في تعرجاتها وأشخاصها..
كانت السفينة المكان الذي اجتمع في محيطه عالم بشري يغوص بالتفاصيل الصغيرة وتتشكل شخصياته تبعاً لحالة الوفاق بين الواقع المعيش والجنوح إلى ما هو متخيل.
ولئن كانت شخصيات "السفينة" في أغلبها من الطبقة المترفة فإنها في رواية "حذاء أسود على الرصيف" لـ "باسمة العنزي" لم تكن تماماً على هذا النحو..
وكما فعل "جبرا" فعلت باسمة العنزي، فالشركة العملاقة (كما السفينة) صورة مفترضة لمجتمع صغير يضم بين زواياه التاجر الكويتي النافذ، والعامل البسيط والشاب البدون والمهاجرة الفلسطينية والعقول الإدارية البارعة..
ومثلما يظهر المكان واحداً يبدو الزمان كذلك، فقد برعت العنزي في الوقوف عند لحظة تبدأ مع بداية الأسبوع ثم تأخد مسارها نحو أحداث كثيرة متحولة، أبطالها شخصيات لا تتفق في أمزجتها وتختلف في انعطافاتها النفسية وهي تخوض سباقاً شرساً إما نحو الارتقاء أو نحو البقاء.. البقاء وحسب، كما هو حال "مهدي" الشاب العشريني "غير محدد الجنسية" الذي توقفت أحلامه عند وظيفة حارس أمن، وجهاد.. الفلسطينية التي يلازمها القلق باستمرار على مستقبلها الوظيفي.
ويكفي أن تكون عناية العنزي في انتقاء المفردة سبباً كافياً لقرءاة الرواية، فهي لم تتوقف عند مسألة السرد فقط، بل جنحت إلى ما هو أبعد، عندما أجادت (كعادتها) في الاستفادة من كثافة اللغة لخدمة مشروعها الأدبي.. وكان المدخل جاذباً إذ تقول:
الشمس في أرجوحتها، والمدينة تتثاءب عند استيقاظها مشيرة بيدها إلى الجموع لمطاردة التفاصيل في نهارات تتناسل دون أن يقلقها خفق الأقدام.
تتعدد المداخل مع كل فصل جديد، في سرد يتسم بالغزارة مع قصر الرواية (90 صفحة من القطع المتوسط) وقلة تفاصيلها، إذ لا تبدو المسألة مجرد انتقال من لحظة إلى أخرى بقدر ما هو تفكيك للبناء النفسي لكامل شخوصها.
الدكتور فايز (المسؤول الأعلى في الشركة) ينتقل منتشياً من نجاح إلى نجاح، (اسمه يشير إلى ذلك) خططه لإنقاذ الشركة باهرة، عقله المدبر جعل رئيس مجلس الإدارة (أبو طارق) يتشبث به ويمنحه الثقة المطلقة، وهذا الأخير تاجر كويتي له ماله من النفوذ كحال أمثاله ممن تهابهم الدولة وتحسب لهم ألف حساب، يكفي أن يكون أحد ساكني منطقة الشويخ.
مهدي الفتى البدون، نزحت أسرة والده من جنوب العراق إلى الكويت قبل أن ينقضي عقد الستينات، وهو الآن يقاسي مشقة العيش بلا هوية، وشعلة الأمل في داخله تذوي.. رغم الحديث المتكرر عن منح الجنسية لأبناء الكويتية (وهو واحد منهم)، يشبه إلى حد كبير ماجد المهندس ويستمع لكاظم الساهر، رنة هاتفه النقال تتغير تبعاً لحالته العاطفية، فهو متيم بـ "أمواج" مسؤولة الموارد البشرية التي أربكت أحاسيسه، ولم يمنعه سوء الحال من أن يقع في هواها، أما هي (أمواج) فتبدو حازمة، لها حضور سينمائي، كما لها عداوات في كل زوايا الشركة، وبعد كل جولة تحدٍ تخرج أكثر صلابة.. لكن ذلك لم يكن حاجزاً أمام مهدي لكي تكون سيدة أمنياته، ويقرر المجازفة.. ويعبر جسراً خشبياً من جزيرته المرتبكة لمدينتها الباذخة قبل أن تطفأ أضواؤها ويجف البحر تحت قدميه ليطارد أحلامه بهدوء مجنون معوضاً بحبها كل رغباته المستحيلة.
وعنه نقرأ:
تنقلب المنغصات لأمور عادية، يتجرد من خرائبه وانكساراته، لا يشغله كثيراً مستقبله الرمادي، البطاقة المدنية التي لا يمكنه استخراجها، الوعود المتكررة بتجنيس العسكريين البدون ممن شاركوا في الحروب، إزعاج أبناء أخته المطلقة (...) يتخفف من ثقل الأفكار المعتادة، يفك أزرار الشوق، يغمض عينيه، يلج مغارة سحرية محاطاً بالألحان مبللاً بالوله.
على الجانب الآخر.. هناك "جهاد" الفلسطينية المنتمية إلى مدينة نابلس، تكابد حتى لا تخسر وظيفتها، يكفيها عناء مرض زوجها المصري والأعباء المعيشية الكثيرة، ونظرة العداء التي يرمقها بها المجتمع منذ ما بعد أحداث الغزو العراقي للكويت.. لكنها في آخر المطاف تخسر حياتها بدلاً من أن تخسر الوظيفة، تغادر الشركة فتدهسها حافلة السائق الآسيوي، ويرتمي حذاؤها الأسود ليستقر فوق الرصيف وتسقط هي مضرجة بالدم على الأسفلت.
كذلك فإن الكاتبة أجادت في جعل أحداث الرواية مواكبة لظروف العالم المحيط.. فعلى الجانب المحلي هناك أزمات سياسية متتالية مرتبطة بمجلس الامة ونوابه الخمسين صانعي الفواصل المضحكة.. وعلى الصعيد الخارجي هناك الأزمة المالية العالمية وتبعاتها على الاقتصاد العالمي ككل.
قدمت العنزي من خلال هذه الرواية نموذجاً مصغراً للمجتمع الكويتي، برعت إلى حد ما في تفكيك طبقاته المتباينة، وتحليله نفسياً، موزعة الادوار بجدارة على شخصياتها.. وكل من هذه الشخصيات هي صورة طبق الأصل لواحدة أو أكثر تعيش ضمن حدود واقعنا.
"حذاء أسود على الرصيف".. التجربة الأولى لـ "باسمة العنزي" في كتابة الرواية، كانت جديرة بأن تحصد بها المركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع الأدبي.. وهي أيضاً جديرة بأن ترتقي بصاحبتها إلى طليعة كتاب الرواية خليجياً وعربيا.ً