في روايتها الأولى، «حذاء أسود على الرصيف»، الفائزة بالمركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع العربي، تتجوّل باسمة العنزي في دهاليز شبكات بنية عوالم الشركات الخاصة في الكويت، مسلطة عين كاميرتها الراصدة على كل كبيرة وصغيرة، ككاميرات الرقابة المعلقة في ردهات وأروقة الممرات، لحركة موظفي تلك الجزيرة العائمة، وحيواتهم المعلقة بين أدوار المبنى.
أقول جزيرة عائمة، لكون الشركة مكانا مستقلا، منفصلا عن البيئة المحيطة، محكوما بمنظومة خاصة من القوانين واللوائح والضوابط التي تحدد علاقات وحركات قاطني فضائه «الهتروتوبي»، على حد تعبير المفكر الفرنسي ميشال فوكو، في مقالة له ضمن كتابه «نظام الأشياء».
يلخّص فوكو خصاص الفضاء الهتروتوبيheterotopia (هترو بمعنى الآخر/المختلف، توبيا بمعنى المكان) واصفا أمكنة وفضاءات مغلقة مثل المصحات والحدائق والمتاحف والمكتبات وهي أماكن حاضنة تسيطر عليها قوى مهيمنة خاصة بها، تحددها ضوابط معينة، ضمن أسوار تفتح وتغلق، تجعل هذه الكيانات المستقلة بمعزل عن البيئة المحيطة بها.
دويلة صغيرة
تستهل الرواية بولوج الموظفين أبواب مبنى الشركة، بأعلامها المرفرفه، كدويلة صغيرة مزدهرة، يتغنى «الأطفال بإعلاناتها كنشيد وطني»، ليستقر كل في مكانته المخصصة داخل المبنى «ضمن مكعبات الزجاج الأنيقة». كل خاضع لهيكلية نظامية محددة، وبطاقة ممغنطة مخصصة لكل موظف تضمن حدود تحركه ضمن إدارته المتخصصة.
أما الشركة الأم فهي البوتقة الحاضنة المعنية بتسيير أمور حياة الموظفين أثناء ساعات العمل الطويلة؛ فهناك المطاعم المتعددة، والعيادة الطبية، والمسجد، والبنك، وحضانة أطفال، وسوبر ماركت، وحدائق تسر الناظرين.
كل هذا لراحة الموظف وخلق بيئة عمل مثالية.
لكن الهدف الأسمى هو زيادة الإنتاج بالتأكيد. فالرأسمالية الصاعدة ومصالح المساهمين ونسب الأرباح، هي التي تحدد من يبقى داخل الأسوار البرّاقة، ومن يُقذف خارجها.
سفينة النجاة القاسية
وقوانين ونظم إدارة الشركة لا تسمح بالتسيب أو انعدام دافع العمل، أو الانشغال بما لا يصبّ في دفع عجلة الإنتاج المربح، والموظف مرهون بطاقته الإنتاجية، كترس في عجلة طاحنة، لا مكان فيها لذوي الكفاءات المنخفضة، أو لأصحاب» نتائج اختبارات قياس الأداء» المتدنية.
وأنظمة كاميرات الرقابة الصارمة، تتربص بكل من تسول له نفسه التكاسل في الأداء. فسلطة الشركة بقوانينها المهيمنة، لا ترحم، عكس القطاع الحكومي، حيث الوظيفة صك خلاص استهلاكي مستديم، وسفينة نجاة لتأمين راتب مدى الحياة، ومقر للتواصل الاجتماعي أكثر من الإنتاج.
حكايا الموظفين
وفي خضم الحركة الإنتاجية للشركة، ترصد الرواية بعضا من حكايا الموظفين وأحلامهم.
يجمع المبنى الشرائح المختلفة من طبقات المجتمع: ابتداء من حراس الأمن البدون بابتساماتهم العريضة، إلى أمواج، المرأة الطموحة المثيرة، ذات الأساور الكارتيير والأظافر المطلية الحادة، التي يدفعها محرك واحد لتحقيق ما تصبو إليه من آخر أزياء الموضة، المال. هي نمط لنوع من النساء أفرزته الوفرة الاستهلاكية في الكويت المعاصرة. العزباء الحسناء أمواج لا تحتاج زواجا تقليديا. أو تنتظر رجلا مخلّصا. فهي تسافر وتتسوق وتلبس أثمن الماركات، وتحقّق أحلامها بجهدها الذاتي وطموحها اللامحدود.
أعلى وأسفل
وهناك جهاد، مثال للمرأة الوافدة الكادحة، فلسطينية، مواليد الكويت، التي تحلم بالجنسية الكويتية، وبرشفات قد تطالها من الطفرة الاستهلاكية، لكن معاشها يصب لسد مصاريف بيتها وإعالة زوجها المريض. وهناك من يقطن أعلى العليين، مثل المدير العام الأنيق دائما، الدكتور فايز، صاحب الابتسامة البرّاقة الهوليوودية، والسيجار الكوبي، والسيارة السريعة، والقرارات الميكيافيلية. ومثل رئيس مجلس الإدارة، أبو طارق، الذي يدير حبات مسبحته الثمينة بدقة وخفة وتنظيم تحريكه لعتلات مجلس إدارته. وهناك من يقبع في قاع أحشاء المبنى الأخطبوطي، كحارس الأمن، مهدي، المتيم العاشق لأمواج، التي لا تعي لوجوده بالتأكيد، أو تدرك أنه يتلصص عليها من خلال كاميرات المراقبة في زمن الحب التجسسي الالكتروني.
رواية متدفقة
«حذاء أسود على الرصيف» رواية متدفقة، مفعمة بآنية العصر، مسربلة بدلالات العولمة الاستهلاكية، وتمثل رصدا دقيقا لشراسة شبكات عوالم التجارة والاستهلاك وعلاقات العمل في الشركات العملاقة في القطاع الخاص في الكويت اليوم، وما تنتجها من تحولات اجتماعية وتأثيرات على الأنماط والسلوكيات الاستهلاكية، ودلالتها المجتمعية الراهنة. قد تكون مادة دسمة لأبحاث العلوم الاجتماعية الحديثة.
رواية تنتقل برشاقة إثر الأحذية التي تسير حثيثا عبر أبواب الشركة، فتقرّبنا من عوالم الأرواح الإنسانية التي تحملها هذه الأحذية، بتحولاتها، انكسارتها، أحلامها، وأسرارها الخفية.
في روايتها الأولى، «حذاء أسود على الرصيف»، الفائزة بالمركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع العربي، تتجوّل باسمة العنزي في دهاليز شبكات بنية عوالم الشركات الخاصة في الكويت، مسلطة عين كاميرتها الراصدة على كل كبيرة وصغيرة، ككاميرات الرقابة المعلقة في ردهات وأروقة الممرات، لحركة موظفي تلك الجزيرة العائمة، وحيواتهم المعلقة بين أدوار المبنى.
أقول جزيرة عائمة، لكون الشركة مكانا مستقلا، منفصلا عن البيئة المحيطة، محكوما بمنظومة خاصة من القوانين واللوائح والضوابط التي تحدد علاقات وحركات قاطني فضائه «الهتروتوبي»، على حد تعبير المفكر الفرنسي ميشال فوكو، في مقالة له ضمن كتابه «نظام الأشياء».
يلخّص فوكو خصاص الفضاء الهتروتوبيheterotopia (هترو بمعنى الآخر/المختلف، توبيا بمعنى المكان) واصفا أمكنة وفضاءات مغلقة مثل المصحات والحدائق والمتاحف والمكتبات وهي أماكن حاضنة تسيطر عليها قوى مهيمنة خاصة بها، تحددها ضوابط معينة، ضمن أسوار تفتح وتغلق، تجعل هذه الكيانات المستقلة بمعزل عن البيئة المحيطة بها.
دويلة صغيرة
تستهل الرواية بولوج الموظفين أبواب مبنى الشركة، بأعلامها المرفرفه، كدويلة صغيرة مزدهرة، يتغنى «الأطفال بإعلاناتها كنشيد وطني»، ليستقر كل في مكانته المخصصة داخل المبنى «ضمن مكعبات الزجاج الأنيقة». كل خاضع لهيكلية نظامية محددة، وبطاقة ممغنطة مخصصة لكل موظف تضمن حدود تحركه ضمن إدارته المتخصصة.
أما الشركة الأم فهي البوتقة الحاضنة المعنية بتسيير أمور حياة الموظفين أثناء ساعات العمل الطويلة؛ فهناك المطاعم المتعددة، والعيادة الطبية، والمسجد، والبنك، وحضانة أطفال، وسوبر ماركت، وحدائق تسر الناظرين.
كل هذا لراحة الموظف وخلق بيئة عمل مثالية.
لكن الهدف الأسمى هو زيادة الإنتاج بالتأكيد. فالرأسمالية الصاعدة ومصالح المساهمين ونسب الأرباح، هي التي تحدد من يبقى داخل الأسوار البرّاقة، ومن يُقذف خارجها.
سفينة النجاة القاسية
وقوانين ونظم إدارة الشركة لا تسمح بالتسيب أو انعدام دافع العمل، أو الانشغال بما لا يصبّ في دفع عجلة الإنتاج المربح، والموظف مرهون بطاقته الإنتاجية، كترس في عجلة طاحنة، لا مكان فيها لذوي الكفاءات المنخفضة، أو لأصحاب» نتائج اختبارات قياس الأداء» المتدنية.
وأنظمة كاميرات الرقابة الصارمة، تتربص بكل من تسول له نفسه التكاسل في الأداء. فسلطة الشركة بقوانينها المهيمنة، لا ترحم، عكس القطاع الحكومي، حيث الوظيفة صك خلاص استهلاكي مستديم، وسفينة نجاة لتأمين راتب مدى الحياة، ومقر للتواصل الاجتماعي أكثر من الإنتاج.
حكايا الموظفين
وفي خضم الحركة الإنتاجية للشركة، ترصد الرواية بعضا من حكايا الموظفين وأحلامهم.
يجمع المبنى الشرائح المختلفة من طبقات المجتمع: ابتداء من حراس الأمن البدون بابتساماتهم العريضة، إلى أمواج، المرأة الطموحة المثيرة، ذات الأساور الكارتيير والأظافر المطلية الحادة، التي يدفعها محرك واحد لتحقيق ما تصبو إليه من آخر أزياء الموضة، المال. هي نمط لنوع من النساء أفرزته الوفرة الاستهلاكية في الكويت المعاصرة. العزباء الحسناء أمواج لا تحتاج زواجا تقليديا. أو تنتظر رجلا مخلّصا. فهي تسافر وتتسوق وتلبس أثمن الماركات، وتحقّق أحلامها بجهدها الذاتي وطموحها اللامحدود.
أعلى وأسفل
وهناك جهاد، مثال للمرأة الوافدة الكادحة، فلسطينية، مواليد الكويت، التي تحلم بالجنسية الكويتية، وبرشفات قد تطالها من الطفرة الاستهلاكية، لكن معاشها يصب لسد مصاريف بيتها وإعالة زوجها المريض. وهناك من يقطن أعلى العليين، مثل المدير العام الأنيق دائما، الدكتور فايز، صاحب الابتسامة البرّاقة الهوليوودية، والسيجار الكوبي، والسيارة السريعة، والقرارات الميكيافيلية. ومثل رئيس مجلس الإدارة، أبو طارق، الذي يدير حبات مسبحته الثمينة بدقة وخفة وتنظيم تحريكه لعتلات مجلس إدارته. وهناك من يقبع في قاع أحشاء المبنى الأخطبوطي، كحارس الأمن، مهدي، المتيم العاشق لأمواج، التي لا تعي لوجوده بالتأكيد، أو تدرك أنه يتلصص عليها من خلال كاميرات المراقبة في زمن الحب التجسسي الالكتروني.
رواية متدفقة
«حذاء أسود على الرصيف» رواية متدفقة، مفعمة بآنية العصر، مسربلة بدلالات العولمة الاستهلاكية، وتمثل رصدا دقيقا لشراسة شبكات عوالم التجارة والاستهلاك وعلاقات العمل في الشركات العملاقة في القطاع الخاص في الكويت اليوم، وما تنتجها من تحولات اجتماعية وتأثيرات على الأنماط والسلوكيات الاستهلاكية، ودلالتها المجتمعية الراهنة. قد تكون مادة دسمة لأبحاث العلوم الاجتماعية الحديثة.
رواية تنتقل برشاقة إثر الأحذية التي تسير حثيثا عبر أبواب الشركة، فتقرّبنا من عوالم الأرواح الإنسانية التي تحملها هذه الأحذية، بتحولاتها، انكسارتها، أحلامها، وأسرارها الخفية.