كلمات
discussion
فصول مختارة من الكتاب
date
newest »
newest »
كُـنْمن المناسب أن نفتتح فصول هذا الكتاب، بالكلمة الافتتاحية للوجود، بحسب المفهوم العربى الإسلامى. وهى كلمة (كُنْ) التى تضم بين حرفيها، عالماً رحباً من الدلالات العميقة التى تغوص بجذورها، كما سنرى، حتى تصل إلى ماهو أسبق زمناً من ثقافتنا العربية الإسلامية. فنقول فى ذلك ، والله المستعان :
كان قدماءُ الفلاسفة اليونانيين من قبل الديانات (السماوية) يقرِّرون أن الوجود ابتدأ من الكلمة أو اللوجوس. وقد أضاف بعضهم عند تفسيره لنشأة الوجود، العقلَ أو (النوس) كمبدأ رئيسٍ يشارك (اللوجوس) فى التفسير الوجودى (الأنطولوجى) للعالم. وللفلاسفة اليونانيين أفكارٌ بديعة وتفانين، فى بيان انبثاق الموجودات عن الكلمة (اللوجوس) وفقاً للعقل (النوس) وهو ما يضيق المقام هنا عن الخوض فيه تفصيلاً ، ويمكن الرجوع بصدده إلى المصادر الخاصة بتاريخ الفلسفة اليونانية، لاسيما المصادر والمراجع التى أرَّخت لهذه الفلسفة فى طورها المبكر .
ثم جاء الفكرُ الدينى، ومن قبله جاءت النصوصُ اليهودية والمسيحية؛ لتأكيدً ماذهب إليه قدماء الفلاسفة، مع صرف المعنى إلى نواحٍ أخرى لم تكن تخطر للفلاسفة على بال . فعلى سبيل المثال، ابتدأ إنجيل يوحنا وهو أحد الأناجيل (الأربعة) المعتمدة عند المذاهب المسيحية كافة، بالآيات التى تقول: فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هـذا كان فى البدء عند الله، كل شئ به كان، وبغيره لم يكن شئ مما كان ..
وأول ما يلفتُ النظر فى الآية الأولى، من حيث اللغة العربية التى تُرجم إليها الإنجيل عن اليونانية (مع أن المسيح كان يتكلم بالآرامية !) أن الفعل كان جاء مذكَّراً، مع أنه يشير إلى الكلمة التى هى مؤنَّثة. ولايفوتنا أيضاً، أنّ قوله (فى البدء كان الكلمة) يطابق على المستوى العام، ما قرره الفلاسفة من قبل. لكنه سوف يتخذ مع الآيات التالية، مساراً جديداً تكون (الكلمة) فيه دالةً على شخص المسيح، الذى هو (ابن الله) كما صرَّحت بذلك الآية الحادية والثلاثون (الأخيرة) من الإصحاح العشرين من الإنجيل ذاته، حيث نقرأ : لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله، فإذا آمنتم نلتم باسمه الحياة. وفى خطوة تالية، سوف تُعلن الكنائس الأرثوذكسية إيمانها بأن المسيح (الكلمة) ليس ابن الله فحسب، وإنما هو الله ذاته! وبذلك صارت اللوجوس مرادفة للإله فى المعتقد الأرثوذكسى .. وتعنى كلمة الأرثوذكسية : الإيمان القويم .
وقد اقترن (النوس) بالكلمة فى أعمال الشرَّاح المتأخرين للأناجيل، وهو ما يظهر فى تفسير واحدٍ من أقطاب الكنيسة المصرية المعاصرين، الأب متى المسكين لإنجيل يوحنا، حيث يقول ما نصه : الآيات الأولى من إنجيل يوحنا، استعلانٌ لأعمق أسرار الله .. ثم يضيف: هذا هو يسوع المسيح فيما قبل التجسد، لم يره القديس يوحنا فى طبيعة البشر، بل فى طبيعة الله الكلية.. ليس إلها ثانياً، ولكن واحداً مع الله فى الألوهة، لايفارقه، كالكلمة فى (العقل) فلا العقل يوجد بدونه، ولا الكلمة توجد بدون العقل .. فهو إذن: الكلمة الكلية المطلقة، وهو: الكلمة فى مضمونها الكلى .
ونظراً لمحورية هذه المسألة فى العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، فإن الأب متى المسكين يضيف فى شرحه (معلومة) من شأنها تأكيد اقتران الكلمة و الله ، ويضفى على (الحقيقة) التى يقررها لمسةً سماوية، بقوله: لقد اتفق الآباء القدِّيسون الذين قدَّموا شرحاً لإنجيل يوحنا، خاصة ذهبى الفم وأغسطينوس، على أن هذه المقدمة للإنجيل ليست من وضع البشر، فهى تحمل طابع الإملاء من روح القدس([1:]).. وبحسب العقيدة الأرثوذكسية، فإن روح القدس هو الله أيضاً ، إذ هو الثلث الثالث فى ثالوث: الآب، الابن، روح القدس.
ومن قبل ظهور إنجيل يوحنا بقرابة خمسة قرون من الزمان، ابتدأت التوراة (أسفار موسى الخمسة) بالآيات الشهيرة فى مطلع سفر التكوين حيث نقرأ: فى البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظُلمةٌ، وروح الله يرفُّ على وجه المياه .. ومن الناحية الوجودية (الأنطولوجية) يمكن للوهلة الأولى رَدُّ المفهوم التوراتى لبدء الخلق، إلى التصور المصرى القديم لعملية نشأة الكون. ففى مصر القديمة، اعتقد الناسُ منذ وقت مبكر، أن الوجود ابتدأ من الماء، بفعل الشمس! فقد لاحظ المصرىُّ القديم أن منطقة (الدلتا) كانت فى الزمن القديم منطقة أحراشٍ ومستنقعات (خربة وخالية) بسبب اندياح ماء النيل هناك، قبل أن يحفر فرعيه المعروفين حالياً .. وكانت الشمس تسطع عليها، ولا تصل إلى قاعها من كثافة الأحراش (على وجه الغمر ظلمة). فكأن الشمس التى رسمها المصرى القديم مجنَّحة (ترفُّ على وجه المياه) هى مجلى الإله .. ومع توالى السنين والأزمنة، ظهرت الأرض أمام المصرى القديم، من الماء، بفعل السطوع الدائم للشمس (رع) التى هى المظهر المجنَّح للإله المختفى (آمون) و هى التى عَدَّها إخناتون من بعد ، صورة (آتون) الإله الأوحد. المهم، أن الوجود ابتدأ فى وعى المصرى القديم من الماء، وكانت (الكلمة) على نحو ما، هى الشمس المعبودة باعتبارها وجهاً للإله.
وقد صاغت التوراة ذلك كله، فى الآيات الأولى من (الكتاب المقدس) مثلما اقتبسته الفلسفة اليونانية المبكرة من المصريين. فكان ابتداء فلسفة اليونان كلها مع أول الفلاسفة (طاليس) الذى قضى فترة من حياته بمصر، وعاد لليونان، فافتتح هناك ما سوف يسمى (فلسفة) بمقولته الشهيرة: بدأ الوجود من الماء ، فالماءُ أصلُ الأشياء كلها .
ولأغراض عقائدية وتاريخية يطول شرحها، كان لابد للمسيحية أن تستقل بذاتها عن المفهوم التوراتى، من دون أن تفارقه تماماً. ولذلك فإن الآيات الأولى من سفر التكوين صار لها مفهومها الوجودى العام (الأنطولوجى) بينما نُظر إلى الآيات الأولى من إنجيل يوحنا على أساسٍ إلهىٍّ (ثيولوجى) فلم تعد اللوجوس أو الكلمة، ذات طبيعة مادية أرضية! وإنما صارت لها معانٍ ربانية .. وهو ما يظهر واضحاً فيما يقرِّره الأبُ متى المسكين ، أثناء شرحه سالف الذكر (المجلد الأول، ص 25) حيث يقول بوضوح: البدء فى إنجيل يوحنا، ليس هو البدء فى سفر التكوين؛ لأن بدء سفر التكوين هو الخَلْق، أى بدء الزمن، أما البدء فى إنجيل يوحنا، فهو ما قبل الخلق والزمن والتاريخ والإدراك، وليس قبل الخلق إلا الله! ولكن القديس يوحنا لم يكتب: فى البدء كان الله، لأنه لم يكن بصدد الحديث أو الإعلان عن الله. بل قال : فى البدء كان الكلمة، لأنه سيتكلم عن الخلق الذى تمَّ بكلمة الله، ولن يتوقف عند الخلق كسفر التكوين، بل سيتجاوزه إلى (الخلاص) الذى تم بتجسُّد الكلمة.
وهذا المفهوم للكلمة (المسيح) باعتبارها أصل الأشياء كلها، وبأنها موجودة أصلاً قبل الأشياء وبعدها؛ كان هو الأصل فيما قَرَّره صوفيةُ المسلمين بعد ذلك بزمن طويل، من قولهم بقِدَم (النور المحمدى) الذى أقاموا دليلهم عليه، بالحديث: كنتُ نبياً وآدم بين الطين والماء .. وهو اعتقادٌ تجلى أيضاً، عند بعض مذاهب الشيعة . غير أن ذلك كله، لايرتبط بشكل مباشر بما نحن بصدد الكلام عنه الآن، فلنرجع إلى ما كنا فيه؛ لتبيان صلة ما سبق ، بالمفهوم العربى / الإسلامى لكلمة كن .
تكمن الصلة بين الأمرين، فى أن الترجمات العربية لإنجيل يوحنا وهى بالطبع ترجمات قديمة تسبق ظهور الإسلام زمناً، استخدمت الفعل المذكر (كان) للإشارة إلى (الكلمة) المؤنثة، وهو ما فهم منه الناس أن المراد بالكلمة، هو يسوع (عيسى) المسيح. وهو الفهم الذى أكَّده الفكر الإسلامى، مستنداً إلى الآية القرآنية التى تصف السيد المسيح بأنه ]كلمةٌ منه[ أى من الله، وهو ليس (كلمة الله) أو : الله متجسداً فى الكلمة.
وقد ثارت خلال القرون الخمسة الأولى للمسيحية، خلافاتٌ لاحدود لها حول دلالة كون المسيح (كلمة) الله، وهل الكلمة تعنى (الأقنوم) أو (الطبيعة) أو (الابن) وهى الخلافات التى لم تنـته، إلا بعدما أنهت وحدةَ الكنيسة، وأدَّت إلى انقسامات مذهبية حادة، لا تزال آثارها مستمرةً إلى اليوم بين الكنائس، على النحو الذى سوف نعرض له تفصيلاً، فيما بعد. أما هنا، فنود الإشارة إلى أن القرآن الكريم قدَّم حلاً عبقرياً لمشكلة اللاهوت المسيحى الكبرى، حين عرض الأمر فى الآيات على النحو التالى : ]ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [
وقد جاء الإسلام ليؤكد أن الوجود بدأ بالكلمة، وهى فى الإسلام: كن .. قالها الله فابتدأ الوجود، ويقولها دائماً فيدوم الوجود. وقد أُشير إلى مسألة استمرار الخلق الإلهى فى الكون، بالآية القرآنية التى طالما وقف أمامها المسلمون متأمِّلين ومُؤوِّلين: ]قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا[ .. وبذلك، خرج أمر الكلمة عن الاقتصار على المسيح، إلى المعنى العام للوجود كله .
والكلمة (كن) فى الوعى الإسلامى لا تنقطع، وإلا انقطع الوجود. ومفهومُ الإيجاد بكن، استتر فى الفكر الإسلامى زمناً طويلاً؛ حتى مضت القرونُ التى جاءت بعدها جماعةٌ من كبار الصوفية الفلاسفة، فقالوا إن (الولى) يكتسب من الله قدرة الكلمة الخالقة. وهم يستندون فى ذلك للحديث القدسى: مازال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه .. ويكون عبداً ربانياً يقول للشئ كُن فيكون !
وهكذا صار (التكوين) شأناً إنسانياً مثلما هو شأنٌ إلهى، وإن شئت الدقة قلت: صارت (كن) عطيةً إلهيةً لخواص الأولياء. فاشترك الإنسانُ مع الله فى الإيجاد، وانفتح بهذا بابٌ واسعٌ للفاعلية الإنسانية التى تعلو حتى تقارب القدرة الإلهية، أو هى بعبارةٍ أخرى: تستعير من القدرة الإلهية، ما يتأكَّد به فعلُ الإنسان فى الأكوان ! غير أن هذا المفهوم الصوفى، لم يتطوَّر بالقدر الكافى فى ثقافتنا، ولم يتم تفعيله وتعميمه. ومن ثم، غاب مع الزمن، عن وعى الناس. بل تناساه الصوفية المتأخرون، مع أنه كان أحد الأفكار الصوفية الأساسية، عند متصوفة القرنين السادس والسابع الهجريين .
كانت (كن) حاضرة فى فكرنا، ثم صارت اليوم بعيدة عنا .. لم نعد نُعنى بالإيجاد، وتركنا للآخرين سلطة التكوين والتشكيل فينا. يقولون لنا (كونوا) فنكون ، على النحو الذى يريدونه .
خَبَـرُاختلفت الآراء حول ابن خلدون([2:]) ما بين متعصبٍ له ومتعصبٍ عليه، وهذا على كل حالٍ حالُ الناس مع الناس الذين نبغوا فى زمانهم، وصاروا علامات على طريق الإنسانية . وقد كان ابن خلدون ، بقطع النظر عن اختلاف الآراء فيه ، عبقرياً .. ومن آيات عبقريته ، قوله فى عبارة لافتةٍ للنظر، أوردها فى مقدمته الشهيرة، التى هى مقدمة (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر) نصُّها: حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنسانى ، الذى هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال([3:]) .. وفى قوله عمران العالم، إشارةٌ إلى العلم الجديد الذى اخترعه ابن خلدون، وذكر صراحةً أنه: لم يسبقه إليه أحد .. وهو (علم العمران) الذى نسميه اليوم علم الاجتماع .
ولسنا هنا بصدد الكلام عن (العلم) الجديد الذى ابتكره ابن خلدون وحدَّد فيه (القوانين) أو المبادئ التى تحكم قيام المجتمعات وسقوطها . وإنما مرادنا التوقف عند قوله: حقيقة التاريخ أنه خبر ! وهى عبارةٌ متقنةٌ فى صياغتها، تدعونا إلى كثير من التأمل .. فالتاريخ فى جوهره، ليس وقائع جرت فى الماضى، وليس أحداثاً متسلسلة حَدَثَتْ مع توالى الأيام والسنين، وليس حقائق لأمور طواها عنا الماضى القريب والبعيد؛ وإنما هو (خبر) وصلنا! أو هو (حكاية) مفردة، لواقعة واحدة من وقائع كثيرة. بعضها معروفٌ مشهورٌ، وبعضها الآخر مستورٌ مطمور، لأنه لم تصلنا عنه أخبار!
حقيقة التاريخ أنه خبر .. والخبرُ بحسب كلام ابن خلدون، والطبرى وابن النفيس من قبله، ليس مأمون الصدق. ولنتأمل قول ابن خلدون فى مقدمته، استكمالاً لعباراته السابقة: الكذب متطرق إلى (الخبر) بطبعه، ولذلك أسباب، منها التشيعات للآراء والمذاهب، والثقة بالناقلين، والذهول عن المقاصد. فكثير من الناقلين لايعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما فى ظنه وتخمينه ، فيقع فى الكذب.
هذا كلام ابن خلدون بنصِّه، وهو يكاد يطابق فى معناه، ما يذكره الإمام الطبرى، حين يقول متبرئاً مما قد يَرِدُ فى كتابه من أخبارٍ كاذبة : العلمُ بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء المُحْدَثِين، غيرُ واصلٍ إلا بإخبار المُخْبِرين ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول .. وإن يكن فى كتابى هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه .. فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى ذلك من قِبَل ناقليه إلينا، وإنا إنما أَدَّيْناه على نحو ما أُدِّى إلينا([4:]).
أما عبارة العلامة علاء الدين ابن النفيس، فكانت أكثر حسماً وأكثر بلاغةً . ففى كتابه الذى نشرته محققاً قبل عشرين سنة (المختصر فى أصول علم الحديث النبوى) يقول ما نصُّه: وأما الأخبارُ (الأحاديث الشريفة) التى بأيدينا الآن، فإنما نتبع فيها غالب الظن، لا العلم المحقق.([5:])
وهذه العبارات والنصوص الفصوص، هى مقدمات أردت أن أُوردَها هنا، لتكون تمهيداً لما سنقوم به من إعادة النظر فى (أخبار مشهورة) يعتقد الناسُ اليوم فى صحتها، مع أنها لا يمكن أن تكون صحيحة .. ولسوف نسير فيما يأتى، على القاعدة التى وضعها ابن خلدون فى مقدمته ، ولم يلتزم أحدٌ بها . بل هو نفسه ، لم يلتزم بها فى أحيان كثيرة ! أعنى القاعدة التى تقول: علينا إعمال العقل فى الخبر .. وقد أشار من خلالها ابن خلدون، على سبيل المثال، إلى استحالة صحة الخبر المشهور، القائل إن اليهود حين خرجوا من مصر بقيادة النبى موسى، كان عددهم نصف مليون شخص! وكَذَّب ذلك بأسانيد كثيرة .
ولنا فيما يلى، عدة وقفات عند أخبار مشهورة نتبع فيها (غالب الظن لا العلم المحقق) ولسوف تكون وقفتنا الأولى، مع هذه الأخبار الوهمية التى وصلتنا من الأزمنة القديمة، وصارت مع مرور الزمان كأنها الحقيقة؛ أمام خبر لم يصلنا مكتوباً، بل مرسوماً :
قَـادِشهذه (الكلمة) هى اسمٌ لموقعة حربية شهيرة جرت فى الأزمنة القديمة، وهى فى الأصل اسمُ بلدةٍ تقع على نهر العاصى، بالقرب من مدينة حلب الحالية. والمفترض أن موقعة قادش هذه، انتصر فيها رمسيسُ الثانى على الحيثيين سنة 1285 قبل الميلاد، وهى السنة الخامسة من حكم رمسيس الثانى .. إذ كانوا قديماً، يؤرِّخون لوقائع الزمان، بحسب سنة تولِّى الملوك للحكم .
وأشهر (خبر) عن هذه الموقعة، وصلنا مرسوماً على جدران معابد مصرية قديمة، فى الصورة المشهورة التى يظهر فيها رمسيس الثانى وهو يلقى بسهامه من فوق عجلة حربية ينطلق بها حصانان رشيقان، وقد تناثر على الأرض القتلى من أعدائه. ولاتزال هذه (الصورة/ الخبر) باقية إلى اليوم فى عدة مواقع أثرية، حيث نراها فى أصلها المرسوم على جدران معابد أبو سمبل والكرنك والأقصر والرامسيوم (البر الغربى) . وهى أيضاً محفورة بأذهاننا ، لأننا كثيراً ما نراها مطبوعةً على أوراق النقد المتداولة اليوم، أو مقلَّدةً فى الجداريات الحديثة التى يبتكرها فنانونا المعاصرون .
لدينا إذن صـورة خبرٍ مشهورٍ متداول، عن نصرٍ قديمٍ يؤكِّد فى أذهاننا أن مصر كانت دوماً، سيدة الدنيا وأم البلاد. وأرى من الضرورى أن نتأمل قليلاً هذا الخبر، وأن نطبق عليه القاعدة الواردة فى قول ابن خلدون : ينبغى علينا إعمال العقل فى الخبر .
أول ما يلفت النظر فى هذه الصورة/ الخبر ، هو أن رمسيس الثانى مرسومٌ وحده. فلا الجيش المصرى موجودٌ فى الصورة، ولا حتى سائق العربة الحربية، الذى كانت مهمته التحكُّم فى العربة، لإفساح المجال أمام الرماة لإطلاق السهام . لاشئ فى الصورة إلا رمسيس الثانى، والمغلوبون من الحيثيين. وكأن هذا النصر، هو فعلُ شخصٍ واحد: ملكٍ، هو الملكُ الوحيد! ثم جاءت قصائد الشاعر المصرى القديم بنتاأور لتؤكِّد النصر الساحق لرمسيس الثانى، على ملك خيتا وجيشه من الحيثيين، الذين كانوا أيامها يسكنون آسيا الوسطى .
وفى واقع الأمر، فإن قادش لم تكن نصراً مؤزَّراً لرمسيس الثانى على الحيثيين. بل إن رمسيس الثانى حوصر هناك، لأنه تَهَّور وتقدَّم عن جيشه بحاميةٍ صغيرة، فأحاط به جيشُ الحيثيين. ولم ينقذه منهم، إلا طلابُ المدرسة الحربية المصرية بمدينة (حلب) الذين كانوا فى طريقهم للترحيب بقدومه! وعاونه هؤلاء الشباب حتى خرج من مأزقه، وفلت من الأسر أو الموت. ومن بعد ذلك، تقاتل الجيشان سنواتٍ طوال، حتى عقد رمسيس الثانى مع ملك (خيتا) معاهدة صلح شبيهة بكامب ديفيد، فى العام الثانى والعشرين من حكمه ، تزوَّج رمسيس الثانى بمقتضاها من ابنة ملك خيتا، وتعاهدا أن يكون الممر المائى (نهر العاصى) هو الحد الفاصل بين المملكتين، فلا المصريون يجوز لهم أن يتوسَّعوا شمالاً ، ولا الحيثيون يحق لهم أن يتوغَّلوا جنوباً. ثم جرت مياه التطبيع بين البلدين، فصارا مثل السمن على العسل (لا أدرى لماذا نستخدم هذا التعبير) وهو ما تشهد به رسائل الملكة نفرتارى زوج رمسيس الثانى إلى قرينتها الملكة الحيثيية، حيث تخاطبها الملكة المصرية بألفاظ مثل: يا أختى الغالية .. إلخ .
المهم أن علماء المصريات الأوروبيين، من أمثال كيتشن وكريستيان دى روش. كشفوا عن وثائق حيثية، تتغنى بأمجاد النصر الباهر الذى حققه ملك الحيثيين على المصريين فى قادش ! والأهم أن رمسيس الثانى ظل يحكم مصر حتى بلغ التسعين من عمره، على اعتبار أنه (المنتصر الوحيد) والشخص الوحيد فى (الصورة) .. وهو الأمر الذى تعلَّمه منه، معظم الذين جاءوا بعده من الحكام، فقد حرصوا دوماً على أن ينفردوا بالصورة، وأن يتفرَّدوا بالخبر. وكأن لا أحد معهم، ولا أحد حولهم، ولا أحد إلا الملك الوحيد .. لن أفصح بأكثر من ذلك ! فتدبَّر هذا الأمر، وتأمَّله قليلاً
حِطِّـينفى الخمسين سنة الأخيرة، صار اسم صلاح الدين (بطل حطين) مشهوراً على كل لسان، خاصة بعدما قَدَّمَ المخرج يوسف شاهين فيلمه الكبير: الناصر صلاح الدين، فامتزج فى أذهان الناس الخيالُ السينمائى بالخبر التاريخى، وتوحَّدت فى أوهامهم صورتا صلاح الدين الأيوبى، والممثل أحمد مظهر (الذى كان فى مبتدأ أمره رجلاً عسكرياً، يعمل فى سلاح الفرسان المصرى) .
وقبل الفيلم السينمائى وبعده، كثر ذِكْرُ صلاح الدين. وحُشيت عقول الناس بأعمال أدبية وقصائد وكتابات، تنتحبُ على حال العرب وتنتظر مجئ صلاح الدين الجديد، فى صورة المُخَلِّصِ .. وهى صورة ذهنية عَشَّشَتْ فى أذهان أهل هذه المنطقة البائسة من العالم، منذ انتشار الديانة اليهودية التى تقوم أساساً على انتظار (مُخَلِّصٍ) يُعيد مجد الرب وسلطانه، لشعب الرب المختار الذين هم (اليهود) تحديداً، وما عداهم هـم الأُمم .
ولأن الخمسين سنة الأخيرة ، كانت زمن الحكام العرب (العسكر) فقد كان من المناسب للدعايات الحكومية، إذكاء سيرة صلاح الدين الأيوبى وإعلاء الأخبار الخاصة بموقعة حطين التى انتصر فيها على الصليبيين، واسترد منهم القدس ذات الأسماء الكثيرة: إيلياء ، أوروساليم، أُوروشليم، بيت المقدس، دار السلام .. مع أنها المدينة التى لم تعرف السلام طيلة تاريخها .
ولأن القدس صارت اليوم بيد اليهود، فالكل يحلم بالبطل صلاح الدين، وبعودة نصر (حطين) على أعداء الدين. وقد كان فى مصلحة الحكام العسكريين العرب المحدثين، أن تغرق شعوبهم فى هذا الحلم الذى تستغنى به الجماعة عن الواقع الكئيب، وتهرب إليه من سطوة الزمن الردئ.. وتنتظر، والانتظارُ صبرٌ .. والصبرُ مطلوبٌ ومندوبٌ إليه، ومناسبٌ جداً للجالسين على العروش .
والمسألة برمتها، ليست سوى مخايلة وخداع للناس. وإلا فكيف انطوى ذكر صلاح الدين وموقعة حطين عدة قرون، ثم طفر فجأة فى الخمسين سنة الأخيرة، المأزومة ؟ وكيف يمكن للوقائع التى سنذكرها، أن تتوافق فيها صورة (صلاح الدين، بطل حطين) مع صورة المُخَلِّصِ الذى تنتظره الشعوب العربية الحالية ؟
وبدايةً، لابد أن نشير إلى أن كثيراً من المصادر التاريخية العربية، قد ذكرت عديداً من فضائل صلاح الدين الشخصية. ولكنها ذكرت أيضاً ما يلى: كان صلاح الدين فى مبتدأ أمره قائداً عسكرياً للحاكم السنى السلطان نور الدين محمود فأرسله سيده إلى مصر لتحصين دمياط، وكانت مصر آنذاك تحت حكم العبيديين (دولة الشيعة الفاطمية) فما كان من صلاح الدين، إلا أن صار بعد شهور من مجيئه لمصر، فى الوقت ذاته: وزيراً لسلطان مصر الشيعى، وقائداً من قواد سلطان الشام السنى. وهو وضعٌ عجيب لم يتيسَّر لأى شخص آخر فى التاريخ، غيرُ صلاح الدين، نظراً للعداوة التاريخية بين أهل المذهبين ! ولطالما ثارت الخلافات فى المرات المعدودة، التى اتخذ فيها الخلفاءُ السنيون وزراءً من الشيعة ، فما بال الجمع بين منصبين كهذين ؟
وبدلاً من تحصين دمياط، أخذ صلاح الدين فى تثبيت أقاربه على كراسى الحكم، وبالغ فى منحهم الإقطاعيات. وقد حنق عليه السلطان السنى نور الدين لتقاعسه عن تحصين سواحل مصر، فجهز جيشاً لحرب صلاح الدين. لكنه مات فجأة، ليلة خروجه بجيشه من الشام إلى مصر، لعزل صلاح الدين! وهنا سنحت الفرصة الذهبية، فسار صلاح الدين بجيشٍ من مصر إلى دمشق ، وانتزع الحكم من ابن السلطان نور الدين. بعدما كان قد استولى على مصر من الفاطميين، ومحا أثرهم من البلاد .. بل أمعن فى محوه .
وأما حطين فقد كانت موقعة واحدة، من عشرات المواقع العسكرية التى خاضها (صلاح الدين) وكان تسعون بالمائة منها ضد حكام مسلمين لا صليبيين! وفى المواجهات العسكرية القليلة التى جرت مع الصليبيين، كان منها ما انهزم فيه صلاح الدين، ومنها ما انتصر. وحطين هذه ، التى انتزع معها صلاح الدين القدس بمعاهدة صلح ، لم يمتد أثرها إلا عشرين شهراً؛ إذ عاد بعدها الصليبيون وانتزعوا المدينة منه . والشئ الحقيقى الذى تركه (صلاح الدين) بطل (حطين) والمُخَلِّص (المنتظر) هو توزيعه للممالك على أبنائه وأقاربه ، الذين ظلوا يتقاتلون فيما بينهم لنصف قرن، حتى اهترأت البلاد، وصارت مرتعاً للمماليك الذين حكمونا من بعد الأيوبيين، وحَكَمَنا من بعدهم العثمانيون والعسكريون. وكلهم يحكمون ويتحكَّمون فى الناس بالسيف والعصا وصورة البطل العسكرى المخلص. ولعله من المناسب أن نختم هذا الكلام، بهذا النص الذى أورده ابن العماد الحنبلى :
سنة ستة وعشرين وستمائة ، فيها سلم الكامل القدس الشريف لملك الفرنج، بعد أن كاتبه الأنبرور ملكهم فى العام الماضى يقول: أنا عتيقك وتعلم أنى أكبر مغول الفرنج، وأنت كاتبتنى بالمجئ، وقد علم البابا والملوك باهتمامى، فإن رجعت خائباً انكسرت حرمتى، وهذه القدس هى أصل دين النصرانية، وأنتم قد خربتموها، وليس لها دخل طائل، فإن رأيت أن تنعم علىَّ بقبضة البلد ليرتفع رأسى بين الملوك، وأنا ألتزم بحمل دخلها لك. فلان له وسلَّمه إياها فى هذا العام، فإنا لله وإنا إليه راجعون . ثم أتبع فعله هذا بحصار دمشق وأذية الرعية. وجرت بين عسكره وعسكر الناصر وقعات، وقتل جماعة فى غير سبيل الله، وأحرقت الخانات، ودام الحصار أشهراً(1
عين جالـوتوصلت إلينا الأخبارُ المشهورة عن موقعة عين جالوت، فى بعض مصادر التاريخ. وفى أكبر عمل دعائى لحاكم فى تاريخ مصر، وهو (السيرة الظاهرية) التى تَغنَّتْ بأمجاد الظاهر بيبرس. ثم طغت شهرة الواقعة، نظراً لاحتشادها فى المقررات الدراسية والأعمال الدرامية ، خاصةً خلال الخمسين سنة الأخيرة .. وأخبار عين جالوت ملخصها أن (الأبطال) قطز وبيبرس وبقية المماليك، استطاعوا صَدَّ الزحف المغولى الذى اجتاح العالم، فى القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) وإنه لولا وقوف مصر فى وجه هذا الزحف الرهيب، وما قامت به من هزيمة المغول (التتار) فى عين جالوت، لكان هؤلاء الهمج قد دمروا العالم، كله! .. هذا هو الخبر المشهور عن عين جالوت، وفيما يلى سوف نطبق قاعدة ابن خلدون: ينبغى أن نُعمل العقل فى الأخبار . فنقول والله المستعان :
إن الحقائق الفعلية (المستورة) المتعلِّقة بواقعة عين جالوت (المشهورة) أولها أن هذه الموقعة الحربية جرت بين المماليك، ومؤخِّرة الجيش المغولى وبقاياه بالشام، الذين كان عددهم ثمانية عشر ألف مقاتل . بعدما كان هولاكو قد عاد إلى بلاده، بجيشه الذى دخل به بغداد وخرَّبها (كان عدد الجيش مائة وعشرين ألف مقاتل) وقد اضطر هولاكو للعودة، بعدما قطع عليه الإمداداتِ ابنُ عمه الحاكمُ المغولىُّ، زعيمُ القبيلة الذهبية بركة خان عقاباً له على دخول بغداد، وتدميرها على هذا النحو المفجع، تلبيةً للسخائم التى كانت تملأ قلب هولاكو تجاه المسلمين، وكانت زوجة هولاكو المسيحية النسطورية طقزخاتون تؤجِّج فى قلب زوجها هذه الكراهية ، وتحدوه لتدمير بلاد المسلمين، ففعل ما فعله ببغداد، من الفظائع المعروفة. بل يقال إن عدد قتلاه من المسلمين، وصل فى الأربعين يوماً التى استباح فيها المدينة: مليون وثمانمائة ألف مسلم ! وكان ذلك ضد رغبة بركة خان ومخالفة صريحة لتحذيراته لهولاكو من دخول بغداد. وعاد هولاكو بجيشه إلى بلاده الأولى، ليجد ابن عمه قد أعد له جيشاً، فتقاتل الجيشان المغوليان، وانهزم هولاكو هناك .
ومن الوقائع التاريخية المستورة، أن عين جالوت لم تكن أول معركة ينتصر فيها المسلمون على بقايا جيش المغول بالشام. فقد انتصر أهل الإسلام عليهم قبلها، فى مواجهة محدودة هى موقعة (شقحب) التى كانت مقدمة للانتصار فى عين جالوت. ولم يكن المغول همجيين بالقدر الذى صورته الأخبار، وإلا فما تلك الحضارة الكبيرة التى أقاموها فى أواسط آسيا، فيما سوف يسمى لاحقاً بالدولة الإسلامية المغولية ! ولم يكن المماليك أبطالاً على النحو الذى صوَّرته مسلسلاتنا التلفزيونية، وإلا فما قتلهم لبعضهم عقب المعركة للاستيلاء على السلطة ؟ ولهذا الأمر تفصيل يطول، ملخصه أن اسم قطز ظهر لأول مرة، على مسرح الأحداث التاريخية، مرتبطاً بواقعة اغتيال المملوك الحاكم عز الدين أيبك. وارتبط اسم قطز فى الأذهان أيامها، بعبارته الشهيرة: الحكم لمن غلب. فلما انتهى المماليك من (مؤخِّرة) جيش المغول فى عين جالوت، استدرج قطزَ جماعةٌ من أصحابه المماليك، من بينهم صديقه اللدود بيبرس، وقتلوه غدراً. تقول مصادرنا التاريخية إن المماليك اجتمعوا بعد مقتل قطز، برئاسة (سنقر الأشقر) أكبر المماليك سناً، فقال لهم: مَنْ فعلها ؟ فتقدم بيبرس؛ إذ كان أكثرهم رعونةً، وقال: أنا ! فقال له سنقر الأشقر: اجلس مكانه ، فإنه قال: الحكم لمن غلب .
ثم صار الظاهر بيبرس سلطاناً على مصر، وبطلاً تتغنى به السيرة الظاهرية. ومن بعده صار غيره من المماليك حكاماً وأبطالاً، عملاً بالقاعدة التى صاغها قطز بقوله: الحكم لمن غلب. وكان هو أول من اكتوى بنارها! أما بيبرس فقد استمتع بحكم مصر، واكتسى بصورة البطل التى أضفتها عليه السيرة الظاهرية التى خالفت بالطبع الصورة الحقيقية لهذا (المغامر) الذى صار ملكاً لمصر .. ومن أراد معرفة الصورة الفعلية التى كان عليها بيبرس، فليراجع الفصل الذى كتبه ابن النفيس الذى كان طبيباً خاصاً لبيبرس، وكبيراً لأطباء مصر فى زمانه ، وهو ما يماثل الآن ما نسميه: وزير الصحة. ففى كتابه فاضل بن ناطق استعرض ابن النفيس (علاء الدين، على بن أبى الحرم القرشى، المتوفى 687 هجرية) الصفاتِ التى يجب أن يكون عليها الحاكم، فوصف بيبرس من دون أن يصرِّح باسمه، مبرِّراً كل عيوبه الجسمية والنفسية! ومع أننى قضيتُ قرابة العشرين عاماً من عمرى، فى دراسة ابن النفيس وتحقيق مؤلفاته المخطوطة، ومن ثم فإننى أحبُّه، وأقدِّر مكانته العلمية تقديراً كبيراً، إلا أننى موقنٌ بأن هذا (الفصل) التبريرى الفَجَّ، فى فاضل بن ناطق كان سقطةً كبيرةً من ابن النفيس، وعملاً شنيعاً لا يليق بقدره، ولا يتناسب مع عقليته الفذَّة؛ مهما كانت الدواعى أو الظروف التى أدَّت به إلى كتابة هذا الفصل الفَجِّ .. المهم، أن مصر المحروسة ظلت قروناً تحت حكم (الغالب) من المماليك، حتى جاء العثمانيون وغلبوهم ، فصار الحكم لهم لأربعة قرون تالية على المرحلة المملوكية من تاريخنا الباهر .
ولا أظن من جانبى، أن أحداً أضرَّ بهذا البلد المحروس، مثل قطز البطل، الذى وضع أصول (البلطجة) فى تاريخنا السياسى خلال القرون الثمانية الأخيرة ، وكان كما أسلفنا، هو أول من اكتوى بنارها. ولا عبرة عندى، بما يقوله مؤرخونا المعاصرون المساكين من أن هذه كانت طبيعة العصر؛ إذ أن طبيعة كل عصرٍ يضعها المعاصرون الذين يتصارعون كثيراً، ويعصرون الناس للوصول إلى الحكم .. الحكم لمن غلب ! لقد كانت تلك القاعدة هى الهدية الحقيقية التى قَدَّمها (البطل) قطز، لمصر والمصريين.
بَطَـل
ألقى صاحبى الجريدة جانباً، بعدما انتهى من قراءة مقالى، ونظر نحوى حانقاً . بعد لحظة صمتٍ علاه فيها الهمُّ، تنحنح مرتين، ثم قال ما معناه وملخصه: لماذا تريد نـزع البطولة عن أبطالنا ؟ إن رمسيس الثانى وصلاح الدين وقطز، هم أبطال هذه الأمة عبر تاريخها الطويل . فلماذا تشوِّش علينا صورتهم؟ .. ثم إننا نحتاج (البطل) فإن لم نجده بيننا انتظرناه، أو اخترعناه، أو التمسنا له ذكراً فى التاريخ . فلماذا تشوِّه فى أذهاننا، صفاء صورة الأبطال ؟
اعتقدتُ أولاً أن صاحبى يسأل، ثم اتضح لى أنه ينوح على نفسه وعلينا. فما كدتُ أجاوبه، حتى قاطعنى قائلاً ما معناه: سيظل أبطالنا أبطالاً مهما قيل فى حقهم، ومهما كانت (الأخبار) التى وردتنا عنهم غير منطقية، فالبطولة ذاتها غير منطقية ! البطلُ استثناءٌ بين الناس، نستدفئ بذكره فى ليالى الشتاء ، ونحلم بعودته فى أيام القهر، فنحتمل رداءة الزمان الذى نعيشه .
رحتُ أتأمَّل حال صاحبى وهو يحكى ما يحكيه، وقد أخذتنى الشفقة عليه، فالتزمت الصمت. كنتُ أثناء كلامه أفكِّر فى الآتى: تُرَى، هل (البطل) مشتقٌ من البطولة أم من البطلان ؟ وهل يرتبط نضج المجتمعات بقدرتها على التخلى عن وهم (البطل) الذى يأخذ صورة ذهنية تخالف الواقع، مهما كذَّبتها الوقائع ؟ إن المرحلة المسماة عند المشتغلين بعلم النفس (عبادة الأبطال) هى مرحلة مرتبطة بالمراهقة، فهل تعكف المجتمعات غير الناضجة على عبادة أبطالها، مثلما يفعل المراهقون؛ بدلاً من مواجهة واقعها والتعامل معه وتطويره؟ وإن كان لابد لنا من (أبطال) فى التاريخ ، فليكونوا الأبطال الحقيقيين. ففى موقعة قادش، كان الأبطال هم طلاب المدرسة العسكرية المصرية فى حلب، الذين أنقذوا رمسيس الثانى من حصار الحيثيين. وفى حطِّين وسيرة صلاح الدين، كان البطل الحقيقى هو السلطان نور الدين الذى أمضى حياته يدافع عن الأرض والعرض، ومات قبل خروجه على رأس جيشه؛ ليخلع صلاح الدين عقاباً له، لتقاعسه عن تحصين دمياط ومواجهة الصليبيين. وفى واقعة عين جالوت كان البطل هو العلاَّمة العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، لأنه هو الذى تحدَّى سلطان المماليك الذين كانوا يحكمون مصر، وأصرَّ على بيعهم فى مزادٍ عَلَنىٍّ ليسدِّدوا للأمة، الثمن الذى تم شراؤهم به! وقد خَوَّفوه فما خاف، وهدَّدوه فما انهد عنهم، واعترضوا على فتواه القائلة بأنهم عبيدٌ آبقون، فما كان منه إلا أن أصرَّ على فتواه، وكتب لعلماء مصر أن المماليك لا يجوز الصلاة عليهم إذا ماتوا، ولا يجوز زواجهم وطلاقهم والتعامل الشرعى معهم ، لأنهم فى حكم: العبد الآبق .. وفى النهاية رضخ المماليك، وانعقد المزاد، وافتدى كل واحد منهم نفسه بمبلغ من المال، فكانت حصيلة ذلك اليوم المشهود، هى المبالغ التى تم بها تجهيز الحملة العسكرية التى انتصر فيها المصريون ، فى عين جالوت، على بقايا الجيش المغولى .. أقولُ باختصار: إن كان (البطل) شرطاً لوجودنا، فليس شرطاً أن يكون البطل عسكرياً .
المـاضـى ، والساميـةقالت لى ابنتى آية التى هى فى الصف الأول الإعدادى، أو الصف الثانى؛ إنها تريد منى أن أشرح لها دروس اللغة العربية، ومن بينها درس الكشف فى المعجم. فشرحته لها، بعد أن أخبرتها بأهمية هذا الموضوع وحيويته فى اللغة العربية، وأكدت لها أننى (أكشف) دوماً عن الكلمات فى المعجم، وبأننا لا يمكن أن نفهم أصول اللغة التى نستعملها من دون الكشف عن أصولها، فى المعاجم. وغير ذلك من النصائح السمجة، الكفيلة بإثارة اهتمامها بهذا الدرس اللغوى .
وأثناء الشرح، بدا لى أمرٌ كان من قبل مغموراً وغير ملتفَتٍ إليه. بيانه أنه عند الكشف عن أصل أية كلمة عربية فصيحة، اسماً كانت أم فعلاً؛ فلابد لنا من رَدِّها أولاً إلى هيئة الفعل الماضى! فالكتابةُ والكتابُ والكاتبُ والمكتبةُ والكتبىُّ والكتاتيبُ والمكتوبُ والمكـاتبُ والكتبةُ والكُتَّابُ، كلماتٌ يتم الكشف عنها كلها من خلال أصل واحد لها، هو الجذر (كتب) الذى هو على صيغة الفعل الماضى. وكذلك الأمر فى أية كلمات أخرى، فالعلومُ والعلماءُ والعالمينَ والعلمُ والمتعلِّمُ والعالم والعليمُ والعَلاَّمة والعلاَّم؛ كلها تُرَد إلى جذرها، الذى هو على هيئة الفعل الماضى: عَلِمَ .
أنهيتُ الشرح، وانفردتُ لأتأمَّل هذه المسألة التى تمس روح اللغة وجوهرها؛ أعنى اللغة العربية تحديداً، وإلا ففى اللغات الأخرى، لا توجد هذه الظاهرة، التى تؤكد ضمناً اعتقاد العربى بأن كل شىء كان أصله فى الماضى. فالمصادر أو الجذور كلها فى لغتنا، ماضوية. وهكذا الحال مع كل مجموعة (مشتقة) من الألفاظ المتقاربة، إذ كلها تعود إلى (جذر) أساس تُشتق منه، هو صيغة الفعل الماضى .. الماضى يمضى بوعينا نحو غايةٍ غير معلنٍ عنها، مفادها أن ما يتم الآن وما سوف يتم، إنما أصله كان قد قُدر. وإن استعصت إحدى الكلمات على الرد إلى هذه الصيغة الماضوية، فهذا يعنى أنها ببساطة شديدة : كلمة غير عربية !
إن كل ما هو (عربى) لابد له أن يرتد لفظه، وبالتالى وعينا به، إلى صيغة الفعل الماضى. فلا شىء (أصلى) فى الحاضر المضارع، ولا شئ يحدث الآن، أو سوف يحدث مستقبلاً، إلا وأصله ومعناه كامنٌ فى جذره، الذى يأتى على صيغة فعله الماضى، وإلا فهو غير عربى. وتأكيد الأمر الماضوى لا يقتصر فقط على الروح اللغوى؛ وإنما يدعمه الروح الدينى الذى يتمثل فيما لا حصر من أصول الاعتقادات الواردة فى الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. فمن ذلك الآيات ﴿وكان أمر الله قدراً مقدوراً﴾ .. ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله﴾ .. ﴿كُتب عليكم﴾ والأحاديث الشريفة: خير القرون قرنى هذا، ثم الذى يليه، فالذى يليه .. جفَّت الأقلام ووضعت الصحف .. كان الله ولا شىء معه، وهو الآن على ما كان عليه .. لتتبعن سُنن من كان قبلكم .. إلخ .
وما دام الأمر قد انحسم فى الأزل، وما دام كل شئ قد قُدِّر، فى الماضى، وما دام الأصل دوماً على هيئة الفعل الماضى وصيغته اللغوية؛ فكيف يمكن لنا أن ننظر فى الواقع أو نرنو إلى المستقبل؟ أم ترانا بحاجة إلى بناءٍ جديد للغة وفهم جديد للعالم، يتناسب مع الواقع المعاصر الذى نعيش فيه. أم نحن بحاجة ماسة إلى بناء الوعى العام ، على نحو أكثر واقعية وفعالية وقدرة على التعامل مع الحاضر، ومع الفعل المضارع، والأفعال التى تأتى على صيغة المستقبل وما سوف يكون . وهل يكمن الحل فى حرف السين، فبدلاً من كَانَ (سيكون) وبدلاً من علم (سيعلم) وبدلاً من بنى (سيبنى) وبدلاً من فَهِم (سيفهم) .. هل سيفهمنى أحد ؟ وهل سيدرك الناسُ الإشارة الكامنة وراء ذلك ؟ وهل سيبنى الناس فى بلادى وعياً جديداً بالأشياء، مستخدمين لغةً ماضوية الجذور ؟ .. الله وحده يعلم، وأنتم لا تعلمون .
سامِيَّـةُ
لم أستطع حفظ الوعد الذى قطعته على نفسى، أمام ابنتى آية، حين طلبت منى وهى تضحك ضحكتها العذبة، أن أشرح لها دروس مادة التاريخ استعداداً لامتحانات نصف العام، شريطةَ ألا أكتب عن ذلك واحدةً من مقالاتى . فى إشارة منها، إلى ما فعلته حين شرحت لها درس الكشف فى المعجم، ثم كتبتُ مقالة: الماضى . وبعدما قطعتُ على نفسى الوعد، الذى قطَّعته إرباً فى مقالة تالية ، أخذتُ من يدها (كتاب الوزارة) المقرر عليها فى الصف الثانى الإعدادى، ونظرت فى أول سطر منه، فوجدتُ فيه ما نصه: شبه الجزيرة العربية هى الموطن الأول للعرب، ومنها خرجت هجرات منذ القدم .. وينتمى العرب إلى الجنس السامى، نسبة إلى سام بن نوح .
قلت فى نفسى، ها هو أول القصيدة (إيمان) ساذج بهذه المغالطة التى شاعت مؤخراً، حتى صارت كأنها واحدة من البديهيات. أعنى الاعتقاد بأن السامية جنس أو عرق أو سلالة إنسانية ، تنتمى إليها جذور العرب واليهود والسريان ، وغيرهم ! مع أن حقيقة الأمر ومبدأه، كما يلى :
فى أواخر القرن الثامن عشر، ابتكر عالم اللغويات الألمانى لودفيج شلوتزر مصطلحاً جديداً، يصف به مجموعة اللغات العبرية والعربية والسريانية (الآرامية) التى يمكن ملاحظة اقتراب أصول بعضها من بعض، وأطلق عليها جميعاً، لغرض الدرس اللغوى، وصفَ اللغات السامية، وهو الوصف الذى صار مصطلحاً معروفاً للمشتغلين بفقه اللغة (الفيلولوجيا) يميزون به هذه المجموعة من اللغات (السامية) عن المجموعات الأخرى التى تضم لغات أخرى، مثل الفارسية والتركية واللاتينية . وقد ابتكروا لهذه اللغات غير السامية، مصطلحاً آخر هو: الهندو/ أوروبية .. ولم يجد هؤلاء اللغويون وقتها، ضرراً فى استخدام مثل هذه المصطلحات الفيلولوجية الملغومة، التى سرعان ما تحول معناها عن حدود الدرس اللغوى، فصارت دلالتهـا عِرْقية (إثنوجرافية) متصلة بمفاهيم السلالات الأنثروبولوجية وأصول الجماعات الإنسانية .
وانتقل معنى السامية وشاع بسرعة، فى المائة سنة الأخيرة، حين نجح أبناء عمنا يعقوب عليه السلام، أعنى اليهود! فى إقناع العالم بأنهم الساميون، وبأن كل من يدوس لهم على طرف، هو عدو للسامية .. حتى لو كان هذا الشخص من العرب، الذين لايقلون عنهم ساميةً ، وربما يزيدون .
ونظراً للسطوة الإعلامية لليهود المعاصرين، ونظراً لأنهم يشتغلون بالعلوم الحديثة، ويتصلون بالعالم بأكثر وأعمق مما نفعل نحن العرب؛ فقد استطاعوا أن يشيعوا هذه الدلالة الأخيرة لكلمة السامية ، وأن يُسقطوا مع الأيام دلالتها الفيلولوجية (اللغوية) أو يهمِّشوها لصالح الدلالة السياسية التى تخدم أغراضهم .. والغريب فى الأمر، أننا نجعل هذا الوهم، حقيقةً بديهيةً يدرسها تلاميذ المدارس فى بلادنا، منذ الصف الثانى الإعدادى . ومع الأيام، يصير سام وأخوه حام، وقريبه بلعام؛ وغيرهم من الشخصيات التوراتية، كأنهم حقيقة تاريخية لابد من الاعتراف بها، لأنها صارت بديهية من كثرة ما تردَّدت ! مع أن تاريخ الإنسانية لم يعرف سام هذا الذى انفردت التوراة بذكره. فكأن توراتهم هى المصدر الوحيد للمعرفة، وكأن اشتهار أىِّ أمر، كافٍ لجعله حقيقة .
ويوماً ما، سوف تعرف ابنتى آية، خطورة خلط الدين والسياسة والتاريخ فى مسألة (السامية) هذه، وتدرك أن تكريس هذا (الوهم) وتأكيده لتلاميذنا، فيه خطرٌ عظيم، ونقضٌ للتاريخ الحقيقى، ومناقضةٌ للمنطق .. وأرجو منها يومها، أن تغفر لى أننى خالفت وعدى لها، وكتبتُ هذه السطور .
(1) متى المسكين: شرح إنجيل القديس يوحنا (مطبعة دير الأنبا مقار، وادى النطرون 1990) المجلد الأول، ص 21 .
والمفسر الشهير، القديس ذهبى الفم المشار إليه، هو يوحنا فم الذهب أسقف أنطاكية، المتوفى سنة 397 ميلادية .. وأوغسطينوس هو القديس أوغسطين، أسقف مدينة (هيبو) بشمال أفريقيا ، فى الربع الأول من القرن الرابع الميلادى.
(1) هو المؤرخ الشهير، ورائد علم الاجتماع المبكر: عبد الرحمن بن محمد الحضرمى الإشبيلى، ولد سنة 732 هـ ( 1332م) بتونس ، ورحل إلى بلاد المغرب ونزل مصر وتولى فيها قضاء المالكية .. كتب كثيراً وكتب عنه كثيرون، وتوفى فجأة بالقاهرة سنة 808 هـ (1406م) .
(2) ابن خلدون : المقدمة (مكتبة لبنان 1990) ص 35.
(1) الطبرى : تاريخ الرسل والملوك (دار المعارف ، الطبعة السادسة) 1/8 .
(1) ابن النفيس : المختصر (الدار المصرية اللبنانية 1991) ص 115.
(1) ابن العماد: شذرات الذهب فى أخبار من ذهب (دار الكتب العلمية ، بيروت) 5/ 218
أنا مش فاهم الفكرة ، حضرتك ناوي تكتب الكتاب هنا في الموضوع دا ...؟ولو ممكن تقولي إيه رأيك في أخر كلمة تناولها الكتاب
all discussions on this book
|
post a new topic



تضمُّ صفحاتُ هذا الكتاب، تأملاتٍ متواليةً استغرقتُ فيها لأوقاتٍ طوالٍ، محدِّقاً فى (المفردات) التى تجرى على الألسنة. وهى مفرداتٌ تبدو للوهلة الأولى محدودةَ الدلالة بسيطة المعنى ، غير أن التأمل فيها، يكشف عن الكثير من المعانى المضمرة، والشواهد المؤكِّدة أن (التواصل) بين المراحل الثقافية المتعاقبة، إنما يظهر على استحياءٍ وعلى نحوٍ من الغموض، فى عديد من الدلائل التى تخفيها اللغة بين طيَّات كلماتها وتعبيراتها. ولذلك، فالناسُ فى بلادنا تجرى على ألسنتهم كلمات، معظمها عامىٌّ وبعضها فصيحٌ ، يستعملونها فى حياتهم بيسرٍ وتلقائيةٍ (وأحياناً باستهانة) من دون أن يدروا بما تخفيه الكلمة بين حروفها من معنى عميق ، بل طبقات متراكبة من المعانى ، تراكمت بفعل الامتداد الطويل لتاريخنا الثقافى .
والكلمات عموماً، هى رَسْمُ العالم فى الأذهان. فالوعى الجماعى والفردى يصوغ صورة العالم فى الذهن، عبر عدد من الكلمات التى تتألف منها اللغة . ولذلك فإننا حين نفكِّر، وحين ندرك، وحتى حين نحلم؛ فإننا نقوم بتلك الأنشطة الذهنية كلِّها، من خلال اللغة والكلمات .. ومن ثمَّ، فالكلمات هى مفاتيحُ المعرفة، وهى حدودُ المعانى، وهى وجودُ الأشياء فى العقل الإنسانى، وربما فى العقل الإلهى أيضاً! بحسب ما جاء فى الآية القرآنية البديعة ]قُل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى، ولو جئنا بمثله مدداً[ ونلاحظ هنا أن (كلمات ربى) تكرَّرت، مرتين ، لتوكيد هذا المعنى العميق الدال على أن الكلمات هى الوجود، وللإشارة إلى أن كلمات الله هى أمرٌ يفوق الإدراك والإحاطة. ولذا، نرى (المسيح) على جلال قدره، يوصف فى القرآن بأنه: كلمةٌ من الله .
من هذه الزاوية ننظر فى الكلمات فنراها أبواباً واسعة للفهم، وسُبلاً فسيحة للمعرفة. سواءٌ كانت معرفة ظاهرة بوضوح فى الألفاظ، أو معارف دقيقة ومدهشة، كامنة فى الكلمات، على ما سوف نراه فى (موضوعات) هذا الكتاب .. ومن المهم هنا، الإشارة إلى أننى أفرِّق تفرقةً خاصة ما بين اللفظ والكلمة، باعتبار أن (اللفظ) هو المقولُ بشكل عام، وهو كل ما يُنطق به؛ سواء كان له معنى فى ذاته أم لا . فاللفظُ (صوتٌ) يدل على أمرٍ يخص المتلفِّظ، مثلما هو الحال فى الزفرات التى يُصدرها المحزون والمكلوم والمأزوم، التى يكون (المعنى) فيها مرتبطاً بالضرورة، بالشخص المتلفِّظ بهذا (الصوت) أو ذاك، فلا يمكن إدراك الدلالة إدراكاً تاماً ، إلا بالإضافة إليه والعطف عليه . وقد يدل (الصوت) على معنى عام تواضعت عليه الجماعة واعتادت، كما هو الحال فى (التأوُّه) الذى يدلُّ لفظُهُ (آه) على الشكوى أو البوح أو تبريح الجوى . وقد يدلُّ أيضاً على الاستحسان أو الموافقة ، أو لوم المحبوب إذا قلنا له مثلاً : آهِ منك .. وفى هذه الحالة ومثلها الكثير، يكون (المعنى) قد ارتبط فى اللفظ، بحال الفاعل تخصيصاً.
فما يدلُّ بصاحبه، فهو (لفظ) حتى وإن كان مركباً من عدة أصوات. أما الذى يدل بذاته، بصرف النظر عن قائله؛ فهو (كلمة) حتى وإن كانت بسيطة التركيب، محدودة الصوت. وعلى ذلك، فالكلمة عندى، هى كُلُّ ما له معنىً مستقلٌ عن المتلفِّظ .. ولذلك، فإن كُلَّ (كلمة) لفظٌ، ولكن ليس كل (لفظ ) كلمةٌ .
* * *
وتضم صفحات هذا الكتاب ، أطرافاً متنوعة تسعى لتبيان معانى (كلمات) خصَّصنا لكل كلمة منها فصلاً قد يطول أو يقصر، بحسب ما يلزمه الغوص فى طبقات المعانى المحتجبة خلف هذه الكلمة أو تلك ، مهما كانت قليلة الحروف. مثلما هو الحال فى كلمة بدء الوجود (كن) التى ابتدأنا بها فصول الكتاب.
وكان ابتداءُ هذا المسار، سلسلةً من المقالات التى نشرتها، ومازلتُ أنشرها أسبوعياً، بجريدة الوفد المصرية. وكانت فكرتى الأولى الداعية إلى كتابتها، أن أتوقف كل أسبوع عند واحدة من الكلمات، للنظر فى معانيها العميقة. ثم تطوَّر الأمر إلى بحث الحدود الدلالية للكلمات، لتعميق الوعى باللغة التى نستخدمها، وللنظر فى (انقلاب) المعنى فى الكلمة الواحدة أحياناً، من الضد إلى الضد، حتى أننا نستخدم أحياناً (كلمات) قاصدين بها معنىً معاصراً، هو فى واقع الأمر نقيضُ المعنى الأصلى للكلمة.
وقد أشار لى بعض الأصدقاء، بضرورة نشر المقالات فى كتاب. فكنتُ أتعلَّل بأن الأمر لا يستحق، فما هى إلا خطراتٌ ونظراتٌ استشرافية، فى حدود المعانى المترامية بقلب هذه الكلمة أو تلك . ولما اتسع المدى مع دخول مقالاتى الأسبوعية عامها الثانى، ومع تعمُّق النظر فى معانى الكلمات، لم يعد التعلُّل مقنعاً . خاصةً مع اضطرارى للإيجاز فى كتابة عديد من تلك المقالات، حتى تتناسب مع المساحة المخصصة للنشر، مع ما يقتضيه ذلك من إهدار لكثيرٍ من المعانى، التى كان يجب الوقوف عندها فى هذه الكلمة أو تلك. وبالطبع، فمن شأن (الإيجاز) أن يخلَّ أحياناً بالمعنى، ويقلِّل من الأهمية الدلالية للكلمات.
ومن طبيعة النشر فى الصحف، أنه قد يختلُّ سياقه مع إسقاط بعض العبارات والفقرات عن عمد أو غير عمد، وقد تتشوَّش الفكرة مع الأخطاء المطبعية التى صارت فى جرائدنا كلها ، أمراً لا غنى عنه ! ولذلك اقتضى نشر (الكلمات) فى هذا الكتاب، إعادة بناء للنصوص السابق نشرها كمقالات، وإعادة كتابة بعضها كليةً. وقد نشرتها هنا، كاملةً، بما فى ذلك بعضها الذى ما كان من الممكن أن يُنشر هناك. وعلى ذلك، فإن فصول هذا (الكتاب) هى الصورة الأقرب لناتج النظر فى مدلولات الكلمات، ولنتائج التأملات والمناقشات التى أعقبت نشرها مسلسلةً .
وقد جعلتُ العنوان الجانبى للكتاب (التقاط الألماس..) انطلاقاً من أن عديداً من الكلمات، صار بحكم تراكم الطبقات المعرفية فوقه، مثل فحم الأرض الذى صار ألماساً، لما طال عليه الأمدُ .. وما كل الكلام ألماساً، وإنما هى مفردات بعينها، التقطتها كما تُلتقط فصوص الألماس، من كلام الناس .
يوسـف زيـدان
الإسكندرية فى أواخر 2007