حذاء أسود على الرصيف حذاء أسود على الرصيف discussion


5 views
في مواجهة العولمة وتوحش الرأسمالية - ابراهيم عادل

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by باسمة (new)

باسمة العنزي تدور أحداث الرواية داخل نطاق مكاني واحد ومحدد هو
تلك “الشركة الخليجية العملاقة”، لا تتعداه الرواية إلا بأمتار قليلة، وداخل إطار زمني محدد كذلك؛ إذ يبدو أن الحدث الرئيس كله يدور في يومٍ واحد، ولكنه يبدو يومًا من تلك الأيام الفارقة والتي يمكن أن تُبنى عليها الأحداث العظيمة، لاسيما بعد رصد مواقف أبطال/ شخصيات العمل، الذين بدا أن الكاتبة حريصة على أن تقدمهم بالتساوي؛ فيما سيتعاطف القارئ -بلا شك- مع النموذج الذي سحقته الرأسمالية بتوحشها وحرصها على صالحها الخاص ومحاولتها لتقليص أعداد موظفيها بغض النظر عن أوضاعهم المعيشية الصعبة!

باسمة العنزي، كاتبة قصة قصيرة، صدر لها قبل هذه الرواية ثلاث مجموعات قصصية، حصلت على جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعتها الأخيرة “يغلق الباب على ضجر”، تبدو قادرة على الإلمام بتفاصيل المشهد القصصي. لذلك؛ نراها تقسِّم روايتها -باقتدار- إلى عدد من المشاهد/ الفصول المتصلة المنفصلة التي حرصت كذلك على أن تعنون كل مشهدٍ منهم بعنوانٍ مستقل وكاشف، وذلك حتى تقدّم للقارئ من خلالها عالم تلك الشركة وموظفيها باختلاف مستوياتهم وتفاوت مراتبهم.

في الرواية، إطلالة سريعة، ولكنها مفصلة على عالم “رجال الأعمال” الكويتي بصفة خاصة، والذي لا شك يتشابه في كثيرٍ من تفاصيله مع ذلك العالم، أيًا كان مكانه في العصر الحالي، الذي استشرت فيه الآلة وسيطرت فيه المادة وقضت على أي نوازع إنسانية أو روحية ترى الناس من منظار غير الاستفادة المادية البحتة فحسب؛ ترسم “باسمة” المشهد الأوّل في الرواية من خلال صورة تلك المؤسسة “صباح الأحد” وتأتي الحكاية عنها كحكاية عن فاتنة وليس مجرد مؤسسة تجارية:

“هي … حبة كريستالٍ في ذيل فستانٍ باهت، لؤلؤة ثمينة في خاتم زواجٍ قديم، وأحيانًا بوصلة آمنة لطريقٍ صحراوي، مغروسة بأناةٍ في قلب منطقةٍ صناعية ساحلية كمنارةٍ حلمٍ تنقر النوارس زجاج بمبانيها كل صباح، تشرِّع بواباتها في ساعاتٍ محددة لها أعلام لا تنكَّس تحمل شعارها الزاهي…

شركة مساهمة لها سبعة أفرع رئيسة محليًا وأربع شركات شقيقة إقليميًا وأجندة توسعية، لها رأس مال ميزانية دولة يافعة، وتاريخٌ زاخر بالأحداث رغم أنها لم تتجاوز الثلاثين عامًا، ذات صوت واضح في عالم الاقتصاد يحرِّك البورصة ويخرسها…”.

وبشاعرية شديدة تصف “باسمة” المؤسسة التجارية التي ستدور فيها أحداث الرواية الهادئة التي تبدو بسيطة جدًا، والتي سترصدها بدقة شديدة أيضًا، حيث نجد على الفور الانتقال إلى أولى شخصيات الرواية “جهاد” تلك الفتاة الفلسطينية الأصل والتي تعتبر “الكويت” بلدها الأصلي وتحلم بالحصول على جنسيتها، تسعى إلى التمسك بوظيفتها ولكن الظروف كلها تقف ضد رغبتها حتى تأتي نهايتها الدرامية في آخر الرواية، ثم دكتور “فايز” المدير التنفيذي للشركة وصاحب “الكاريزما” الطاغية الذي يضع الخطط فتكون قيد التنفيذ الفوري، ثم تلك الشخصية اللافتة ذات التأثير البالغ في مصائر العاملين في المؤسسة “أمواج” التي عبّرت عنها بفصل “عطر كيم كارداشيان”، مسؤولة الموارد البشرية والمتحكمة في مصائر العاملين بالشركة والتي يتقرب منها الجميع ويتزلف إليها الجميع ليس لمكانتها المرموقة فحسب وإنما لجمالها الأخاذ أيضًا، ثم تنتقل إلى حارس الأمن البدوي “مهدي” الذي يعيش قصة حبٍ عذري مع مديرته “أمواج” ويحلم بالوصول إليها حلمًا جميلاً مستحيلاً!

“لم يتوقع مشاهدتها من خلف الزجاج وهي تضع ساقًا فوق ساق وتلعب بجهاز البلاك بيري تنتظر أن يؤذن لها بالدخول على مديرها، في الوقت الذي كان عليه أن يتأكد من أن عمال الصيانة أنهوا مهمتهم في الدور الخامس، وقف يتأمل نجمته عن قرب، تشبه (يارا) مطربته الرقيقة، بشعرها المسترسل وصفاء بشرتها وقامتها المتوسطة، هل أخبرها أحدهم بذلك ولو (صدفة)؟”.

تدور فصول الرواية القصيرة حول عرض تلك الشخصيات وما يربطهم ببعض من علاقات وما يجمعهم من صلات، حتى يأتي حدث الرواية الأبرز قرب النهاية والمعنون بعنوان الرواية “حذاء أسود على الرصيف”، وفيه تموت “جهاد” تحت عجلات سيارة عابرة أمام الشركة في لحظة، في الوقت الذي لا يتلفت إلى حدثها المؤلم ذاك أحد من أفراد الشركة؛ فمديرة التنمية البشرية تقرر نقلها إلى الخانة الخضراء (الموظفين الذين سيتم إبقاؤهم في الشركة) بم أنها فارقت الحياة، فيما يذهب رئيس المؤسسة مسارعًا لمحاولة تفقد فرسته الأصيلة (الجوهرة) التي تعاني مشاكل صحية!

على الرغم من أن الكاتبة تصوّر عالم الرأسمالية وتوحشه؛ إلا أنها استطاعت أن تعكس كذلك عددًا من المشاعر المتصارعة داخل تلك المؤسسة الجامدة، وأظهرت بجلاء كيف بدا العمل الأدبي قادرًا على مواجهة ذلك العالم كله من خلال رصد مشاعر وأحاسيس العاملين في تلك المؤسسة رغم ما يحيط بهم من جمود وما يبدو عليهم من مادية مسيطرة على كل تصرفاتهم وعلاقاتهم بالآخرين. بدا في النهاية أن تلك المشاعر، وذلك الرصد الأمين، هو القادر وحده على تذويب الفوارق بين البشر؛ لو أحسن الناس الالتفات إليه ومراعاته في تلك المجتمعات الضاغطة على الجميع!

تكمن براعة الكاتبة -في ظني- من خلال قدرتها العالية على “تكثيف” حالات شخصياتها ومحاولة الإلمام بتفاصيل حياتهم ومشاكلهم باستخدام جمل قصيرة دالة ومعبِّرة، ولعل هذا الملمح “قصصي” بامتياز أيضًا، بل إني أميل إلى اعتبار هذه الرواية “قصة طويلة” استطاعت الكاتبة من خلالها أن تلقي ضوءًا على تلك المؤسسة وأصحابها والعاملين فيها وتغلق “كشاف الإضاءة” فجأة عند مشهد النهاية بكل بساطة منسحبة من المشهد تاركةً لفضول القارئ إمكانية استعادته وقراءته مرة أخرى وكشف ما بين السطور!

يبدو أن الكاتبة ودعت -غير آسفةٍ- (سنوات الوظيفة) التي تهديها الطبعة الأولى من روايتها، ولكنها استبقت منها تلك المعرفة العميقة بدهاليز العمل في المؤسسات التجارية الكبيرة وما يدور في أروقتها من تفاصيل، بالإضافة إلى تطعيم الرواية بما يشي بمظاهر البذخ والرفاهية؛ فهي حريصة على ذكر أسماء العلامات التجارية والماركات العالمية التي تستخدمها تلك الطبقة المرفهة، كل ذلك جنبًا إلى جنب مع دراية كاملة بعادات وتقاليد الشعوب المختلفة التي عاشت وتعيش في “الكويت”، لاسيما الفلسطينيين وتأثرهم بالأحداث التي جرت في تلك البلاد، خاصة أثناء “حرب الخليج” على سبيل المثال.

تجدر الإشارة إلى أن الرواية لاقت احتفاءً نقديًا ملحوظًا بدا في مقالاتٍ عدة تناولت الرواية من أوجه نظرٍ مختلفة، وحرصت “دار العين”، التي نشرت الطبعة الثانية للرواية، على أن تضع نبذة من تلك المقالات منسوبة إلى أصحابها على الغلاف الخلفي للرواية؛ فنجد الكاتبة “هدى الشوا” تذكر أنها “رواية متدفقة، مفعمة بآنية العصر، مسربلة بدلالات العولمة الاستهلاكية، تمثل رصدًا دقيقًا لشراسة شبكات عوالم التجارة والاستهلاك وعلاقات العمل في الشركات العملاقة اليوم، قد تكون مادة دسمة لأبحاث العلوم الاجتماعية الحديثة”.


back to top