جماليات النص القرآني" لنفيد كرماني عن سحر اللغة العربية وبيانها هيفاء شدياق تشد الأديان أتباعها بتأثير دعاتها وبشاعرية نصوصها وجاذبية أصواتها وأشكالها وشعائرها بل وبأماكنها وألوانها وروائحها، أكثر مما تشدّهم بمنطق حججها وبراهينها. فالمعلومات التي تسعى الأديان الى تزودها، تنشئها الخبرات العلمية أكثر مما يكوّنها التفكير الذهني، كما أنها معلومات ذات صبغة شعورية قبل أن تكون استدلالية. وليست الأعمال التي تتطلبها شعائر الأديان محاضرات علمية، بل هي أفعال يؤديها أتباعها بجوارحهم قبل أرواحهم، وهذا يصحّ على الأديان كلها، وهذا ما يبينه الكاتب الالماني من أصل إيراني نفيد كرماني في كتابه "بلاغة النور/ جماليات النص القرآني" الصادر لدى "دار الجمل"، حيث يتناول علاقة المسلمين بالقرآن، وأهمية العوامل الشعورية في هذه العلاقة. يحتل مكان الصدارة في الكتاب، استقبال القرآن من جمهور متلقيه. والحال ان البعد الجمالي للقرآن أمر له أهمية محورية في الدين الاسلامي، وذلك لأن جمال لغة القرآن وكمالها هما أعظم معجزة دالة على صدق نبي الاسلام، بل انهما عند كثير من علماء الاسلام المعجزة الوحيدة الدالة على ذلك. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا البعد لم يكن له دور في نظرة الغرب الى الاسلام، هذا اذا استبعدنا دراسات الفن القصصي في القرآن. صحيح أنه يكاد لا يماري عالم من العلماء في أن القرآن هو بناء منظوم نظما شاعرياً كما أن لتلاوته طلاوة وموسيقى، ويعايش المسلمون هذا النظم ويحيونه مدركين عذوبته وجماله. كما ان التعامل مع هذا الكتاب كظاهرة لها بلاغتها وجمالياتها هو من أسس الايمان في العقيدة الاسلامية، على الأقل في العالم الناطق بالعربية. غير أن العلاقة بين تأثير ذلك الأمر في الاستشراق وبين هذه الأهمية وذاك الوضوح لتلك الحقيقة، هي علاقة يعتورها النقصان، وإن يكن الاستشراق نفسه قد لاحظ الظاهرة مبكراً وتناولها حينا وعبّر عنها أحياناً، الا أنه لم يتجه اليها الا متأخرا. يعتبر كرماني ان علم الدراسات الاسلامية في الغرب تجاهل فعلاً منزلة بلاغة القرآن التي قال بها المسلمون، بل اعتبرها اساطير مجافية للعقل. إن الناتج الضئيل لمثل هذه الجهود ينبغي ألا يجعلنا نفهم بأن عرض الاسلام في الغرب لا يزال يغفل اغفالا تاما المدى الكبير للرؤى الجمالية داخل عالم الايمان في الاسلام. فلقد كانت سمات الصبغة اللغوية الخاصة بالقرآن التي تعدّ في الاعتقاد الديني عند المسلمين نقطة فارقة، مجال الاهتمام الوحيد لفقهاء اللغة من المستشرقين. استطاع القرآن أن يخلق في النفوس اعجاباً وشعورا بأنه "أحسن كتاب على الاطلاق أدبا ولغة وبلاغة وجمالا، وهو معجز للأفراد والجماعات، يكون أقوى دليل على ذلك"، وذلك بحسب تعبير الباحثة أنجيليكا نويفرت عند تحديدها للغرض من علم اعجاز القرآن (وهو تنزيهه عن المشابهة والمماثلة مع كلام البشر، وتحديه بلغاء العرب بأن يأتوا بسورة مثله)، وهذا ما بدا عند القارئ الغربي ولفترة طويلة أمراً غريباً ومنافيا للمنطق، وأنه يمكن تفسيره بأنه نوع من التعصب الديني. لقد ظل سجل المآخذ التي صنّفها عام 1910 تيودور نولدكه وهو واحد من أهم علماء الاستشراق حتى يومنا هذا، واتخذ لها عنوانا محايداً هو "حول لغة القرآن" حتى سبعينات القرن العشرين المرجع الأساسي لأهل الغرب عند الحكم على القرآن، ولم يستطع علماء الاسلاميات في الغرب أن يعالجوا قضية اعجاز القرآن معالجة جادة، على رغم أن الايمان بها يعدّ من ركائز العقيدة في الاسلام، ومن ثم لم ير علماء الاسلاميات في الغرب في موضوع اعجاز القرآن "الا تهويمات عقائدية ذات سحر عجيب غريب مثير للغرابة، أو هو مثال للاستلاب الديني، وذلك لئلا يقولوا صراحة بفساد حضارة بأكملها، أو أن هذا أوهام مفرطة لمجد حضارة عربية على أحسن الأحوال"، طبقا لملاحظة أنجيليكا نويفرت النقدية، ناهيك بأن هذا المبدأ الايماني لم يصل قط الى الادراك العام في الغرب. فاذا أراد قارئ عادي أن يعرف السر في ايمان بعض الناس بالقرآن فإنه يتناول ترجمة للقرآن ليدرس فقط محتواه ومضمونه دون نظمه وبنائه. وينبغي التنويه هنا بأن المسلمين وبخاصة ذوي الأصول العربية منهم لا يحبذون بالمرة ادراك مضمون الوحي في القرآن من طريق قراءة ترجمة له، ويشير كرماني في هذا الصدد الى أنه غالباً ما يتم تفسير التمسك بعدم امكان ترجمة القرآن بأنه دليل اضافي على ضيق الافق عند المسلمين، أو كبرهان على الأصول الاسلامية، وبخاصة عندما يدور حديث الأطفال الأتراك المقيمين في ألمانيا الذين يحفظون القرآن في لغته العربية حتى دون أن يفهموا مما يقرأون كلمة واحدة. ويكاد يقترب من هذا أيضاً، النظر الى تأنيب الضمير الموجود بقوة حتى عند المسلمين التنويريين في أن يقرأوا القرآن بلغة أخرى غير العربية، ناهيك بتلاوته، اذ أن هذا كله من المسلمات والبديهيات في باب الايمان في الاسلام. ثمة قصص كثيرة، لا تعد ولا تحصى، مذكورة في المراجع الاسلامية، تحكي كلها عن تأثير لا يقاوم لسماع القرآن على صحابة النبي ومعاصريه، ومنها قصص تذكر ان اناسا يعلنون اسلامهم عند مجرد سماعهم آية واحدة من القرآن. استنادا الى تلك القصص فإن القرآن ادهش اتباعه وبهرهم. ولو حاول الانسان ان يبحث في الدراسات الغربية المتعلقة بتاريخ الاسلام عن اسباب فلسفية وسياسية ونفسية واجتماعية او عسكرية لنجاح النبي محمد في تبليغ رسالته ودعوته، لرأى ان السمة الادبية البلاغية للقرآن كانت عاملاً حاسماً في انتشار الاسلام بين العرب في القرن السابع الميلادي، ومن هذه المصنفات أمثلة عديدة تدل على التأثير المسيطر والمهيمن لتلاوة القرآن، حيث يكون النظم اللغوي للقرآن احد العناصر المؤدية الى الهداية. سحر اللغة من القرن العاشر الميلادي بات من الأركان التي تأسست عليها هوية المؤمنين من أمة الاسلام الاعتقاد بفن البيان عند العرب وبإعجاز أسلوب القرآن، وكذلك القول بأنه ليس في استطاعة احد من العرب الفصحاء معارضة القرآن بما هو احسن واجمل او اروع او اخذ بمجامع القلوب. فإعجاز القرأن هو دليل واضح على ان ما يربط افراد الجماعة المسلمة وما يميزها عن افراد جماعات دينية أخرى هو اقتناع الأولين الديني بأن الإعجاز هو حقيقة موضوعية، كما انه صالح لكل زمان. فقد كان لزاماً على النبي محمد المرسل الى قوم يشتهرون اكثر ما يشتهرون بشعرائهم، ان تكون معجزته عملاً لغوياً معجزاً. لقد كانت المعارضة الشعرية بين شاعرين في الجاهلية كما هو ثابت في الرواية المألوفة، والمنقولة عن الاستشراق، تعد مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية. وتخطت المنتديات ما هو فني وأدبي، فكانت لها دلالة سياسية، لأنها استطاعت في نهاية المطاف ان تقرر المعارضات بلغة الحروب بين العشائر والقبائل. لقد أثار القرآن لدى اهل قريش حيرة وخوفاً، وفي نهاية المطاف ذهولا، إذ هزمهم النبي في مجال قوتهم ومحيط تفوقهم الا وهو مجال الشعر، وسلب منهم أقوى اسلحتهم وامضاها وهو التعامل السامي باللغة، وأقر اساطين البلاغة فيهم بسلطان كلام الله فاستيأسوا. وحاول بعض الشعراء عبثا ان يجاروا القرآن اسلوبا. ويقول محمد راميار في كتابه "تاريخ القرآن" ان شعراء مكة كانوا يتوارون حتى لا يراهم ولا يعرفهم احد ويرى في هذا شاهدا من شواهد كثيرة على عظمة الوحي الالهي وتأثيره. يقول كرماني ان من الجائز ان نسمّي القرآن سحرا، وسحر اللغة ظاهرة عالمية قديمة لكنها لا تزال معاصرة، وقد اهتم بموضوعها في القرن العشرين خصوصاً مجموعة مختلفة من علماء اللغة. كان السحر حاضرا في اللغة القرآنية ولا يزال موجودا في الشعر، وكذلك فإن اثار سحر اللغة لا تزال منتشرة حتى يومنا هذا، بخاصة في المناسبات الدينية، اثناء أداء الطقوس، وفي حفلات الزواج ومناسبات العزاء، غير ان الكلمات بدأت تفقد ايضا بالتدريج تداعي المعاني الروحية السحرية، ولكن هذه المعاني على العكس من ذلك لا تزال تستدعى وتستحضر في الشعر حتى يومنا هذا، وثمة مجموعة من الشعراء في القرن العشرين منهم لديهم ادراك بأن الشعر جوهر السحر اللغوي. الكلمات في اي نص شعري ليست تمثيلا مجردا للاشياء الموصوفة. انها شارات ودلالات مختلفة على الواقع، فالكلمات تمارس نوعا من النفوذ والتأثير في بنيتها الخاصة بها. ريلكه وشعراء كثيرون غيره دعوا الى الوظيفة الساحرة للغة الناقلة المعاني غير المباشرة، لانهم ادركوا مقدار الخسارة التي جلبها ادراك لغوي متغير ذو بعد واحد. يسأل كرماني هل القرآن شعر؟ الإجابة من منظار الدين الإسلامي هي النفي القاطع، وقياسا الى معايير نظرية في الأدب العربي القديم، فانه على الرغم من اشتمال القرآن على عناصر شعرية، وحاجته الى تفسير أدبي على حد قول أمين الخولي، الا أنه من حيث الاسلوب لا يندرج تحت مسمى الشعر. لغة القرآن يدرس كرماني في كتابه ماهية القرآن عند المسلمين، وأن يُفهم كنظم متكامل، وليس بحسبانه موضوعاً محسوسا بل بحسبانه نظاما من العلاقات. على أن العلاقات التي يعنيها هذا الكتاب هي تلك الموجودة بين النص ومستقبليه، اذ لا وجود لنص خارج نطاق مستقبليه أو بعيدا عنهم. ويسأل كرماني كيف أمكن علم التوحيد في الاسلام أن يتوصل الى مجموعة من المعتقدات والشعائر انطلاقا من السمة الأدبية لمعجزة القرآن. ان تاريخ التوحيد والأدب الذي كتبه المسلمون وبخاصة ذلك المدون باللغة العربية زاخر حتى يومنا هذا بشواهد كثيرة وأدلة متعددة على جماليات القرآن، وبأخبار عن مواقف عديدة ومناسبات مختلفة يجوّد فيها القرآن فتظهر على سامعيه عند التلاوة علامات الوجد والهيام، وهو مملوء كذلك بالمدح والثناء على قراءات أشخاص في عينهم. كما أن تلك الروايات والأخبار تأخذ صورا وأنماطا أدبية متنوعة وتظهر كذلك في سياقات ومواقف وعصور مختلفة، وتكاد تلك الروايات تمر بكل دارس للعلوم الاسلامية لا محالة بل بانتظام، فتاريخ استقبال القرآن الذي يحتوي على هذه الشواهد ويضم كل الرؤى المختلفة يحتل في الدراسات القرآنية مكانا عاليا. وتجمع دراسة كرماني هذه الشواهد وتلك الأمثلة من الفترات المتعددة لهذا التاريخ وتحاول معالجتها واستنطاقها. ربما لا يمس هذا الكتاب نظريات عديدة أو يقترب منها البتة، وعليه فلن تتم معالجة كل التأثيرات اللغوية بالمعنى الدقيق، كتأثير القرآن على الفنون التشكيلية على رغم أهميتها من ناحية فلسفة (علم) الجمال، لكن البحث قد يتطرق من بعيد الى قضية استقبال القرآن من مجموعات لغوية غير عربية لأن الاستقبال في تلك الحالة سيختلف لا محالة عنه في البلدان الناطقة بالعربية، وان يكن هذا الاختلاف قد يدخل ضمن التدليل على ما نذهب اليه احيانا. غير أن تلك المعالجة لن تتعدى بحكم حقائق الأشياء وطبيعة الأمور نطاق تلك الدراسة ومجالها. كتاب كرماني موسوعة، تهم قارئ الشعر شأن المهتم بشؤون الدين.
عن سحر اللغة العربية وبيانها
هيفاء شدياق
تشد الأديان أتباعها بتأثير دعاتها وبشاعرية نصوصها وجاذبية أصواتها وأشكالها وشعائرها بل وبأماكنها وألوانها وروائحها، أكثر مما تشدّهم
بمنطق حججها وبراهينها. فالمعلومات التي تسعى الأديان الى تزودها، تنشئها الخبرات العلمية أكثر مما يكوّنها التفكير الذهني، كما أنها معلومات ذات صبغة شعورية قبل أن تكون استدلالية. وليست الأعمال التي تتطلبها شعائر الأديان محاضرات علمية، بل هي أفعال يؤديها أتباعها بجوارحهم قبل أرواحهم، وهذا يصحّ على الأديان كلها، وهذا ما يبينه الكاتب الالماني من أصل إيراني نفيد كرماني في كتابه "بلاغة النور/ جماليات النص القرآني" الصادر لدى "دار الجمل"، حيث يتناول علاقة المسلمين بالقرآن، وأهمية العوامل الشعورية في هذه العلاقة. يحتل مكان الصدارة في الكتاب، استقبال القرآن من جمهور متلقيه. والحال ان البعد الجمالي للقرآن أمر له أهمية محورية في الدين الاسلامي، وذلك لأن جمال لغة القرآن وكمالها هما أعظم معجزة دالة على صدق نبي الاسلام، بل انهما عند كثير من علماء الاسلام المعجزة الوحيدة الدالة على ذلك. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا البعد لم يكن له دور في نظرة الغرب الى الاسلام، هذا اذا استبعدنا دراسات الفن القصصي في القرآن. صحيح أنه يكاد لا يماري عالم من العلماء في أن القرآن هو بناء منظوم نظما شاعرياً كما أن لتلاوته طلاوة وموسيقى، ويعايش المسلمون هذا النظم ويحيونه مدركين عذوبته وجماله. كما ان التعامل مع هذا الكتاب كظاهرة لها بلاغتها وجمالياتها هو من أسس الايمان في العقيدة الاسلامية، على الأقل في العالم الناطق بالعربية. غير أن العلاقة بين تأثير ذلك الأمر في الاستشراق وبين هذه الأهمية وذاك الوضوح لتلك الحقيقة، هي علاقة يعتورها النقصان، وإن يكن الاستشراق نفسه قد لاحظ الظاهرة مبكراً وتناولها حينا وعبّر عنها أحياناً، الا أنه لم يتجه اليها الا متأخرا.
يعتبر كرماني ان علم الدراسات الاسلامية في الغرب تجاهل فعلاً منزلة بلاغة القرآن التي قال بها المسلمون، بل اعتبرها اساطير مجافية للعقل. إن الناتج الضئيل لمثل هذه الجهود ينبغي ألا يجعلنا نفهم بأن عرض الاسلام في الغرب لا يزال يغفل اغفالا تاما المدى الكبير للرؤى الجمالية داخل عالم الايمان في الاسلام. فلقد كانت سمات الصبغة اللغوية الخاصة بالقرآن التي تعدّ في الاعتقاد الديني عند المسلمين نقطة فارقة، مجال الاهتمام الوحيد لفقهاء اللغة من المستشرقين.
استطاع القرآن أن يخلق في النفوس اعجاباً وشعورا بأنه "أحسن كتاب على الاطلاق أدبا ولغة وبلاغة وجمالا، وهو معجز للأفراد والجماعات، يكون أقوى دليل على ذلك"، وذلك بحسب تعبير الباحثة أنجيليكا نويفرت عند تحديدها للغرض من علم اعجاز القرآن (وهو تنزيهه عن المشابهة والمماثلة مع كلام البشر، وتحديه بلغاء العرب بأن يأتوا بسورة مثله)، وهذا ما بدا عند القارئ الغربي ولفترة طويلة أمراً غريباً ومنافيا للمنطق، وأنه يمكن تفسيره بأنه نوع من التعصب الديني.
لقد ظل سجل المآخذ التي صنّفها عام 1910 تيودور نولدكه وهو واحد من أهم علماء الاستشراق حتى يومنا هذا، واتخذ لها عنوانا محايداً هو "حول لغة القرآن" حتى سبعينات القرن العشرين المرجع الأساسي لأهل الغرب عند الحكم على القرآن، ولم يستطع علماء الاسلاميات في الغرب أن يعالجوا قضية اعجاز القرآن معالجة جادة، على رغم أن الايمان بها يعدّ من ركائز العقيدة في الاسلام، ومن ثم لم ير علماء الاسلاميات في الغرب في موضوع اعجاز القرآن "الا تهويمات عقائدية ذات سحر عجيب غريب مثير للغرابة، أو هو مثال للاستلاب الديني، وذلك لئلا يقولوا صراحة بفساد حضارة بأكملها، أو أن هذا أوهام مفرطة لمجد حضارة عربية على أحسن الأحوال"، طبقا لملاحظة أنجيليكا نويفرت النقدية، ناهيك بأن هذا المبدأ الايماني لم يصل قط الى الادراك العام في الغرب. فاذا أراد قارئ عادي أن يعرف السر في ايمان بعض الناس بالقرآن فإنه يتناول ترجمة للقرآن ليدرس فقط محتواه ومضمونه دون نظمه وبنائه. وينبغي التنويه هنا بأن المسلمين وبخاصة ذوي الأصول العربية منهم لا يحبذون بالمرة ادراك مضمون الوحي في القرآن من طريق قراءة ترجمة له، ويشير كرماني في هذا الصدد الى أنه غالباً ما يتم تفسير التمسك بعدم امكان ترجمة القرآن بأنه دليل اضافي على ضيق الافق عند المسلمين، أو كبرهان على الأصول الاسلامية، وبخاصة عندما يدور حديث الأطفال الأتراك المقيمين في ألمانيا الذين يحفظون القرآن في لغته العربية حتى دون أن يفهموا مما يقرأون كلمة واحدة. ويكاد يقترب من هذا أيضاً، النظر الى تأنيب الضمير الموجود بقوة حتى عند المسلمين التنويريين في أن يقرأوا القرآن بلغة أخرى غير العربية، ناهيك بتلاوته، اذ أن هذا كله من المسلمات والبديهيات في باب الايمان في الاسلام.
ثمة قصص كثيرة، لا تعد ولا تحصى، مذكورة في المراجع الاسلامية، تحكي كلها عن تأثير لا يقاوم لسماع القرآن على صحابة النبي ومعاصريه، ومنها قصص تذكر ان اناسا يعلنون اسلامهم عند مجرد سماعهم آية واحدة من القرآن.
استنادا الى تلك القصص فإن القرآن ادهش اتباعه وبهرهم. ولو حاول الانسان ان يبحث في الدراسات الغربية المتعلقة بتاريخ الاسلام عن اسباب فلسفية وسياسية ونفسية واجتماعية او عسكرية لنجاح النبي محمد في تبليغ رسالته ودعوته، لرأى ان السمة الادبية البلاغية للقرآن كانت عاملاً حاسماً في انتشار الاسلام بين العرب في القرن السابع الميلادي، ومن هذه المصنفات أمثلة عديدة تدل على التأثير المسيطر والمهيمن لتلاوة القرآن، حيث يكون النظم اللغوي للقرآن احد العناصر المؤدية الى الهداية.
سحر اللغة
من القرن العاشر الميلادي بات من الأركان التي تأسست عليها هوية المؤمنين من أمة الاسلام الاعتقاد بفن البيان عند العرب وبإعجاز أسلوب القرآن، وكذلك القول بأنه ليس في استطاعة احد من العرب الفصحاء معارضة القرآن بما هو احسن واجمل او اروع او اخذ بمجامع القلوب. فإعجاز القرأن هو دليل واضح على ان ما يربط افراد الجماعة المسلمة وما يميزها عن افراد جماعات دينية أخرى هو اقتناع الأولين الديني بأن الإعجاز هو حقيقة موضوعية، كما انه صالح لكل زمان. فقد كان لزاماً على النبي محمد المرسل الى قوم يشتهرون اكثر ما يشتهرون بشعرائهم، ان تكون معجزته عملاً لغوياً معجزاً.
لقد كانت المعارضة الشعرية بين شاعرين في الجاهلية كما هو ثابت في الرواية المألوفة، والمنقولة عن الاستشراق، تعد مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية. وتخطت المنتديات ما هو فني وأدبي، فكانت لها دلالة سياسية، لأنها استطاعت في نهاية المطاف ان تقرر المعارضات بلغة الحروب بين العشائر والقبائل. لقد أثار القرآن لدى اهل قريش حيرة وخوفاً، وفي نهاية المطاف ذهولا، إذ هزمهم النبي في مجال قوتهم ومحيط تفوقهم الا وهو مجال الشعر، وسلب منهم أقوى اسلحتهم وامضاها وهو التعامل السامي باللغة، وأقر اساطين البلاغة فيهم بسلطان كلام الله فاستيأسوا. وحاول بعض الشعراء عبثا ان يجاروا القرآن اسلوبا. ويقول محمد راميار في كتابه "تاريخ القرآن" ان شعراء مكة كانوا يتوارون حتى لا يراهم ولا يعرفهم احد ويرى في هذا شاهدا من شواهد كثيرة على عظمة الوحي الالهي وتأثيره.
يقول كرماني ان من الجائز ان نسمّي القرآن سحرا، وسحر اللغة ظاهرة عالمية قديمة لكنها لا تزال معاصرة، وقد اهتم بموضوعها في القرن العشرين خصوصاً مجموعة مختلفة من علماء اللغة. كان السحر حاضرا في اللغة القرآنية ولا يزال موجودا في الشعر، وكذلك فإن اثار سحر اللغة لا تزال منتشرة حتى يومنا هذا، بخاصة في المناسبات الدينية، اثناء أداء الطقوس، وفي حفلات الزواج ومناسبات العزاء، غير ان الكلمات بدأت تفقد ايضا بالتدريج تداعي المعاني الروحية السحرية، ولكن هذه المعاني على العكس من ذلك لا تزال تستدعى وتستحضر في الشعر حتى يومنا هذا، وثمة مجموعة من الشعراء في القرن العشرين منهم لديهم ادراك بأن الشعر جوهر السحر اللغوي. الكلمات في اي نص شعري ليست تمثيلا مجردا للاشياء الموصوفة. انها شارات ودلالات مختلفة على الواقع، فالكلمات تمارس نوعا من النفوذ والتأثير في بنيتها الخاصة بها.
ريلكه وشعراء كثيرون غيره دعوا الى الوظيفة الساحرة للغة الناقلة المعاني غير المباشرة، لانهم ادركوا مقدار الخسارة التي جلبها ادراك لغوي متغير ذو بعد واحد.
يسأل كرماني هل القرآن شعر؟ الإجابة من منظار الدين الإسلامي هي النفي القاطع، وقياسا الى معايير نظرية في الأدب العربي القديم، فانه على الرغم من اشتمال القرآن على عناصر شعرية، وحاجته الى تفسير أدبي على حد قول أمين الخولي، الا أنه من حيث الاسلوب لا يندرج تحت مسمى الشعر.
لغة القرآن
يدرس كرماني في كتابه ماهية القرآن عند المسلمين، وأن يُفهم كنظم متكامل، وليس بحسبانه موضوعاً محسوسا بل بحسبانه نظاما من العلاقات. على أن العلاقات التي يعنيها هذا الكتاب هي تلك الموجودة بين النص ومستقبليه، اذ لا وجود لنص خارج نطاق مستقبليه أو بعيدا عنهم. ويسأل كرماني كيف أمكن علم التوحيد في الاسلام أن يتوصل الى مجموعة من المعتقدات والشعائر انطلاقا من السمة الأدبية لمعجزة القرآن. ان تاريخ التوحيد والأدب الذي كتبه المسلمون وبخاصة ذلك المدون باللغة العربية زاخر حتى يومنا هذا بشواهد كثيرة وأدلة متعددة على جماليات القرآن، وبأخبار عن مواقف عديدة ومناسبات مختلفة يجوّد فيها القرآن فتظهر على سامعيه عند التلاوة علامات الوجد والهيام، وهو مملوء كذلك بالمدح والثناء على قراءات أشخاص في عينهم. كما أن تلك الروايات والأخبار تأخذ صورا وأنماطا أدبية متنوعة وتظهر كذلك في سياقات ومواقف وعصور مختلفة، وتكاد تلك الروايات تمر بكل دارس للعلوم الاسلامية لا محالة بل بانتظام، فتاريخ استقبال القرآن الذي يحتوي على هذه الشواهد ويضم كل الرؤى المختلفة يحتل في الدراسات القرآنية مكانا عاليا. وتجمع دراسة كرماني هذه الشواهد وتلك الأمثلة من الفترات المتعددة لهذا التاريخ وتحاول معالجتها واستنطاقها.
ربما لا يمس هذا الكتاب نظريات عديدة أو يقترب منها البتة، وعليه فلن تتم معالجة كل التأثيرات اللغوية بالمعنى الدقيق، كتأثير القرآن على الفنون التشكيلية على رغم أهميتها من ناحية فلسفة (علم) الجمال، لكن البحث قد يتطرق من بعيد الى قضية استقبال القرآن من مجموعات لغوية غير عربية لأن الاستقبال في تلك الحالة سيختلف لا محالة عنه في البلدان الناطقة بالعربية، وان يكن هذا الاختلاف قد يدخل ضمن التدليل على ما نذهب اليه احيانا. غير أن تلك المعالجة لن تتعدى بحكم حقائق الأشياء وطبيعة الأمور نطاق تلك الدراسة ومجالها.
كتاب كرماني موسوعة، تهم قارئ الشعر شأن المهتم بشؤون الدين.