كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة discussion


9 views
كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة

Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

أم حمزة فمن أمثلة هذه المغالط إطلاق كلمة التعصب الجاهلي المذموم ، على معنى التمسك بالحق المحمود ، لتنحل قوى المتمسك بالحق خوفاً من أن يتهم بالتعصب المذموم .

إن التعصب المذموم هو التمسك بفكرة باطلة ، أو لا دليل عليها من عقل ولا حس ولا تجربة علمية ، والباعث على التمسك بها ابتاع الإنسان لقومه الآخذين بها ، أو لآبائه وأجداده ، أو لقائده وإمامه ، أو لحزبه وجماعته ، أو عناده في مناصرة رأي كان قد رآه ، فصعب عليه أن يتراجع عنه ، لئلا يعترف على نفسه بأنه كان قد أخطأ في تبنيه ذلك الرأي .
وقد ذم الإسلام هذا التعصب ذماً شديداً ، ونجد في القرآن الكريم عدة نصوص في ظاهرة التعصب وذمها ، ومناقشة المحتجين على صحة طريقتهم بأنهم ألفوا آباءهم عليها ، فهم على آثارهم مقتدون ، وقد ظهرت هذه الحجة على ألسنة معظم الأمم السالفة ، حينما دعتهم رسلهم لأتباع الحق الذي بعثهم الله به .
ففي سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) وصف الله الذين لا يؤمنون بقوله :
{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
وفي سورة (الشعراء/26 مصحف/47 نزول) قص الله علنيا قصة إبراهيم مع قومه ، وما كان بينهم من جدال حول عبادتهم للأصنام ، فقال تعالى :
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *}.
وفي سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) قص الله علينا قصة موسى مع قومه ، وأنه كان من جدلياتهم تعجُّبهم من أنه جاء ليلفتهم عما وجدوا عليه آباءنا ، فقال تعالى في ذلك :
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...}.
وفي سورة (لقمان/31 مصحف/57 نزول) أبان الله أن من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير ، ويحتجون على طريقتهم بما وجدوا عليه آباءهم ، فقال عزّ وجلّ :
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }
أي : هل من الحكمة والعقل وحرص الإنسان على مصلحة نفسه ، أن يتبع ما وجد عليه آباءه ، ولو كان مصير هذا الاتباع أن يعذّب في النار .
وفي سورة (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) أبان الله أن ظاهرة الاحتجاج بما كان عليه الآباء ، قد كانت سمة مترفي كلِّ أمةٍ لم تستجب لدعوة رسولها ، وذلك تعقيباً على مقالة كفار قريش لمحمد رسول الله ، قال الله عزّ وجلّ :
{بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ من نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
على أمة: أي على دين ، أو على ملة ، أو على طريقة .
كل ما سبق من نصوص كان من السور المكية ، ونلاحظ أنه ليس فيها هجوم تسفيهي مباشر ، بل فيها معاريض ألفاظ ، وبيانات عامة ، وتوجيهات غير مباشرة .

أما في المرحلة المدنية فالتوجيه كان مباشراً وقاسياً:
ففي سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) يقول الله عزّ وجلّ بشأن المشركين الذين رفضوا دعوة الرسول محمد :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}.

فالتعصب ظاهرة مذمومة أبلغ الذم في الإسلام ، لأنه اتباع للباطل بدافع العصبية الجاهلية .

أما التمسُّك بالحق الذي تقوم الأدلة على إثباته ، فهو ما يوجبه منطق العقل ، أو تدعو إليه مصلحة الإنسان العاجلة أو الآجلة ، والفرق بينه وبين التعصب كالفرق الذي بين الحق والباطل ، وكالفرق الذي بين الإيمان بالحق والإيمان بالباطل .

هل يُقبل في عقل أي عاقل أن نتهم الإنسان بالتعصب إذا قال : الثلاثة ثلاثة ، ولا تكون واحداً بحالٍ من الأحوال ، ولم يتسامح مع الذين يقولون : الثلاثة واحد . أو إذا قال : أنا إنسان ولست قرداً ، ولم يساير الذين يصرون على أن يجعلوه قرداً .
إن الإنسان لا يملك مطلقاً أن يساوم على الحق الجلي ، حتى يعتبر وقوفه عنده تعصباً ، وإن قضايا الحق الظاهر لا تقبل إلا التمسك بها ، وليس هذا التمسك تعصباً بحالٍ من الأحوال .

لكن المغالطين يوهمون أن التمسك بالحق هو من باب التعصب ، تضليلاً ، وعبثاً بمفاهيم الألفاظ ، ويقع بهذه المغالطة فريق من الناس ، فيتركون الاستمساك بالحق ، خوفاً من أن يتهموا بأنهم متعصبون .


back to top