Kindle Notes & Highlights
كان «أوروخ» الابن البكر لـ«مندور »(2) أبي،
تحت الروب الأوروبي وتحت الزي الجاويِّ، «السارونج».
ما كان يضايقني هو نمش وجهي، وبشرتي التي تحمرُّ وتتقشر في الشمس القوية، فأحسد «أوروخ» على بشرته الداكنة المتجانسة، التي لا تلطخها سوى بقع وردية، هنا وهناك، نتيجة مرض جلدي أصابه في زمن سابق.
لم يكن «أوروخ» قاسي الطبع، كل ما في الأمر هو أنه كان يفتقر إلى شعور الإنسان الغربي الذي يدفعه عادة إلى الرفق بالحيوان واحترامه، انطلاقًا من وعيه الغامض بما يربطهما من صلة قرابة.
لا ينبغي للولد أن يذهب إلى «الكامبونج». هذا شيء يفسده. إنه لا يستطيع أن ينطق كلمة صحيحة بالهولندية. ألا تسمعين ذلك؟ لقد أصبح «جاويًّا» خالصًا. لماذا لا تبقيه في البيت؟
في «الكامبونج» يقرع أحد الأشخاص على جذع شجرة مفرَّغ في إشارة إلى حلول الليل.
«التيلاجا هيدونج»، البحيرة السوداء، الواقعة في الجبال.
أزحت طرف فستان أمي إلى جانب، فاكتشفتُ في أثناء عملي هذا أنها تمسك يد السيد «بولينجر».
طبعًا لا. كان ينبغي للسيد الشاب أن يكون في فراشه منذ وقت طويل .
جاء «أوروخ» ليودعك. سينتقل إلى بيت آخر .
وعلى رأسه القبعة السوداء الخاصة بالشباب المسلمين.
في ذلك الوقت اكتشفت متعة القراءة أيضًا، الأمر الذي كان يستهوي «أوروخ» في الحدود الدنيا،
لأنني كنت أعدُّ وجود «أوروخ» بيننا من الأمور البديهية، لم أضع في حسباني آنذاك المكانة الغريبة التي يحتلها «أوروخ» عندنا،
لم أفهم إلا بعد ذلك الوقت بكثير أن صداقتي أنا و«أوروخ» كانت تعني بالنسبة إليها تخفيفًا من أعبائها.
كنت حتى في هذا البيت الريفي المتداعي،
على الرغم من أنني كنت على وعي، وإن بشكل جزئي، بوجود اختلاف في العرق والمنزلة بيني وبين خدم البيت،
اندهشت أعظم اندهاش، عندما لاحظت للمرة الأولى أن علاقة «أوروخ» بي وبوالديَّ تثير سخرية الخدم ونفورهم.
كان واحدًا من أولئك الناس الذين يستطيعون قضاء وقت ممتع بمفردهم تمامًا.
كنت أشعر حينذاك، وإن بوعي غير كامل، أنه ليس هناك شيء في العالم أكثر حزنًا من موسيقى «المارش» وموسيقى «الفالس» في برودة ذلك البيت الذي لم يعد بيتًا .
كان التعامل مع الأطفال من الأمور الغريبة على والدي.
أما أنت فيجب أن تكمل تعليمك. كما أنك ... تردد قبل أن يضيف : ـ ... يجب أن تفهم يا بني. أنت أوروبي .
أدركت للمرة الأولى في حياتي أن «أوروخ» هو «شخص من أهل البلد» في نظر الآخرين؛ ليس شخصًا من أهل البلد مثل «هارسونو كوسوما سودجانا» ابن الحاكم الذي كان معنا في الصف، بل هو صبي قروي، ابن مرؤوس في المزرعة. أحسست بهذا الاختلاف من نبرة الأمر الخفيفة التي استعملها ضيفاي مع «أوروخ»،
الاختلاف شيء طبيعي. كل شخص مختلف عن الآخرين. أنا أيضًا مختلف عنك. ولكن أن تكون أقل أو أكثر شأنًا بسبب لون بشرتك أو مكانة أبيك، فهذا هراء. هل «أوروخ» صديقك حقًّا؟ إذا كان كذلك، إذا كان صديقك، فكيف يمكن أن يكون أقل شأنًا منك أو من أي شخص آخر؟
بدأ الشك يراودني، وليس عن غير حق، بأن أبي يعتبر إقامتي عند «ليدا» وسيلة يفطمني بها عن مصاحبة «أوروخ».
لم تكن لديها قدرة على التخيل، ولا على تفهم أو حتى تصديق الأشياء التي لا تستطيع أن تتصور أنها موجودة، سذاجتها المتأصلة جعلتها ضحية المرة تلو المرة، كانت برجوازية من دون أن تكون تافهة، تسعى إلى الخير بالمعنى المسيحي من دون أن تكون متعصبة. تقيِّم الناس كلهم والأشياء كلها بمعايير روحها النقية، غير العملية، العاجزة تمامًا عن التصور.
يبتسم أحدنا للآخر ابتسامة ذات معانٍ كثيرة من طريقة جلوسها اللامبالية في الكرسي الخيزراني المنخفض، بحيث تظهر حمالتا جوربها زهري اللون، المشدودتان حول فخذيها.
ليست سيئة
كانت قد أمضت بضع سنوات في خضوع وتبعية، بصفتها مربِّية أطفال ومعلمة مدرسة، وبدا أنها عازمة على تعويض الأضرار التي لحقت بها في تلك السنوات،
أدركنا في تلك اللحظة أن السنة المتسمة بالترتيب والنظام التي قضيناها في بيت «ليدا» النظيف، زودتنا بتحفظ داخلي ضد القذارة والفقر الموجودين في القرية. بدا «أوروخ» مثل أمير بين إخوته وأخواته بملابسهم الرثة.
نظرت إلى «أوروخ» فرأيت في نظرة عينيه أنه هو أيضًا توصل إلى هذا الاكتشاف نفسه. لقد ولَّى شيء إلى غير رجعة. لم نعد أطفالًا .
لم تكن حرارة الطقس ولا مشاغل الحياة في باتافيا من الأمور السهلة على «ليدا». أصبحت أقل عناية بنفسها وأقل ابتهاجًا مما كانت عليه في «سوكابومي»،
بدا لي، بتخليه عن قبعته، أنه فقد سمة خاصة من سماته . أفقدته الملابس الأوروبية، وقصة شعره الغزير الحديثة،
تواصلي مع «أوروخ» قلَّ عما كان عليه في السابق. لم تكن تواجهه أي مشكلة من مشكلات المراهقة التي كنت أعاني منها. اعتراني إحساس بأنني غِرُّ وساذج مقارنة به. لعل حريتي المحدودة في الحركة، سبَّبت لي عقدة النقص هذه. كان بإمكان «أوروخ» أن يفعل ما يريد في المساء،
في بيت هذه الفتاة تعلمنا الرقص؛ شعرنا حينذاك بأن عدم قدرتنا على الرقص خلل في تربيتنا يقف عائقًا أمامنا .
الطبيب على الأقل سيد نفسه. سيأتي الجميع إليَّ ليرقدوا تحت مشرطي . وأصدر مع الكلمات الأخيرة الصوت الذي يصدره الإنسان عندما يتحدث عن حز العنق .
فهمت منه لاحقًا أنه كان يظن ـ ظنًّا خاطئًا وفق اعتقادي ـ أن مسألة العرق والمكانة لن تشكل بالنسبة له ولا للآخرين أي أهمية في «العالم الجديد ».
لا أستطيع القول إنه كان يعاملها بحب أو حتى باحترام ملحوظ. لاح عليه أنه يعتبر رعايتها الجيدة له، والتضحيات التي تقوم بها من أجله، واهتمامها الذي لم يفتر يومًا بتقدمه وإنجازاته، وتسامحها معه وثقتها به، من الأمور البديهية للغاية.
لعل «ليدا» هي نفسها لم ترغب في أن يكون هناك رابط عاطفي بينهما. لم ترغب في أن تكون سوى عامل مساعد يساهم في تطوير هذا الإنسان، الذي بقي غريبًا عليها بكل ما يملك من أشكال التعبير، لكنه ربما لهذا السبب بقي يستعطفها ويستميل قلبها.
لم تعرف كيف تتعامل مع هذا المظهر الجديد من مظاهر تربية «أوروخ». أخذت تراقبه عن كثب، وبدأت تتوهم وجود مخاطر لم تكن موجودة.
بقي «أوروخ» في بيت الطلاب حتى انتهائه من دراسته الإعدادية. في البداية، أحس بالإهانة والإساءة إليه لأنه وُضع له حد. لم يعجبه برنامجنا اليومي الصارم ولا الجو العام في الدار.
استطاع أن يواظب على إحساسه بالمساواة معنا من دون أي صعوبة، لكنه لم يستطع أن يفعل ذلك في بيت الطلاب. لم تستطع ملابسه ولا تصرفاته أن تحقق له ما يرنو إليه: أن يصبح واحدًا منا .
لم يكن بمقدورنا، لا أنا ولا «أوروخ» ولا «ليدا»، أن نسترجع النبرة الحميمة التي اعتدنا التحدث بها في السنوات الماضية، حتى لقد شعرت بأننا لن نستطيع استرجاعها مرة أخرى على الإطلاق.
أخذ «أوروخ» وعبد الله، وهما في حالة هيجان وفوران، يوجهانها إلى الحكومة، وإلى الهولنديين، وإلى ذوي البشرة البيضاء على العموم. رأيت أن الكثير من ادعاءاتهما يعتمد على أسس ضعيفة أو أنها ادعاءات مجحفة، لكنني لم أملك من الحجج ما أدحض به تلك الادعاءات.
التي انقطعت عنها فترة من الزمن بسبب الحرب، ثم توقفت عنها بشكل كامل بسبب الإجراءات التي اتخذها الألمان. كانت لي مساهمة في المقاومة الهولندية، شأني في ذلك شأن معظم الهولنديين الذين أعرفهم.
لم يساورني القلق عن حالة الفوضى والتحالفات الغريبة التي تركها الاحتلال الياباني وراءه هناك.
كانت رغبتي في الرجوع إلى الهند الشرقية والعمل فيها تتأتى بالدرجة الأولى من شعوري العميق بالارتباط بالبلد الذي وُلدت وترعرعت فيه.
أحسست أن هذه اللحظة هي النتيجة الحتمية التي أدت إليها كل الأحداث التي عشناها أنا و«أوروخ» منذ أن جئنا إلى هذه الدنيا. نمت ونضجت في كياننا، غصبًا عن إرادتنا، ومن دون وعي منا. هنا، على مفترق الطرق هذا، استطعنا لأول مرة في حياتنا أن يواجه أحدنا الآخر بمنتهى الصدق .
استدرت نصف استدارة ونظرت إلى «التيلاجا هيدونج»؛ حفرة موغلة في القدم، حولتها الأمطار إلى بحيرة ـ مرآة الأشجار والغيوم، ملعب الضوء والظل، هبات الريح وثعبان المياه ـ المملكة المغمورة التي تكشف عن وحشيتها اللاإنسانية بالتماعات الدم وسيقان النباتات المفترسة تحت سطحها الأسود .
هل كان «أوروخ» حقًّا؟ لا أعرف ولن أعرف أبدًا، حتى إنني لم أعد قادرًا على معرفته .