More on this book
Kindle Notes & Highlights
هذا كل ما يتطلّبه الأمر، لحظة تافهة كهذه، يدرك المرء بعدها، للمرة الأولى وللأبد، عناءَ أن يكونَ نفسه.
يجب ألا يترك الموظف نفسه ليعتاد على الفراغ، يقول الخبراء هنا، حتى يبقى دائماً على أهبة الاستعداد متى استدعت الحاجة. بسبب هذه الحكمة، تُلقى عليك المهمات واحدة تلو الأخرى، قبل أن تفرغ من سابقتها، بحيث تبقى مشغولاً دائماً ومهيأً للمزيد من الانشغال، كأن لحظة فراغ واحدة قد تفسدك.
أجر خطوة ثقيلة خلف الأخرى، كجندي جريح يسحب إصابته في معركة؛ لكني لا أحارب شيئاً، فمن أين يأتي كل هذا التعب؟
لم يكن الموضوع مهماً، ولا الإثارة القصصية، بل هذا التدفق المستمر للتعابير وهي تتناسل واحدة من الأخرى. بالنسبة لطفل على قدري من الكتمان، كان ذلك فتحاً من فتوح الحياة.
بإمكانك أن تخمّن من صوت الشخص وحده، فضلاً عن مواضيع ثرثرته، أنه بدأ لتوّه حياة جديدة. وصوتها كان واثقاً مستقراً ويملك خططاً في الحياة؛ صوت امرأة مرفَّهة حديثاً، وزوجها مدير في بنك، وأسرته ذات سمعة ووجاهة.
يجب أن يكون في حياة المرء مكان يفكر به، يتعلم عنه، وربما يتوق إليه، لكن لا يزوره أبداً.
على الممر المكشوف من الغرفة كانت تنتصب لوحة كبيرة تنبّه لأعراض الكورونا، وتتوزّع بجانبها منشورات توعوية للوقاية وتجنّب العدوى. انتشار الفايروس أصبح محدوداً، إلا أن الخوف منه ما زال يحوم كنسر في المكان. بمجرد أن يسعل أحدهم تتّجه كافة الأنظار إليه؛ حتى الرجل ذا الساق المكسورة بدا أشد خشية من الفايروس مما على ساقه.
وحين اهتديت إلى الممر وجدته بهيجاً سائغاً، وخليق به أن يقود المرء إلى حيث يريد أن يصل. وكان مكشوفاً من جهة زجاجية على ساحة مفتوحة للعب، ومن جهته الأخرى كان الجدار أملس مشرقاً، والشمس تنطرح على امتداد أرضيته في مربعات كبيرة كسجاد مشمس فوق الرخام. قلت: أوه يا له من ممر شيّق طويل، ومشيت وحدي فيه. ثم رفعت صوتي خلاله، وقلت يا أيها الممر، ها أنا أعبرك للمرة الأولى، ولسوف أعبرك مجدّداً عدداً لا أعلمه من المرات، لكني أود أن أقول، نيابة عن كل المرّات المقبلة، ولعلي أكون أشد إنهاكاً وقتها من أن أخبرك، أود أن أقول الآن إني أحبك، وإنك ممر شيّق بهيّ، والإضاءة فيك رائعة، وأرضك دافئة إذا نعّم المرء فيها
...more
كانوا يحتاجون إلى أن أبدي حاجتي لهم، لكن لم يكن في داخلي المساحة الكافية لمراعاة احتياجات الآخرين.
هل هذا ما يشعر به المرء حين يمسك زمام قَدَره؟ هل هذا ما يعنيه التحكّم بمصيرك الخاص؟ هل هذا هو تمالك الخراء؟ بمجرد أن دخلت غرفتي في البيت أدركت أن هذا ما يجب التركيز عليه منذ الآن: معارك صغيرة منظّمة، انتصارات شخصية تافهة؛ الطريقة المثلى للاستمرار في المكافحة.
هل هذا هو الانعزال؟ هل هذا ما كنت أتوق للتخلص من عملي لفعله؟ هل هذه هي الذات التي كنت أرغب في أن أتوحد بها؟ لماذا تصورت أني سأكون كأولئك الشعراء الذين يستقون الإلهام من آلامهم وفوضويتهم وفراغهم الدائم؟ أين يكمن الشعر في هذه البطالة؟ أين توجد الحكمة؟
امتنعت طوال الأسبوع الأول عن طلب أي مساعدة من الآخرين؛ من المذهل تصور كمية الأشياء التي قد أرغم نفسي على المرور بها فقط كي لا أحتاج لأحد.
لكننا كنا نتشارك خاطراً ما، وكان يكفي أن نجلس هكذا ليتوحّد هذا الإدراك، بلا كلمات، بلا إيماءات، بلا أي طبطبة أو ملامسات؛ بالطريقة المواسية التي ينسجم بها عجوزان في آخر العمر، يجلسان معاً، وكلاً منهما وحده، على حافة الموت.
كنّ ينشغلن باللعب والركض خلف بعضهن البعض بفساتينهن المنفوشة التي تصدر حفيفاً ناعماً، وأنا أتابعهن في صمت من مكاني المعتاد على الدرج؛ متمنّعاً عن المشاركة خشية أن أُرفض، عاجزاً عن اكتشاف الطرق السهلة التي يحدث بها الاندماج.
أتذكر هذا وأنا أنثر فتات طعام جديد فوق البلاط، ثم أتابع بضع نملات وهي تجتمع وتتغذّى منه معاً، أو تحمله إلى صغارها في الجحور. فجأة يصبح سلب أتفه الحيوات، حتى لو لم تكن سوى حياة حشرة، عملاً مضنياً باعثاً على الحزن الشديد. لكن ليس ثمة ندم في هذا الحزن، ولا كآبة تتلوه بعد أن بدأ مفعول عقار الاكتئاب. إنه حزن من نوع آخرٍ هذا الذي أشعر به الآن، أقرب إلى ما يشعر به المرء بعد قصيدة هايكو. ثمة كلمة تختزله في اللغة اليابانية، لا نظير لها في أي لغة أخرى كما قرأت. تُنطق مقاطعها هكذا: «مونو نو أوير»، وتعني: الأسى العذب على زوال الأشياء، أو العطف الناتج عن إدراك حتمية مضيّها. ها هي أول كلمة يابانية أجيدها.