More on this book
Kindle Notes & Highlights
وإنما العار أن نظنَّ في أنفسنا الكمال، وننكر نقائصنا، وندَّعي أن عوائدنا هي أحسن العوائد في كل زمان ومكان، وأن نعاند الحق وهو واحد لا يحتاج في تقريره إلى تصديق منا به، وكل ما نقوله أو نفعله لإنكاره لا يؤثِّر فيه بشيء، وإنما يؤثِّر فينا أثر الباطل في أهله، ويقوم حجابًا بيننا وبين إصلاح نفسنا؛ إذ لا يمكن لأمَّـة أن تقوم بإصلاح ما إلاَّ إذا شعرت شعورًا حقيقيًا بالحاجة إليه، ثمَّ بالوسائل الموصِّلة له.
ouness liked this
ومن أحكم الأشياء التي يدور عليها تقدُّم النوع الإنساني، ويؤكِّد حسن مستقبله، هذه القوَّة الغريبة التي تدفع الإنسان إلى نشر كل فكرة علمية أو أدبية متى وصلت إلى غاية نموها الطبيعي في عقله،
تلك بدعة في الإسلام، وما يرمي بهذه الكلمة إلاَّ حبُّ التخلُّص من مشقَّة الفهم، أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء، كأن الله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحية.
لِمَ يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟
نرى أن سلطان العادة أنفذ حكمًا فيها من كل سلطان، وهي أشد شئونها لصوقًا بها، وأبعدها عن التغيير، ولا حول للأمَّـة عن طاعتها إلاَّ إذا تحوَّلت نفوس الأمَّـة وارتفعت أو انحطت عن درجتها في العقل؛
فقد تتغلَّب العادات على الدين نفسه فتفسده وتمسخه بحيث ينكره كلُّ مَنْ عرفه.
ولو كان لدين ما سلطة وتأثير على العوائد لكانت المرأة المسلمة اليوم في مقدِّمة نساء الأرض.
إذا غلب الاستبداد على أمَّـة لم يقف أثره في الأنفس عند ما هو في نفس الحاكم الأعلى، ولكنه يتَّصل منه بمَنْ حوله، ومنهم إلى مَنْ دونهم، وينفث روحه في كل قوي بالنسبة لكل ضعيف متى مكَّنته القوَّة من التحكُّم فيه، يسري ذلك في النفوس رضي الحاكم الأعلى أو لم يرضَ.
فلو كملت تربية النساء على مقتضى الدين، وقواعد الأدب، ووقف بالحجاب عند الحدِّ المعروف في أغلب المذاهب الإسلاميَّـة؛ سقطت كل تلك الانتقادات، وأمكن للأمَّـة أن تنتفع بجميع أفرادها نساءً ورجالاً.
فإذا فاق الرجل المرأة في القوَّة البدنيَّـة والعقليَّة فذلك إنما؛ لأنه اشتغل بالعمل والفكر أجيالاً طويلة كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوَّتين المذكورتين، ومقهورة على لزوم حالة من الانحطاط تختلف في الشدَّة والضعف على حسب الأوقات والأماكن.
فلأن النساء في كل بلد يُقدَّرن بنصف سكانه على الأقل، فبقاؤهن في الجهل حرمان من الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمَّـة، وفيه من الضرر الجسيم ما لا يخفى.
ونرى وكلاءهن يشتغلون بشئون أنفسهم أكثر مما يشتغلون بشئون موكلاتهم فلا يمضي زمن قليل إلاَّ وقد اغتنى الوكيل وافتقر الأصيل.
لأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التي يرتفع بها شأن الإنسان من منازل الضعة والانحطاط إلى مراقي الكرامة والشرف،
أي نفس حسَّاسة ترضى بالمعيشة في قفص مقصوصة الجناح مطأطئة الرأس، مغمضة العينين، وهذا الفضاء الواسع الذي لا نهاية له أمامها، والسماء فوقها، والنجوم تلعب ببصرها، وأرواح الكون تناجيها وتوحي إليها الآمال والرغائب في فتح كنوز أسرارها؟
ولو تبصَّر المسلمون لعلموا أن إعفاء المرأة من أول واجب عليها وهو التأهل لكسب ضروريات هذه الحياة بنفسها هو السبب الذي جرَّ ضياع حقوقها؛
أن الله خلق حواء من ضلع آدم، وفيه على ما أظنُّ رمز لطيف إلى أن الرجل والمرأة يكوِّنان مجموعًا واحدًا لا يتمُّ إلاَّ باتحادهما،
لأن الحب الحقيقي الذي عرفت عنصريه المادي والمعنوي لا يبقى إلاَّ بالاحترام، والاحترام يتوقَّف على المعرفة بمقدار مَنْ تحترمه،
أمَّا ذلك الامتزاج بين روحين اختارت كل منهما الأخرى من بين آلاف من سواهما امتزاجًا تامًا يؤلِّف منهما موجودًا واحدًا كأن كلاً منهما صوت والآخر صداه، ذلك الإخلاص التام الذي يُنسِي الإنسان نفسه ولا يدع له فكرًا إلاَّ في صاحبه؛
«الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكلِّ ما يُنقَش، ومائل إلى كل ما يُمَال إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه وعَلِمه؛ نشأ عليه وسعد في الدُّنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكلُّ معِّلم له ومؤدِّب، وإن عُوِّد الشرّ، وأُهمِلَ إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له.
فإذا رأينا عملاً جميلاً مدحناه من طرف اللسان، وإذا شاهدنا فعلاً قبيحًا استهجناه بهزِّ الرءوس،
ولست ممَنْ يطلب المساواة بين المرأة والرجل في التعليم؛ فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن — ولا أتردَّد في الطلب — أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل، وأن يُعتنَى بتعليمهن إلى هذا الحدِّ مثل ما يُعتنَى بتعليم البنين.
ربما يتوهَّم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرَّة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلاً من أصول الأدب التي يلزم التمسُّك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلاميَّـة، وهو على ما في تلك الشريعة يخالف ما تعارفه الناس عندنا؛ لما عرض عليهم من حب المغالاة في الاحتياط والمبالغة فيما يظنُّون عملاً بالأحكام حتى تجاوزوا حدود الشريعة، وأضرُّوا بمنافع الأمَّـة.
لو أن في الشريعة الإسلاميَّـة نصوصًا تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين لوجب عليَّ اجتناب البحث فيه، ولَمَا كتبت حرفًا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرِّة في ظاهر الأمر؛ لأن الأوامر الإلهيَّـة يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة، لكننا لا نجد نصًا في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة. وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم؛ فاستحسنوها، وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكَّنت في الناس باسم الدين والدين براء منها؛
عجبا! لِمَ لم تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوهِهم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهنَّ؟ هل اُعتُبِرَت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واُعتُبِرَ الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه، واُعتُبِرَت المرأة أقوى منه في كل ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحُسْنِ والجمال. ومُنِعَ النساء من كشف وجوههنَّ لأعين الرجال منعًا مطلقًا؛
فمن البديهي أن كلَّ ما تحصِّله من الكتب يُعدُّ من قبيل الخيالات إن لم تمكِّنه التجربة ويؤكِّده العمل،
وبديهي أن المرأة التي تحافظ على شرفها وعفَّتها، وتصون نفسها عما يوجب العار وهي مطلقة غير محجوبة لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة. فإن عفَّة هذه قهرية أمَّا عفَّة الأُخرى فهي اختيارية؛ والفرق كبير بينهما، ولا أدري كيف نفتخر بعفَّة نسائنا ونحن نعتقد أنهنَّ مصونات بقوَّة الحرَّاس، واستحكام الأقفال، وارتفاع الجدران؟
ولعل التكليف الإلهي إنما يتعلَّق بما يقع تحت الاختيار لا بما يستكره عليه من الأعمال؛ فالعفَّة التي تُكلَّف بها النساء يجب أن تكون من كسبهنَّ ومما يقع تحت اختيارهنَّ لا أن يكنَّ مستكرهات عليها،
فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال يرفع الأنفس من الدنايا ويبعد بها عن الخسائس؛
فإذا كان إجماعنا قد انعقد على أن لا خير للرجال في الجهل والاستعباد، وأن لا سبيل لهم إلى بلوغ درجات الفضل إلاَّ بالعلم وحرية الفكر والعمل. فما لنا نختلف في هذه القضية نفسها إذا عرض ذكر المرأة؟ وأي فرق بين الصنفين في الفطرة والخلقة؟
متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل؛ أدرك أن الذي تشتاق إليه نفسه هو حبٌّ يصل بينه وبين إنسان مثله بحسن اختيار وسلامـة ذوق، لا بمجرَّد نزعات الهوى ونزوات الشهوة؛ فيسعى جهده في ما يقويه ويشدُّ عراه، ويبذل ما في وسعه للمحافظة عليه. متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل والمرأة لا تقتنع نفاسهما بالاختلاط الجسماني وحده بل يصير أعظم همِّهما طلب الائتلاف العقلي والوحدة الروحيِّـة.
إن طبيعة العصر الذي نحن فيه منافرة للاستبداد، معادية للاستعباد، ميالة إلى سوق القوى الإنسانيِّـة في طريق واحد وغاية واحدة.
وليس في إمكان أحد أن ينكر أن الدين الإسلامي قد تحوَّل اليوم عن أصوله الأولى، وأن العلماء والفقهاء — إلاَّ قليلاً ممَنْ أنار الله قلوبهم — قد لعبوا به كما شاءت أهواؤهم حتى صيَّروه سخرية وهزوا، وحقَّت عليهم كلمة الكتاب: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
حتى العرب — تلك الأمَّـة الأميَّة التي ربما صحَّ فيها قول ابن خلدون إنها لا تصلح للمدنية أبدًا — اندفعت بقوَّة ذلك التيار وعامل تلك النهضة إلى منافسة مواطنيهم في خدمة العلم،
ولمَّا ساد الجهل على عقولهم، وتراكمت ظلماته في أذهانهم لم يعد في استطاعتهم أن يفهموا حقيقة الدين؛ وشعروا أن ضعفهم لا يسمح لهم بأن يصعدوا إليه بعقولهم فأنزلوه من مكانه الرفيع، ووضعوه مع جهلهم في مستوى واحد، ثمَّ أخذوا يتصرَّفون فيه تصرُّف الغبي الأحمق؛ والجاهل كالطفل يغترُّ بنفسه، ويعجب بمعارفه، ويؤذي نفسه والناس معه.
قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً والذي يقارن بين التعريف الأول الذي فاض من علم الفقهاء علينا، والتعريف الثاني الذي نزل من عند الله يرى بنفسه إلى أي درجة وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا؛
وعلى كل حال فكل امرأة تحترم نفسها تتألم إذا رأت زوجها ارتبط بامرأة أخرى؛
وإن قيل إن التجارب دلَّت على إمكان الجمع بين امرأتين أو أكثر مع ظهور رضاء كل منهنَّ بحالتها؛ فالجواب عنه من وجهين: الأوَّل أن ما يُدَّعى من رضا كل منهنَّ بحالها فليس بصحيح إلاَّ في بعض أفراد نادرة لا حكم لها في تقدير حال أمَّـة، وإن وقائع المنازعات بين النساء وأزواجهنَّ والجنايات التي تقعُ بينهم مما لا يكاد يُحصَى، وهو شاهد على أن تعدُّد الزوجات مثار للنزاع بينهنَّ وبين ضرائرهن وبين أزواجهن، ومصدر لشقاء الأهل والأقارب، فمَنْ يدَّعي أن نساءنا يرضين بمشاركتهنَّ في أزواجهنَّ ويعشن مع ذلك باطمئنان قلب وراحة بال فهو غير عارف بما عليه حالة النساء في البيوت.
ولا يُعذَر رجل يتزوَّج أكثر من امرأة، اللهم إلاَّ في حالة الضرورة المطلقة؛ كأن أُصِيبت امرأته الأولى بمرض مزمن لا يسمح لها بتأدية حقوق الزوجية. أقول ذلك ولا أحبُّ أن يتزوَّج الرجل بامرأة أخرى حتى في هذه الحالة وأمثالها؛ حيث لا ذنب للمرأة فيها. والمروءة تقضي أن يتحمَّل الرجل ما تُصَابُ به امرأته من العلل، كما يرى من الواجب أن تتحمَّل هي ما عساه كان يُصَابُ به.
أمَّا في غير هذه الأحوال فلا أرى تعدُّد الزوجات إلاَّ حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية؛ وهو علامـة تدلُّ على فساد الأخلاق، واختلال الحواس، وشره في طلب اللذائذ.
نعم إن من أماني الأمم الصالحة أن تكون عقدة الزواج عندها عقدة لا تنحلُّ إلاَّّ بالموت، ولكن مما تجب مراعاته أن الصبر على عشرة مَنْ لا تمكن معاشرته فوق طاقة البشر.
وإنما مرادنا أن اللفظ لا يجب الالتفات إليه في الأعمال الشرعية إلاَّ من جهة كونه دليلاً على النيَّـة؛ فينتج من ذلك أنه يجب أن يفهم أن الطلاق إنما هو عمل يُقصَدُ به رفع قيد الزواج، وهذا يفرض حتمًا وجود نية حقيقية عند الزوج وإرادة واضحة في أنه إنما يريد الانفصال من زوجته. لا أن يفهم كما فهمه الفقهاء وصرَّحوا به في كتبهم أن الطلاق هو التلفُّظ بحروف (ط ل ا ق).
نحن في زمان ألف الرجال فيه الهذر بألفاظ الطلاق فجعلوا عصم نسائهم كأنها لعب في أيديهم يتصرَّفون فيها كيف يشاءون، ولا يرعون للشرع حرمة ولا للعشرة حقًا؛
ومن الغني عن البيان أن المرأة إذا ترقَّت وشعرت بجميع ما لها من الحقوق؛ فإنها لا تقبل أن تُعامَل بطرق القسوة والإهانة التي تُعامَلُ بها وهي جاهلة،
ولمَّا كان تخويل الطلاق للنساء مما تقتضيه العدالة والإنسانية لشدَّة الظلم الواقع عليهنَّ من فئة غير قليلة من الرجال لم تتحلَ أرواحهم بالوجدانات الإنسانيِّـة السليمة كان لي الأمل الشديد في أن يحرِّك صوتي الضعيف همَّة كلِّ رجل محبٍّ للحق من أبناء وطني خصوصًا من أولياء الأمور إلى إغاثة هؤلاء الضعيفات المقهورات الصابرات.
إن من الغفلة بل من أسباب الشقاء أن تكون شئوننا في حياتنا قائمة بعوائد لا نفهم أسبابها، ولا ندرك آثارها في أحوالنا بل إنما نتمسَّك بها؛ لأنها جاءت إلينا ممَنْ سلفنا، وورثناها عمَنْ تقدَّمنا، وذلك كل ما فيها من الحسن عندنا.
أمَّا التزامنا بما وجدنا عليه آباءنا، وعدم الخروج عن الدائرة التي رسموها لأنفسهم فهو القضاء على الأمَّـة الإسلاميَّـة بجمود القرائح، وتقييد الأرجل، وغلِّ الأيدي عن كل عمل تحفظ به كونها، وتدافع به عن وجودها، وتتقدَّم به في سبيل سعادتها. بل قد يكون قضاء عليها بالمحو والاضمحلال.