More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وهل يدرك الناس يومًا أنّ سجلّاتهم ليست سوى كتابة على الماء، وأنّ لا سجلّ يدوم إلّا سجلّ الكون الرهيب حيث لا ينطلق صوت، ولا تُذرف دمعة، ولا تصعد زفرة، ولا يولد فكر، ولا تُلفظ كلمة، ولا تتحرّك شهوة إلّا تنطبع على صفحاته الأبديّة؟ هنالك لا أسماء ولا ألقاب، ولا أنساب، ولا رتب، بل أعمال وأفكار وعواطف لا غير. متشابهة ولكنّها مختلفة، ومتّحدة ولكنّها منفصلة. ومدوّنو السجلّ الأعظم يميّزون بين هذه وتلك نظير ما يميّز الأثريّ الماهر بين خطوط إبهامي وخطوط إبهام سواي.
قناعة الجسد فضيلة. أمّـا قناعة الروح فجريمة.
لكنّ شرّ الحرب الأكبر هو في قتلها الروح قبل الجسد؛ بتحويلها قوى الإنسان عن عدوّ في نفسه إلى عدوّ خارج عنه. وما من عدوّ للإنسان غير نفسه.
والذي يتفوّق في إزهاق الأرواح، وتمزيق القلوب، وإتلاف خيرات الأرض هو الذي تُغدق عليه الحرب أمجادها. فتُجلسه على منصّة الشرف، وتُثقل صدره بالأوسمة، وجيوبه بالمال، وأُذنيه بالتصفيق والتهليل. في حين تمشي المروءة، والصدق، والأمانة، والمحبّة، والسلم، والإيمان بالحياة وعدل الحياة – تمشي في الأزقّـة وليس من يسمع وطء أقدامها، أو يعيرها التفاتة عابرة.
لله ما أسرع النّاس في خلق أسباب الشقاق، وما أبطأهم في خلق أسباب الوفاق! وهل من شيء في عالم النّـاس لم يكن يومًا من الأيّام مدعاة للخصام بين اثنين أو أكثر؟
إنّ أوسع اللغات وأجملها أبسطُها. تلك هي لغة الأفكار والقلوب. أمّـا لغة الشفاه والألسنة فسُـلّـم يصعد به البشر إلى لغة الأفكار والقلوب.
الزائل لا يدوم. والدائم لا يزول. فما هو الدائم في كون كلّـه للزوال؟ إنّـه الزوال بعينه.
«وأيّ عجب في ذلك؟ فالموت موتان: موت ننزله بالغير، وموت ينزله الغير بنا. موت نحيا به، وموت يحيا بنا. حتّى الموت في حاجة إلى الحياة. إذ لا حياة للموت إلّا بالحياة. ولولاها لما كان.»
أنا: «أتكون الحياة في حاجة إلى الموت كذلك؟» رفيقي: «من غير شك. فهي تحيا به. ولولاه لما كانت.
ليس
وهل العيد إلّا أن تستمتع ولو بنعمة واحدة من نعم الوجود التي تفوق العدّ والإحصاء؟ أمّـا نِـعَم الوجود جميعها فمَـنذا يستطيع أن يستوعبها في يوم واحد، أو عام واحد، أو عمر واحد، بل في ألف عمر وعمر؟ إنّها لأكثر من أن تسعها عين أو أُذن أو أنف، أو جيب أو بطن. وأعياد النّاس، مع ذلك، هي أعياد عيون وآذان وأنوف وجيوب وبطون. هي كلّ ما من شأنه أن يصرفهم بقلوبهم وأفكارهم وأجسادهم عن النعمة التي لها يعيّـدون،
بماذا أكافئ الذين زرعوا وحصدوا فأكلت؛ والذين نسجوا وخاطوا فاكتسيت؛ والذين خلقوا الحروف والمطابع والورق فتعلّـمت وقرأت وكتبت؛ والذين زحزحوا ظلمة الليل فاستنرت؛ والذين سيّروا السفن والعجلات فانتقلت من مكان إلى مكان؟